تابعت مؤخرا سلسلة مقالات كتبها مثقفون ومعارضون سابقون للنظام العراقي قبل سقوطه عام 2003. والغريب ان هؤلاء المثقفين والمعارضين انهمكوا في حملة غير مسبوقة بنهش لحم “النظام الجديد” الذي تشكل من قوى المعارضة السابقة بعد “التحرير” اولا و”الاحتلال” لاحقا. المفارقة اللافتة للنظر ان هؤلاء المثقفين وجدوا ان هناك من هو اشطر منهم فزحف على الكعكة وقسمها بالتراضي حينا وبالتساوي حينا اخر وعينك عينك في كل الاحايين. وبعد ان وقع فأس “تحريرهم” فوق رؤوسهم تحول بعضهم في وقت مبكر الى المعارضة اولا والمقاومة لاحقا مع ان من بينهم من جاء زحفا على البطن عند عبور اول زيل اميركي الحدود العراقية. اما قسم اخر منهم فقد ظل لسنوات يضع قدما في البلد الذي يقيم فيه من بلاد الغربة حتى اكتسب جنسيته ولم يتخل عنها ولن يفعل حتى لو تحول كعك السلطة الى بسكويت على طريقة ماري انطوانيت وقدم في الوطن باحثا عن دور ما. وحين اكتشف بعد سنين ان البحث عن دور لم يعد ممكنا اكتفى بالبحث عن وظيفة .. اية وظيفة شريطة ان لاتقل عن مدير عام وقد لاتتعدى المستشار الذي بات يكتفي بشرب “الطلا الاسلامي” بينما الوزير يعربد على راحته. احد هؤلاء المثقفين المعارضين كان صديقي وقد جمعتني به بعد عودته الى الوطن بعد عام 2003 مصادفة غريبة. ففي عام 2005 كنت في دورة المياه في دار الشؤون الثقافية العامة لاجد صديقي الذي “تفارقنا” قبل نحو ربع قرن قد خرج توا من “التواليت” الى المغسلة. نظرت اليه ونظر الي ودون سلام او كلام وكاننا كنا معا ولم نفترق لحظة واحدة منذ اكثر من ربع قرن قلت له .. “هكذا هي المقادير.. بعد ربع قرن نلتقي في “التواليت””.. قال لي هذا هو مكاننا الطبيعي!! خرجنا الى الشمس في حدائق الدار وسالته عن وضعه واسباب عودته .. كان يردد الاسماء التالية ممن كانوا معا في خندق واحد ضد الدكتاتورية بوصفهم زملائه .. اياد علاوي, جلال الطالباني, عدنان المفتي, احمد الجلبي, حامد البياتي, موفق الربيعي, عادل عبد المهدي, باقر الزبيدي وسواهم من قادة العراق الجديد. قال لي ان لديه مواعيد عمل مع قسم من هؤلاء الزعماء بوصفه “زعيما” مثلهم. اختفى صاحبي منذ لقائنا الشهير في دورة المياه وبعد شهور اعلن عن انتحاره فيما بعد رحمه الله. ظهر ان الرجل وهو مثقف بارز “قاص وروائي وكاتب مسرحي” اكتشف ان زملاءه المناضلين باتوا رجال دولة وسلطة والدخول عليهم يتطلب مواعيد وبروتوكولات. ولما لم يقابل ايا منهم عاد “حسيرا اسيرا كسيرا ظمي” وانتحر في شقته المتواضعة في دمشق. البعض ممن يكتبون اليوم عن رجال العهد الجديد ممن خانوا “الزاد والملح” وتنكروا للايام العصيبة وقمم الجبال او عذابات الاهوار و”ايام المزبن واللف” لم ينتحروا بعد جسديا مثلما فعل صديقي الذي بقدر ما مثل انتحاره خسارة لمبدع حقيقي فانه انتصر على ذاته وكل ما راهن عليه. بينما من يحاول اليوم هتك اسرار الماضي ونشر كل انواع الغسيل لمجرد عدم حصوله على دور او وظيفة فانه .. خسر الماضي ولم يربح المستقبل.
[email protected]