23 ديسمبر، 2024 9:13 ص

المثقف كائن سياسي

المثقف كائن سياسي

تلبسته السياسة منذ أيام شبابه ، إقتات على الأشعار اللاهبة ، وألتهم الروايات العظيمة التي تتحدث عن أعظم الأحلام ، وتشبع بأروع الأفلام الخالدة،  شخصيته قلقة ، صاحب مغامرة فكرية وتغييرية يفكر في اللامفكر فيه ، ويتحدث في اللامتحدث فيه،لايقنع بالقليل، سقف طموحاته ليس له حدود، تحولاته الفكرية على رأس كل عقد، لم يحاول أن يلعب يوما دور المثقف التبريري الذي يلمع وجه الواقع القبيح ، أو يلتحق بحارقي البخور لحاشية السلطان مدفوعاً بمصالح شخصية وانتهازية على الرغم من معاصرته لكل العصور .
حين نضج وأستوى حطم سجن الإيديولوجيا وتحرر ، بعد أن عاش سنينا في داخل أسوارها يرى المجتمع والعالم والكون، ويروج لها ويرى فيها الحل الكامل، لأنه مثقف عميق المعرفة ، يمارس النقد البنّاء.
كان بإمكانه أن يخدع الجماهير ، ويبحث عن الشهرة وينتزع إعجابهم وتصفيقهم ، وهي مهمة لاتستدعي امتلاك المعرفة العميقة أو الرؤية المنهجية، ولكن لأنه يكنّ لنفسه وأفكاره أعظم التوقير أبى إمتهانها فيما لم توضع لأجله، ومضى رافعا رأسه في شمم ، مستقيما في إعتدال يعلوه وقار المفكرين البناة.
بنى نفسه بالعرق والدموع ، وجمع أشتات الفكر الوهاج عبر منافذ شتى في رحلة طويلة ، ومعاناة دامية ، تراكماته الفكرية ، وقراءاته المتنوعة خلقت عنده حاسة سياسية نادرا ماتخطىء، أصبح (مثقفا عضويا) على خلاف الصورة الذهنية التي يختزنها الآخرون عنه، فهو لايعيش في برج عاجي ، بعيدا عن واقع مجتمعه ، بل ملتحم مع هموم مواطنيه على إختلاف أنواعها وتعددها.
يحرص على تطوير ذاته بإستمرار ، فهو يلتهم جديد المطابع من كل فن ، ويحاول دائما سبر أغوار الناجحين ، ويتزود بخلاصات تجاربهم شحنا لهمته وتوسيعا لخياراته ، يعشق الكلمات الملهمة والأفكار المحفزة التي تقرب البعيد وتخلق إمكانية الفعل على الرغم من شراسة الظروف.
ذاكرته المعرفية تختزن أفكارا وأسماء متنوعة ، جاد بها آباؤه الفكريين القدماء منهم والمُحدثين ، فيسحره مادبجه (أوباما) في كتابه ( جرأة الأمل) وسمير عطالله في كتابه ( جنرلات الشرق) وأدوراد سعيد في كتابه ( خارج المكان) وهاشم صالح في كتابه ( من الحداثة الى العولمة) والدكتورعبد الخالق عبد الله في كتابه ( حكاية السياسة) وعبد الله علي العليان في كتابه ( حوار الحضارات) والطاهر سعود في كتابه ( التخلف والتنمية في فكر مالك بن نبي) وسيف الدين عبد الفتاح في كتابه ( المجتمع المدني وأبعاده الفكريه) و…..
لذا يحتار محاوروه في تصنيفه ، فتحولاته الفكرية ومراجعاته المعرفية ، تجعله عصيا أن يوضع في خانة تحد من إنطلاقاته ، لذا فهو في ظن من لايعرفه يجمع بين الأضداد ، إذ يتفق مع الإسلاميين في تقدير القيم وأهميتها في الحفاظ على نسيج المجتمع من عواصف العولمة ، ويبدي تخوفه من تغول التراث بأفهامه المحنطة على مكتسبات العصر، ويوافق الليبراليين في توجهاتهم الحديثة، ويؤمن أن الديمقراطية هي أقل أنواع الحكم شرورا ، بشرط توفر البيئة الإجتماعية – الثقافية الحاضنة لإجراءاتها ، يضيق ذرعا بالصراع المفتعل بين الإسلاميين والعلمانيين ، ويدعو الى الحد من تطرف غلاة الطرفين لتسير سفينة الوطن نحو مرافىء الإستقرار والإزدهار.
تأبى عليه روحه القلقة وفكره الموار من الإستقرار بين الكتابة على الورق ، أو تزجية الأوقات بالبحث في عالم الرقم ، وينصت لهاتف داخلي أنك لم تخلق لهذا ، لأنه يؤمن بحتمية ترجمة الأفكار الى واقع ، والخروج من مونولوج الفرد الى حوار الفريق وتكامله.
حين تسود لغة التشاؤم ويتصدر مسوقو التشاؤم الساحة ، يخرج بضاعة الأمل وأسهم التفاؤل ، فيفوح شذاها ليستنشقه المشككون بفجر جديد ، لأنه يؤمن بيقين أن في حضن الظلام ، شمس ساطعة .
السياسة في قاموسه تعني فن التعايش مع المتغيرات ، لذا يكره الآراء الحدية والتصنيفات القاطعة ، وينأى بنفسه عن هدم جسور التواصل والإنفتاح ، ويحرص أن يكون على مقربة من الجميع ، مبديا الرأي الآخر، والإتجاه الغائب، مقدما مصلحة الوطن فوق كل إعتبار.
يؤمن بأهمية التراكمات والإستعدادات الطويلة كمنتج للحظ السياسي حين تلتقي مع الفرصة ، إذ السياسي في النهاية هو حزمة من المعطيات (النفسية ، الفكرية، الخبرة والمهارات) يأتي على رأسها الفكر الثر والأداء الرصين والعقلية الإستيعابية التي تتسع لكل بني الوطن ، وهو مايتعذر الإيفاء به على غير المثقف الكائن السياسي.
إضاءة: ان كل البشر مثقفون بمعنى من المعاني ، ولكنهم لا يملكون الوظيفة الاجتماعية للمثقفين ، وهي وظيفة لا يمتلكها الا اصحاب الكفاءات الفكرية العالية الذين يمكنهم التأثير في الناس . (أنطونيو جرامشي، فيلسوف إيطالي، 1891- 1937)