يمثل المثقف في اي مجتمع، الضمير النقدي بقدرته على إعادة صياغة الوعي الجمعي عبر إنتاج المعرفة والفن. وفي العراق، مرَّ المثقف خلال العقود الأخيرة بمرحلتين حاسمتين: الأولى في ظل النظام السلطوي (1979- 2003)، والثانية في مرحلة ما بعد التغيير السياسي عام 2003. ورغم اختلاف السياقات، فإن المحصلة النهائية تمثلت في تهميش العقل النقدي وإضعاف البنية الثقافية، وإن بوسائل وأدوات مختلفة.
في النظام السابق، خضعت الثقافة لمركزية الدولة واحتكار الخطاب، إذ اعتُبرت امتداداً للدعاية السياسية. فتم تسخير الأدب والفن لتثبيت شرعية السلطة وتمجيد الحروب والزعيم. وفرضَت المؤسسة الرسمية قيوداً رسمية على الإنتاج الفكري، وأُخضعت النصوص الأدبية والفنية لمراجعة لجان رقابية. هكذا انقسم المثقفون بين من اندمجوا في خطاب السلطة، ومن اختاروا الصمت أو المنفى. ورغم القبضة الحديدية، برزت نصوص إبداعية حاولت الالتفاف على الرقابة من خلال الرمزية واللغة المجازية، مما حافظ على حد أدنى من الحيوية الثقافية.
امَّا بعد 2003 فلم تسقط تمائيل النظام وحدها، بل انهارت معها سرديات كاملة كان المثقف العراقي يعيش بينها، يعارضها أو يتواطأ أو يلتف حولها بحذر. سقوط الدولة فتح باباً واسعاً على محنة جديدة معقدة وعميقة: ثقافة مأزومة في مجتمع ممزق، تمثلت بواحدة من أبرز أوجه التدهور الذي لحق ببنية المجتمع العراقي، ليس على مستوى السياسة والاقتصاد فحسب، بل في جوهر الهوية الحضارية والمعرفية.
لقد خرج المثقف العراقي من سرداب الخوف، لكن لم يجد ساحة يستقر فيها. فقد كانت الساحة ملغومة؛ بالكراهية، بالانقسام، بالطوائف، بالعنف غير المرئي أولاً، ثم المسلح علناً. ذهب المثقف الذي كان يتقن لعبة التلميح تحت ظل الدكتاتور، وولد مثقف جديد، لكن دون هوية واضحة، دون مرآة يرى فيها وجهه، ودون مركز يستند إليه.
في البداية، كان الحلم كبيراً. مقاهي بغداد عادت تنبض، الصحف انفجرت، الروايات انتشرت، والجميع كتب كأنه يريد أن يعوّض سنوات الصمت. لكن هذا الفيض لم يكن منظَّماً. لا برنامج ثقافي وطني، لا مشروع جمعي، لا مؤسسة تحتضن، لا دولة حتى.. فقط دولة أحزاب وميليشيات، وكل حزب يجرّ مثقفيه كما تُسحب أوراق اللعب. فبات المثقف، الذي كان يخاف السلطة، يخاف الجماعة، الطائفة، القاتل المجهول.
وفي ظل فراغ مؤسسي هيمنت الفوضى، وتركت المؤسسات الثقافية الرسمية في حالة من الشلل، خاصة بعد حل وزارة الإعلام وإضعاف دور وزارة الثقافة. وتعرضت المكتبات العامة ودور النشر والمتاحف والمسارح للإهمال أو النهب، وأصبحت الكثير من دور الثقافة مهجورة أو تحوَّلت إلى مواقع حزبية طائفية أو دينية وظَّفت الثقافة لخدمة أجندانها الخاصة. ونُهب المتحف الوطني العراقي، وسرقت الآف القطع الأثرية التي تمثل ذاكرة العراق الحضارية منذ الآف السنين، وتكررت النكبة مع مكتبة الأوقاف والمكتبة الوطنية، حيث أُحرقت الآف المخطوطات والكتب النادرة.
وبعد الاحتلال، تدهور بشدة النظام التعليمي، أحد أعمدة التكوين الثقافي، الجامعات فقدت كفاءاتها، والبرامج الثقافية في المدارس غابت. الثقافة الشعبية غزتها أنماط استهلاكية ودعائية سطحية، فيما تراجعت مكانة الكتاب والمسرح لصالح الطائفية ومواقع التواصل غير الموجهة. رغم كل ذلك، ظهرت مبادرات فردية ومشاريع ثقافية صغيرة تعكس روح التحدي، سواء من داخل العراق أو من الشتات العراقي. مهرجانات، معارض كتب، إنتاجات سينمائية مستقلة، ومحاولات لإحياء التراث عبر المبادرات الشبابية. لكنها ظلت محدودة ومهددة في بيئة غير مستقرة.
وفي ظل غياب مشروع وطني، تمددت الخرافة والطقوسية على حساب العقل النقدي، وأزيح المثقف التنويري لصالح خطاب تعبوي أو ديني، ما أدى إلى اضطرار الآف المثقفين إلى الهجرة أو الانسحاب من المشهد نتيجة انعدام الأمن وغياب الدعم المؤسسي. ومن بقي واجه عزلة أو ارتهاناً للإعلام الموجَّه.
ورغم أن السقوط أتاح حرية التعبير في الظاهر، فإن هذه الحرية سرعان ما قُمعت بأساليب جديدة، أبرزها سطوة الميليشيات والجماعات الدينية المسلحة التي فرضت رقابة غير رسمية على الفنون، الأدب، والموسيقى. تم تهديد كتَّاب، اغتيال آخرين، ونُفي مثقفون كثيرون.
في عهد صدام حسين، كان المثقف محكوماً بقبضة السلطة، لكنه ظلَّ جزءاً من مشروع ثقافي تديره الدولة، وإن كان مؤدلجاً. كانت الثقافة موجودة شكلاً، لكن محتواها مُصادر. لكن بعد 2003 ، تلاشت قبضة الدولة، لكن غاب المشروع الثقافي الوطني، فبات المثقف أمام فراغ مؤسسي وفوضى اجتماعية ودينية وإعلامية. وفي الحالتين، جرى تعطيل الوظيفة النقدية للثقافة؛ مرة بالرقابة السلطوية، ومرة بالتهميش والفوضى.
قبل 2003، رغم القمع السياسي، كان هناك نوع من الوحدة القومية المفروضة قسراً. بعد السقوط، تفجرت الهويات الفرعية: طائفية، إثنية، قبلية. انعكس هذا على الثقافة، حيث انقسمت الصحف، المهرجانات، والمنتديات بحسب الولاءات المذهبية أو السياسية، وفُقدت المرجعية الوطنية الجامعة.
وبسبب التهديدات الأمنية وسوء الأوضاع المعيشية، هاجر كثير من المثقفين والفنانين والأكاديميين. ولم يعد كثير من المثقفين العراقيين في الخارج إلى البلاد، إمَّا بسبب انعدام الأمان أو خيبة الأمل من الواقع السياسي. بل إن بعض من عاد اضطر إلى المغادرة مجدداً . بذلك بقي جزء كبير من “العقل الثقافي العراقي” مشتَّتاً بين المنافي، ما خلق فجوة بين الداخل والخارج.
ومع سقوط النظام، المنفى لم ينته. كثير من الأسماء اللامعة بقيت في المنافي القديمة، أو صنعت منفى جديداً داخل العراق، يعيش في بيته كأنه في منفى داخلي. والمدينة التي كانت تحلم بأن تكون حاضنة للفكر، صارت مطوَّقة بالحواجز والسلاح والمخبرين الجدد.
لم يكن خروج المثقفين العراقيين من وطنهم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي خروجاً طوعياً أو مجرد هجرة طبيعية بحثاً عن حياة أفضل، بل كان في الغالب هروباً من قبضة نظام شمولي أحكم سيطرته على تفاصيل الحياة اليومية، وقام بتسخير الثقافة لخدمة دعايته الحزبية، محوّلاً الكلمة إلى أداة للتطبيل والتبرير، لا إلى وسيلة نقد وإبداع.
في الخارج وجد المثقف العراقي نفسه أمام مأزق مزدوج. فمن جهة، لم يعد قادراً على التعبير بحرية داخل العراق، حيث كان مجرد بيت شعر أو مقالة نقدية أو حتى موقف شخصي قد يكلفه حياته. ومن جهة أخرى، فإن وجوده في المنافي جعله في عزلة مضاعفة؛ إذ كان ملاحقاً من أجهزة النظام، وفي الوقت نفسه يعيش في مجتمعات لا تفهم تماماً تعقيدات وضعه، مما خلق شعوراً دائماً بالاغتراب.
لقد كان مزاج المثقفين في العراق دوماً مرآة لحالة البلاد، متقلباً بين الأمل ولانكسار، بين الحلم والخذلان. وهكذا أصبحت “الثقافة العراقية” تعيش في المنافي أكثر مما في الداخل. ومن بقي في الداخل عانى من العزلة أو اضطر إلى التكيّف مع الواقع الجديد بثمن باهظ.
لقد شكَّل النظام العراقي آنذاك آلة قمع ثقافية، فكل من لم ينخرط في جوقة التمجيد صار متهماً بالخيانة أو الارتباط بالمعارضة. وهكذا انقسم المثقفون إلى ثلاثة أصناف:
المستسلمون للبقاء في الداخل والكتابة ضمن حدود المسموح، وغالباً في مديح السلطة. والمعارضون في الداخل الذين عاشوا في الخفاء أو دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم. والمهجرون في الخارج الذين وجدوا أنفسهم أمام مسؤولية عسيرة: كيف يحافظون على هويتهم الثقافية وهم بعيدون، وكيف يخاطبون شعباً ما زال يعيش تحت سطوة الرقيب؟
وفي المنافي، أنشأ هؤلاء المثقفون مجلات وندوات وبيوت ثقافية، وحاولوا أن يكونوا صوتاً بديلاً. لكن المأساة أن إنتاجهم ظل محدود الانتشار داخل العراق بسبب الرقابة الصارمة، وبسبب خوف الناس من حيازة أي مادة تُعتبر “معارضة”.
ومع ذلك، يمكن القول إن المثقف العراقي في الخارج لعب دوراً مهماً في حفظ الذاكرة، وتوثيق جرائم النظام، وفضح صورته أمام الرأي العام العالمي. كما أنه ظل محتفظاً بشعلة النقد والتجديد الفكري، حتى وإن عاش في عزلة مادية ونفسية.
لقد ظل هذا السؤال مطروحاً حتى سقوط النظام في 2003، حين عاد بعض المثقفين إلى العراق ليجدوا وطناً ممزقَّاً وحياة ثقافية لم تبرأ من إرث القمع، فيما فضَّل آخرون البقاء في المنافي وقد صاروا غرباء حتى عن الداخل الذي حلموا بتحريره.
اليوم، بدلاً من أن ينهض العقل النقدي، وجد المجتمع نفسه أمام طوفان من الخرافات والشعوذة والطقوس الدينية من أي ضابط. هذا المناخ أضعف مكانة الفكر التنويري، وحاصر الخطاب الثقافي الحديث، لتتحول الساحة إلى فضاء تتسيد فيه الذاكرة الطائفية على حساب العقلانية.
قبل 2003، كان المثقف العراقي واقفاً تحت رقابة صارمة من الدولة، حيث كانت حرية التعبير محدودة، والمثقف أمَّا مروجاً لخطاب السلطة أو ملاحقاً ومقموعاً. بعد السقوط، حصل انفجار في حرية التعبير، لكن هذا التحرر ترافق مع فوضى ثقافية، غياب مؤسسة واضحة ترعى الثقافة، وتضخم في الخطاب الطائفي والإثني، مما همَّش المشروع الثقافي الوطني الجامع. وأصبح المشهد الثقافي مجزَّأً، إذ انجذب كثير من المثقفين نحو هويات فرعية (طائفية، قومية، مناطقية)، في ظل انهيار فكرة الدولة المركزية.
تراجع بذلك دور المثقف “العضوي” الجامع، وظهرت موجة من “المثقفين الملتزمين طائفياً”، ما قوَّض إمكانية إنتاج خطاب ثقافي وطني عابِر للطوائف. وأصبح التمويل الثقافي يعتمد على مصادر حزبية أو منظمات أجنبية، مما خلق بيئة تشوبها التبعية أو التسيس، وحوَّل بعض المثقفين إلى أدوات في مشاريع غير وطنية.
ومع توسع الإنترنت وانتشار الفضائيات بعد 2003، ظهرت طبقة جديدة من المثقفين ممن يعتمدون على الإعلام والمنصات الرقمية. هؤلاء لم يكونوا دائماً مرتبطين بالمؤسسات الثقافية الكلاسيكية (الأتحادات والنقابات)، لكنهم اثَّروا بقوة على الرأي العام، أحياناً بطريقة مباشرة أو شعبوية.
وبرزت أصوات جديدة، لكن دون مشروع ثقافي واضح. منصات كثيرة تحولت إلى أدوات بيد أحزاب وجهات سياسية، ما ساهم في مزيد من التشتت الثقافي وفقدان الهوية الوطنية الجامعة. المثقف هنا وجد نفسه محاصراً بين سلطة الإعلام الموجه وسلطة الشارع المنفعل والرقابة الثقيلة. وجد نفسه فجأة أمام مشهد متصدّع تسوده الفوضى، وتتحكم به قوى سياسية ودينية ومصالح خارجية، ما جعل صوته يتراجع أمام ضجيج الطوائف والانقسامات.
رغم ذلك، برز دور المثقف العراقي في حركات الاحتجاج، لا سيما في تظاهرات 2011 و 2015 ثم انتفاضة تشرين 2019، حيث لعب دوراً في صياغة الشعارات، وفضح الفساد، والمطالبة باستعادة الدولة المدنية. كثير من الشعراء والكتاب والفنانين نزلوا إلى الساحات، لكنهم اصطدموا بقمع الدولة أو ضعف التأثير السياسي الفعلي.
اليوم، لا يمكن استعادة الدور الحقيقي للمثقف العراقي إلاَّ عبر مسارات متكاملة تتجاوز الشعارات العامة. أول هذه المسارات هو بناء مؤسسات ثقافية مستقلة، لا تخضع للمحاصصة السياسية ولا تتحول إلى مكاتب دعائية للأحزاب، بل تكون منصات حرة لإنتاج الفكر والإبداع وتناول المعرفة. وثانياً يتمثل في حماية حرية التعبير، ليس فقط عبر القوانين المكتوبة بل من خلال توفير بيئة آمنة تضمن للمثقف حرية الرأي والنقد من دون خوف من الملاحقة أو التهديد، مع تأمين الأمن الشخصي للمبدعين الذين غالباً ما يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع قوى متنفذة.
أما ثالث هذه المسارات فهو ترسيخ قيم العقلانية والتنوير، بما يعني مواجهة المدّ المتصاعد للخرافة والشعبوية التي تسلب المجتمع قدرنه على التفكير النقدي، وذلك عبر التعليم والإعلام والفنون. وأخيراً، لا يمكن للمشروع الثقافي أن يحقق غايته ما لم يرتبط بمشروع وطني شامل، يتجاوز الانقسامات الضيقة ويعيد إنتاج هوية عراقية جامعة، تستلهم تنوع المجتمع وتاريخه وتفتح آفاقاً لمستقبل أكثر انفتاحاً وعدلاً.