إذا كانت لا تزال الجدلية قائمة حول مفهوم المثقف، بين من يراه مؤثرًا في المجتمع بالفكر والمعرفة، ومن يعتبره قوة نقدية تسعى لتحليل وتغيير الواقع، أو من يصفه بمفكك للهياكل الثقافية السائدة، فإن المثقف في نظر معظم المفكرين ليس مجرد صاحب معرفة، بل هو من يحفز التفكير المستقل والنقدي.
غير أن هذه الجدلية تأخذ شكلاً أكثر تعقيدًا عندما نحاول تصنيف الكاتب العراقي (حسين سعدون الحيدري) هل هو مثقف ومفكر أم مجرد ذاكرة تخزينية بشرية؟ فالقابلية المدهشة التي يمتلكها الحيدري في الحفظ وإيراد الإجابات الدقيقة مع ذكر مصادرها، تظهر بوضوح عند أي سؤال يُطرح عليه، حيث يذكر رقم الصفحة، وسنة الطبع، وحتى سطر الاقتباس من أي كتاب ولأي كاتب.
ما يزيد من صعوبة هذا التصنيف هو الواقع المتردي الذي يعيشه العراق في مجال حرية التعبير والفكر، لاسيما في ظل غياب تام للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، ووسط ساحة ثقافية يتصدرها خطاب فوضوي من المثقفين المزيفين في مجتمع يشهد تراجعًا ملحوظًا في معدلات القراءة. فقد احتل العراق المرتبة 96 عالميًا من أصل 102 دولة في عام 2024، بمعدل 2.77 كتابًا سنويًا للشخص الواحد، أي ما يعادل 64 ساعة قراءة سنويًا. في حين أشارت تقارير أخرى إلى أن نسبة الأمية بين الشباب العراقي (الفئة العمرية 15-29 سنة) تبلغ 8.3%، حيث لا يجيد 6.5% من الذكور و10.2% من الإناث القراءة والكتابة.
وهذا ما يدفعنا إلى ملاحظة مهمة أن الاقتباس والاستشهاد الحرفي قد يكون استراتيجية يتبعها الحيدري كدرعٍ واقٍ من الهجوم والتكفير والهرطقة، خاصة مع بعض مواقفه السابقة التي أثارت الجدل اذ سبق وواجه الحيدري حملات شرسة بعد طرحه قضايا اعتُبرت ثوابت مقدسة من قبل بعض المتعصبين ورجال الدين، وصلت حد إلغاء استضافته في إحدى الجامعات على حد قوله في احدى المقابلات.
لكن سواء كانت هذه استراتيجية ذكية للتعامل مع البيئة الفكرية الصعبة أم دلالة على نموذج المثقف الحِفظي، فإن الحيدري يبقى ظاهرة ثقافية فريدة استطاعت تحقيق حضور متميز، ليس فقط محليًا، بل على مستوى العالم العربي حيث يحظى بدعوات مستمرة للمشاركة في الندوات والمؤتمرات الفكرية العربية، ويُسهم بأفكاره في تطوير الفكر العربي وتحفيز الشباب على القراءة والنقاش النقدي.
وهذا ما يدعوا الى اعتبار أن الحيدري يمثل تجربة فكرية مهمة ينبغي دعمها ومواكبته لتجاوز الجمود الثقافي الذي نعيشه، في وقت نشهد تراجع الثقافة والفكر نتيجة جملة سياسات طائفية ومتغيرات أمنية واجتماعية وسياسات ممنهجة أدت إلى غياب المثقف الفاعل، وسط هيمنة شخصيات على المشهد الثقافي العراقي تدّعي الفكر والثقافة يقتصر دورها على ممارسة طقوس التهجم والشتائم لمفكرين مثل علي الوردي وغيره من المفكرين دون تقديم منتجات فكرية او ثقافية وفي أحسن الأحوال تمارس هذه الشخصيات محاولات لتأطير بعض العقد النفسية والاجتماعية والأجندة السياسية على شكل طروحات ثقافية وفكرية تصدّر الثقافة الشعبوية عبر عدد من القنوات الفضائية.
هذا الواقع المؤسف هو ما يعزز من أهمية تجربة الحيدري باعتباره مثقفا قادر على تجاوز هذه الازمة والحد من تراجع الفكر هو الانتقال من النمط التقليدي إلى التفاعل المباشر مع المجتمع عبر توظيف منصاته في مواقع التواصل الاجتماعي أو مكتبته البسيطة في شارع المتنبي، مسهمًا بذلك في كسر نمطية المثقف المعزول في برج عاجي ومستقطبًا الكثير من الشباب الذين يسعون إلى الارتقاء بمستواهم الثقافي والفكري ومسهمًا بشكل أكبر في تعزيز حرية التعبير والتشجيع على القراءة ومشاركة المثقفين في إيجاد حلول لمشكلات المجتمع.