“إني لست عديم الإيمان حتى أتصور أن الله قد تنازل عن الكون، وترك مسؤوليته للشياطين، لذا لا أصدق الحُجج التي يسوقها ملك إنكلترا، ويُصلي من أجلها؛ طالباً العون من السماء لتَنصُره علينا”. تلك مقولة نادى بها المفكر الثوري الإنكليزي توماس بين Thomas Paine (١٧٣٧ – ١٨٠٩م)، عن دور المثقف وقدرته على مجابهة المنظومة التسلطية داخل الدولة والمجتمع، فهو (المثقف) صاحب موقف ملتزم ومنحاز إلى قيم العدل والحق، قبل أن يكون عالماً أو متخصصاً بأحد فروع العلم والحياة.
ففي عصر الثورة كل شيء يعود إلى طبيعته، ويصبح واضحاً وضوح الشمس؛ لأن الثورة تمثل اختباراً نفسياً وأخلاقياً لكل الأطراف فيها، وخاصة المثقف لأنه ممثل لضمير الشعب والجماهير العامة ويجسد قيمهم ولا يساوم ولا يفرط بها، فهو مقياس نجاح الثورة أو فشلها.
هل قال المثقف السوري كلمته!؟
عند وصول حزب البعث إلى السلطة في سورية، خَفَّ صوت المثقف الذي صاغ البناء السياسي بعد الاستقلال. وفي تلك الأثناء صدر من فرنسا، كتاب برهان غليون “بيان من أجل الديمقراطية” ، ليُعلن عن مرحلة جديدة من حراك الفكر الديموقراطي للمثقف السوري، ولكن انتصار السُلطة على الإخوان المسلمين، وعلى قوى التغيير اليسارية؛ جعل المثقف السوري يخلد إلى مملكة الصمت، وخير مُعبر عن ضبابية المشهد آنذاك رسالةُ المفكر السوري سعد الله ونوس إلى الناقدة المصرية عَبلة الرويني: “سأعود إلى قوقعتي وحياتي اليومية، وأوهاميِ التي أَنسُجها وحيداً فيِ غرفتيِ وبين كُتبيِ، وهناك يبدو للعالم كثافةً، وتتخذ الثقافة بُعداً مصيرياً ، أما هنا فلا شيءِ إلا الكذب، والفساد، ومَوتُ الأمل .. إننا نحن المُثقَّفين سُلطة ظل شاغلها الأساسي أن تُصبح فعلية… إننا قَفْا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، يا للخيبة! ويا للحزن!”.
وشكَّل الحِراكُ الشعبي في سورية (مارس/ آذار ٢٠١١) تحدياً مختلفاً للمثقف السوري، ووضع المثقفين السوريين أمام امتحان نوعي لاختبار مدى عمق خيارهم الإنساني وعمق التزامهم بمعاناة أهلهم، وأعادت فرزهم بصورة أكثر صلابةً وحسماً، بين من أعلن انحيازه التام إلى الحراك الثوري ودعم مطالب الشعب المشروعة في الحرية وبناء الدولة الديمقراطية، وبين من لا يزال يبحث عن ذريعة يستند إليها لتبرير انهزاميته واستمرار سلبيته وتردده في اتخاذ موقف واضح، وبين من زاد التصاقه بالسلطة ووقف مع أهل الحُكم وعمل على تسويغ حججهم عن المؤامرة والعصابات المسلحة وجماعات أصولية تتحين الفرصة للانقضاض على الدولة وتدمير المجتمع!
ناصبت شريحة عريضة من أدعياء الثقافة السوريين العداء للثورة من الشيخي إلى العلماني من أحمد حسون إلى الأديب نبيل فياض بتُهمة التآمر والسلفية، وهناك فئات أخرى من المثقفين توزعت مواقفها بين الصمت، إلى موقف نزع إلى عدم القطيعة مع النظام والبحث عن تسوية معه، فنرى الشاعر نزيه أبو عفش وهو الذي يَحتجُ على الثورة بالقول: “فهُم لم يمهلوا النظام السوري للقيام بإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة”، إلا أن شريحة لا بأس بها من المثقفين وقفوا مع حراك الشارع السوري ، ودعموه بشتى الوسائل، واتجهت هذه الفئة إلى محاولة إيجاد طريقة للتغيير الجذري، وظهرت كتاباتُ السوريين من عُمق الحراك، فيسأل الأديب السوري زكريا تامر بسخرية: “هل يَعرفُ الرئيس السُوري الحالي أن الأمهات السُوريات لا يُنجبن الأبناء إلا من أجل أن يُتابع أعوانه قَتلهم؛ تأسيساً لجمهورية القُبور؟”.
أحدثت مشاركة الفنانين أثراً بالغاً في حراك الشارع السوري ، وهؤلاء تعرضوا منذ البداية للتشهير والتهديد وركبوا المخاطر، وكانت أول مشاركة لهم بشكل علني مع إصدار بيان إنساني دُعي “بيان الحليب”، والذي أطلقته الكاتبة السورية ريما فليحان عبر صفحتها الشخصية على فيسبوك، ووقَّع عليه 1200 مثقف سوري، وطالبوا السُلطة بإدخال الغذاء والدواء لأطفال درعا، وجرى توقيع البيان في 28 مارس 2011، لكنه قُوبل بالعنف، وبحملة واسعة من التخوين من طرف الإعلام والفنانون المؤيدين للنظام السوري، ورد الفنان زهير عبدالكريم على الموقعين على البيان بالقول: “تفاجأت بهذا البيان الذي لا يليق بفنانون عاشوا في هذا الوطن وكبروا فيه”.
إن العلامة الأبرز لمشاركة الفنانين كانت التظاهرة التي أُطلق عليها “مظاهرة المثقفين” التي اتُفق على خروجها من أمام جامع الحسن، فوجدوا الأمن في انتظارهم، وقام باعتقال 29 فتاة و10 شباب، ومنهم الفنانة مي سكاف ورئيس تحرير مجلة شبابلك إياد شربجي، والأخوان المسرحيان ملص، والموسيقي رامي العاشق، والمخرج نضال حسن ، والمصورة ساشا أيوب، والكاتب فايز سارة ، والممثل فارس الحلو وغيرهم.
كان إجماع المثقفين السوريين على موقف واضح تجلى في توقيع بيان “تجمع فناني ومبدعي سوريا من أجل الحرية” في 27 ديسمبر2011، ونص البيان: “لقد حاول بعضُنا أو كُلنا المقاومة بالفن، وصون حق الرأي … لقد حُوصرت مُخيلة المُبدعين السوريين لعقودٍ طويلة في مؤسسات فاسدة ووزارات فاسدة ونقابات فاسدة … إنَّ فقدانَ المُؤسساتِ شرعيَّتَها الأخلاقية والمِهَنيَّة تَجْعَلُنا نَبْحَثُ عن إنسانيتنا خارج هَذِهِ “الشرعية” المُلطخة بدماء السوريين …، لقد أيقظت حُريُّة الشارع حريّتنا، نحن لا نستطيع إعادةَ شُهدائنا للحياة، لَكِنَّنا نستطيع تَمْجيدَ الحياة بالعملِ يداً بِيَدْ وقَلباً بِقَلْبْ مع ثورة السوريين لبناء وطنٍ جديد”.
هل المثقف السوري خائناً؟
يقول إميل زولا: “إذا سألتني ماذا جِئتَ تفعل في هذا العالم أنا الفنان؟ سأُجيبك: أنا هنا لأعيش بصوتٍ عالٍ”، لذلك لا بد للمثقف أن يتحلى بالشجاعة، وينطق بالكلمة ويواجه الحقيقة ويكون لسان الناس والحكم عنهم.
خيانة المثقّف تعني بكل تأكيد خيانة الشعب والوطن، بعدما خبرنا تبدُّل جلودهم، وبعد أن خبرنا صمتهم بل وتماهيهم مع سياسة الطاغية المستبد، فهؤلاء اكتفوا بالعبارات الخشبية المقولبة التي كانت وما زالت السبب الأساس في هذا المحرقة التي لم تتوقف، فهنا مثال صابر فلحوط، وهو من تربع على عرش مؤسسة الصحافة الحزبية في عهد الأسدين، الأب والابن، كان خلالها الصوت المجلجل، وشهد النتائج الكارثية التي أودت بالشعب والوطن مثله مثل غيره من مثقفي السلطة الذين لم تتوقف أقلامهم ولا ألسنتهم الطويلة، لحظةً واحدة عن الاستمرار في صناعة الأوهام، وقد كبر فلحوط حتى اعتقدنا أنه مات، ولكن ما لبث أن قام من بين الرماد ليُمطرنا بمقالٍ من العيار الثقيل في جريدة البعث بتاريخ ١٢ حزيران/ يونيو ٢٠١٥ يذكر مآثار الأب الخالد ويستشهد بأقواله في التصدي والصمود.
ومثله حال الدكتور جورج جبور أحد أكبر المنظرين الدستوريين في تاريخ سورية الحديث بقوله: “إلى البعثي الأول، والد آخر دستورين عرفتهما سورية”، أما عيسى درويش فيقول: “أن تجلس مع حافظ الأسد هذا يعني أن خاتم سليمان أصبح في إصبعك”، بالطبع القائمة طويلة وليس انتهاءً بعلي عقلة عرسان الذي تربّع في اتحاد الكتاب العرب أكثر من ربع قرن بالتمام والكمال.
تهمة التخلف والإرهاب وأَسلمة المجتمع المتعدد، لعب عليها مثقفو السلطة في سورية عقوداً، والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا فعل هؤلاء لانتشال المجتمع السوري من حالة التخلف التي يتحدثون عنها؟ سوى أنهم كانوا وما يزالون الأدوات التي ساهمت في عملية التجهيل، ما الذي قاموا به بوصفهم المحرك الأساس في عملية التغيير؟ سوى أنهم خذلوا هذا الشعب وتركوه من دون ظهر ثقافي يحميه، ما الذي فعلوه حيال ما قامت به السلطة من تمزيق المجتمع وتخريبه، من خلال سياسة التسلط والإخضاع والتبخيس التي تعرض لها؟
من أبرز المواقف التي أثارت اتجاهاً معادياً للثورة ، موقف الفنان السوري الكبير دريد لحام الذين كان من أكثر المؤثرين في مسرحياته وأعماله الفنية بالشارع السوري قبيل الثورة ( كانت أعماله تحتوي على نقد ضمني للأنظمة المستبدة وتغول الأجهزة الأمنية في حياة الناس)، إلا أنه ومع بداية الحراك الشعبي في سوريا أخذ اتجاهاً مختلفاً، ودعا لإعادة انتخاب الرئيس السوري لدورة رئاسية جديدة ، ودعا في أكثر من لقاء إعلامي إلى ضرورة نزول الجيش السوري إلى الشارع لينشر الأمان حسب قوله، ولا ننسى أن دريد لحام هو الفنان الذي نذر نفسه لقضايا حقوقية قومية ووطنية، فكان يعمل سفيراً للنوايا الحسنة لدى اليونيسيف في سورية والعالم العربي.
ويُشابه موقفه هذا موقف مرتبك للأديب أدونيس ، فأدونيس يُقدم لنا في كتابه الثابت والمتحول مُعنوناً “الثورة حركة شاملة، والهدف الجوهري لكل مثقف ثوري مُبدع، ليس الوصول إلى السلطة، وإنما خَلقُ الوعي الثوري الذي يُحطم البنية اللا ثورية في المجتمع”، فأدونيس شاعر الحريات لم يجد شططاً في مساواة الحِراك الشعبي بالسلطة الحاكمة في سورية، فمن خلال كلامه لوكالة الأنباء الفرنسية يقول: “إن مشكلة تغيير النظام في سورية ثانوية، فيما المُشكلة الجذرية التي نحتاج حَلَّها هي تغيير المجتمع”، وبدل أن يُخاطب الشارع كظهيرٍ ثقافي خاطب الرئيس السوري باعتباره رئيس جمهورية مُنتخب، وأوكل إليه نقل سورية إلى الديموقراطية، ونرى تناقضاً كارثياً في شخصية المثقف الكبير، فهو ينتقد المتظاهرين لخروجهم من المساجد فيما سماه أدلجة الثورة، وهو صاحب المديح اللامتناهي للثورة الإيرانية “الإسلامية” والإمام الخميني!
وفي جهة أخرى بعيدة عن هذا الارتجاف والتردد والنفاق (ما يقال عنه خيانة المثقف)، وقف بجانب الحراك الشعبي عدد من المثقَّفين، من فنانين وصحفيين وكُتاب وموسيقيين وغيرهم، فالمعارضة للنظام السوري امتدت إلى الفن التشكيلي بريشة الفنان السوري علي فرزات، والذي عُرف عنه قُدرته على تشكيل الوقائع بهيئة لوحاتٍ، ويَجنحُ في رسومه نحو السُخرية المريرة، فكان أن أصدر عام 2003 صحيفة الدومري الأسبوعية ، إلا أنه تم إيقافها بقرار حكومي ، وبعد انطلاق الثورة تفاعل مع الحِراك وهو داخل دمشق، فبدأ يَرسُم صُوراً ساخرة لمسؤولين كبار، وطالت رسوماته رأس السلطة “بشار الأسد” في سبعة رسوم كاريكاتورية، وفي أحدها لوحة يظهر فيها الأسد، وقد حزم أمتعته على عِجل ليلحق بسيارة القذافي بسرعة، فكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، وكان أن أوقفته سيارة أمنٍ (وشبيحة) تابعين للنظام بدمشق في 25 أغسطس 2011، كسروا أصابع يديه وسيارته، وقالوا له: “حتى ما تتطاول على أسيادك”، ورداً للجميل رُفعت رُسوم الفنان في مظاهرات المدن والبلدات السورية تضامناً معه، وعندما سُئل فرزات، من أين تُطل اليوم على الثورة السورية؟ ، فأجاب : أُطلُّ على المشهد انطلاقاً من انسجام الفنان مع نفسه.
دفع المثقفون السوريون المعارضون أثماناً باهظة من القتل والخطف والاعتقال على يد النظام السوري ومعه التنظيمات الإجرامية مختلفة المشارب، فالاعتداء على عائلة الموسيقار السوري الأمريكي مالك الجندلي، وتهشيم أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات، واقتلاع عُيون المصور فرزات يحيى جَربان، وقتل السينمائي الشاب باسل شحادة بقذيفة دبابة، والتصفية الجسدية للروائي ابراهيم خريط، ورامي السيد، وبراء البوشي ممن قضوا اغتيالاً، ونهاية الفنان التشكيلي وائل قسطون في السجون تحت التعذيب، ولا ننسى عملية تهجير ألوف المثقفين خارج سورية، هذه هي أثمان للمثقف الذي انحاز للجماهير الثائرة حتى يومنا.
إن رسالة المثقف إلى ناسه ومجتمعه يجب أن تكون شديدة وفاعلة لأن أفكاره تتوهج تحت رماد التخلف مع شعوره بمسؤوليته في تغيير الواقع، لذلك فهو المعني بدراسة التأريخ وتعقيداته بعيون فاحصة، يقول كلمته ببسالة، ويشارك في إثراء الواقع بلا حدود، فهو المعني بالدرجة الأولى بالبحث عن الحقيقة والاحتفاظ بها، كما هو معني بالقيم الجمعية والروحية، تلك التي تتحكم في جماعة وفي مجتمع وفي حضارة، على حد قول عالم الاجتماع الأميركي كوزر (Coser) في كتابه “سوسيولوجيا المثقفين”.
وثورة الحرية والكرامة في سورية هي ثورة تتجاوز الفضاء الثقافي، ثورة تخلق الفرص لتأكيد التزام المثقفين بمعاناة شعبهم وحقوقه، وأيضاً لتحريرهم من حالة الجمود والأسر الأيديولوجي بين ثقافة الاستبداد السلطوية وبين النزعة العقائدية الدوغمائية. إنها ثورة تفتح الآفاق واسعة لإعادة صياغة دور المعرفة في الحياة، وبناء التصورات المرتبطة بالتاريخ الراهن، وقراءة المآلات المحتملة في سياق تطورات الأحداث كما تجري على أرض الواقع لا كما ترسمها العقول والأفكار والتخيلات والأوهام.