18 ديسمبر، 2024 6:25 م

المثقفون : فقهاء بلا لحى

المثقفون : فقهاء بلا لحى

اعترفُ إنّي مدمنٌ، واعجزُ عن علاج حالتي، واخشى أن اتحدث عنها فينفضح أمري أكثر، وانا شخصياً اتجنب الفضائح، ما استطعتُ لهذا سبيلاً، ولكن أنّى لي ان اتجنب وانا اعيش على الكتابة، والكتابة كما تعلمون لعنة، وجسد لا يستقيم الا مع الروح، وروح الكتابة، الفضائح!

في المرات القليلة التي يمكنني الحديث فيها بشيء من عدم الخوف، اشعرُ أنني حطمتُ كل شيء دفعةً واحدة، وانتصرت على كل الهزائم الداخلية والخارجية التي تتغلب عليّ؛ لكني للأسف، اتراجع عن الهَتك، واعود الى حضيرة الكتبة “الوعاظ” الذين ينصبون انفسهم، قيمين على الناس، وفقهاء بلا لحى، ولا مريدين، يطلقون الفتاوى الاخلاقية، التي قلّما يؤمنون بهم.

بعضنا، تتملكه اللعبة، فيصبح بعد حين مجرد واعظ اخلاقي، يمشي خلف ظل السلطة، ويلاحقها كطفلها الصغير، أيّاً كانت هذه السلطة، يلحس القصاع، ويطلق لنفسه العنان في المديح، يعيش على عبارات خشبية، ينثر ويشعر، لا تسمع لهُ صوتاً الا حين تجبره السلطة على الفطام، فيعلو صراخه! فيما الآخر هو مجرد ناقم على الجميع، يحتال على اللغة، فيختار لهُ عنواناً ادبياً، ويصف نفسهُ بالناقد، فيما الحقيقة، هو ليس الا ناقماً على كل شيء، ومن اجل ماذا؟ لا يعرف.

المثقف العراقي يعيش هذه الازمة بشكل عام، فهو اما واعظ سلطوي، او ناقم بشكل مستمر، متذمر بشكل دائم، لعان طعان، الا ما رحم ربي من المثقفين الذين يقفون على اعراف الطرفين!

المثقف ليس استثناءً من واقعنا، هو عراقي بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لا يعيش مسافة عن المجتمع، وليس مرتفعاً بوعيه عنه، كما يدعي، بل هو التعبير الاكثر صراحةً عن ازمة المجتمع، والتطبيق الاكثر دقةً ووضوحاً لقراءة ازمة الفرد العراقي، المنهزم منذُ عقود، بل قل قرون ولا تخش، هو انعكاس لمأساة اجتماعية شديدة، وانكسار عراقي مزمن، وادمان على الخنوع والخوف والترقب منذ أمد طويل.

المثقف العراقي هو الصورة الاكثر وضوحاً عن التصدع الاجتماعي والنفسي الذي اصاب الشخصية العراقية، وهو الأكثر عجزاً عن تفسير ما يراد له ان يفسره، ربما يكون هو الاكثر قدرةً من غيره على الهرب من مواجهة الواقع الى ذات منغلقة، تحيط نفسها بشرنقة الابداع المدعاة، هروباً من مواجهة الاسئلة الكبرى التي لا يجد حلاً امامها سوى الانزلاق في اوحالها، او اشغال النفس في اودية بعيدة عنها.

مناسبة هذا الحديث هي تحول بعض المثقفين العراقيين الى مجرد وعاظ وكهنة يملأون صفحات التواصل الاجتماعي او الصحف بمئات الكلمات الرنانة الطنانة وشعارات فارغة متهرئة.

او تحول البعض منهم الى دعاة فتنة وتقسيم، تخندقوا خلف الطوائف والاحزاب، يقفون امام الحشود في رمي الحجر باتجاه المعسكرات الاخرى، في معركة “التطاحن الديني” المضحكة، المبكية، بل ان بعضهم اصبح وبكل وقاحة داعية لتقسيم البلاد، او داعية لاعادة احتلالها من جديد، فيما يعجز عن قول الحقيقة التي باتت واضحة ومعروفة للجميع، فالحقائق مشخصة دائماً كما يقال.