23 ديسمبر، 2024 8:09 ص

المتنبي العبقري الخالد    

المتنبي العبقري الخالد    

أحمد بن الحسين المولود بالكوفة في سنة 303 هجرية/ 916 م، والمتوفى  بالنعمانية  قرب واسط في سنة354 هجرية / 966م ، حين تقرأ هذا الإسم لا يستوقفك أو يثير إنتباهك ، وإذا مرعلى سمعك لا تُعير له بالا ، ولكن حين تسمع (بأبي الطيب المتنبي) تتداعى على ذهنك مفردات وصور ذهنية لطالما لصقت به ، أشهرها (مالىء الدنيا وشاغل الناس) ، هكذا وصفه إبن رشيق في كتابه العمدة.   كما ستجد نفسك محاصرا بما أثير حول شخصيته من جدل محتدم بين مؤيد له مادح وخصم قادح، ولسان حال المتنبي  يخرق جدار الزمن وينادي في تحدٍ.                 
كم تَطْلُبُونَ لَنَـا عَيْبـاً فيُعجِزُكـمْ                            وَيَكْـرَهُ الله مـا تَأتُـونَ وَالكَـرَمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شَرَفِـي                  أنَـا الثّرَيّـا وَذانِ الشّيـبُ وَالهَـرَمُ
 المتنبي شخصية جدلية جبارة ، لكي نستطيع التعامل معها بموضوعية لابد من قراءتها وفق مفاعيل عصرها وليس محاكمتها حسب مقاسات عصرنا التي لاتشبه بأي حال  معطيات عصره.
وما الدهر إلا من رواة قصائدي                        إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا 
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما                              بشعري أتاك المادحون مرددا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني                   أنا الطائر المحكي والآخر الصدى.
شاعر بعقل ملك ، ظهرت إرهاصات تحليه بسيمياء الملوك ، حين خالط سيف الدولة الحمداني أمير حلب حلب والموصل (303 – 356 هـ) ولما يأس من الوصول الى مبتغاه يمّم وجهه صوب كافور الإخشيدي حاكم مصر 292 – 357 هـ وأظهرت كلماته ماتخفي نفسه من كوامن في قوله :
فأرم بي ما أردت مني فإني                                  أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كان                                  لساني يُرى من الشعراء
إعتداده الكبير بنفسه وثقته بمشروعه ، أهلّه لأن يرى حكام عصره كما هم ، إذ لم تخدعه بهارج السلطة عن رؤية صُغر نفوسهم وتضاؤل طموحاتهم وغياب  بذور المشروع الحضاري عن أولويات إهتماماتهم الضيقة.
المتنبي صاحب رسالة ومشروع تغييري ، كان يريد أن يبتدأ أولى  خطواته حين يلي ولاية من الولايات من التي كانت تمنح للشجعان والقادة البواسل ، وتُمنع عن الشعراء حذرا من تقلباتهم وتحول مزاجهم وتعدد أوديتهم الخيالية ، ولأن المُلك – حسب معطيات عصرهم-  يقوم على معادلات ثابتة وأسس حدية ، تنأى عن التقلب والإضطراب التي لطالما وُصف بها الشعراء.
تخيل لو أن نجم (المتنبي) بزغ في الغرب ، لأرضعوا أطفالهم حكمه الشعرية وصوره الخيالية ، ودرسوا معالم فكره وأساليب سعيه الحثيث من أجل تحقيق طموحاته على الرغم من شراسة خصومه وتعقيدات عصره.
لذا لابد ونحن نحاول إعادة  تعريف (المتنبي) بمناسبة ذكراه السنوية أن نستصحب أننا نقرأ سيرة شاعر مفكر إختلط بالقادة والزعماء والفرسان من أجل نشر فكرته ومشروعه في البناء النهضوي مما إستدعى عداوة الكثيرين له ، مما أنتج  مُخرجات ضبابية أحاطت بشخصيته التي لايتمكن من إبصارها كما هي إلا من أمتلك عينا نقدية تزيح ركام الروايات وتقرأه من خلال إنتاجه الشعري بلا أحكام مسّبقة.
آن لنا أن يمرن كل واحد منّا عضلات مخه على التفكير النقدي كي يتسن لنا إعادة تعريف أعلامنا ، وفق رؤية جديدة ، تليق بالمتنبي وسواه ، كما آن لعقلية الإجترار وأمية التعامل مع مشاهير العظماء أن تتوقف لنبدأ عصرا ثقافيا يمتلك الجرأة  في الطرح والأدوات  المعرفية التي تؤهلنا لإعادة التعريف بهم وفق رؤى أعمق تليق بعصرنا ومعطياته.
من روائع المتنبي:
كفى  بك داء أن ترى الموت شافيا                     وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
إذا غامرت في شرف مروم                               فلا تقنع بما دون النجوم
إذا إعتاد الفتى خوض المنايا                             فأهون مايمر به الوحول
عاش من أجل فكرته ومات في سبيلها ، ولازال الخلق بعد أكثر من ألف عام يختصمون فيه ، إنه المتنبي العبقري الخالد.
إضاءة: أًمشي بين أبيات هوميروس و المتنبي و شكسبير .. أَمشي وأَتعثر كنادلِ مُتدرّب في حفلة ملكية (محمود درويش ، شاعر فلسطيني، 1941 – 2008م ).