23 ديسمبر، 2024 3:17 م

المتناقضات الامريكية U.S. PARADOXES

المتناقضات الامريكية U.S. PARADOXES

لتحقيق عالمية متميزة بالشر، يأخذ الفكر السياسي الامريكي المعاصر عبر ادارة البيت الابيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية معاً، بأسلوب المناورة في العمل السياسي الدولي، والمناورة Maneuver مصطلح ذات مدلول عسكري معروف، الا انه في السياسة متداول على نطاق محدود لانه يوحي بنقيض الاستقامة السلوكية في العمل السياسي، لانها تفصل بين السياسي المبدئي والسياسي المحترف في العمل الواحد.

بيد اننا هنا، نريد شيئاً، انه شيء يوضح لنا كيف تناور السياسة الامريكية في التنظير السوي في مقابل التطبيق السيء بأرادة مسبقة ورغبة تدرك ما يحيطها تماماً، ولكن اداتها في هذا الصدد هي اللغة ليس الا. اللغة السياسية والدبلوماسية المصطلحية بمدلولاتها المختلفة. نقول المختلفة لانها كثيرة ومتشابكة اصلاً، ولاننا سنتعامل مع عدد منتقى منها فقط، وذلك لأهميته النسبية ثم لوضوحه الأكبر، فضلاً على تماسه مع حاجتنا المعاصرة، اما النتيجة فتبقى دائماً واحدة، اذ هي المصلحة الامريكية العليا والدنيا معاً- الانانية والجشع معاً وبحق-.

ولا اخفي شعوراً اخشى ضياعه قبل توثيقه، ويكمن في ان من يتقن فك فقط رموز المناورات الامريكية من خلال اللغة، علمياً وموضوعياً، يستطيع توقع الكثير من دسائس السياسة الامريكية وخبثها حتى تجاه اقرب حلفائها اليها، سواء اكانوا من اعدائنا نحن العرب ام من غير اعدائنا، بل حتى من بين اصدقائنا ومن غير جريرة او سبب.

لقد اصطنع الفكر السياسي الامريكي ممارسات نظرية بلغة مصطلحية لا شك في نظافتها ولكن مقابلاتها التطبيقية المنحرفة والمفبركة غائبة عن كثير من الناس.

واذا تمنى القارئ هنا شيئاً مبكراً فان التناقض والتضاد والكذب والاذى والاختلاف، هو من سمات هذه المناورات السياسية الممنوحة على سلوك السياسيين الامريكان الستراتيجيين والتكتيكيين على قدر متكامل مع الاسف، بل اذا جعلناها على سبيل المقارنة فهي الاعلى مرتبة في السوء في هذا الصدد بين الدول الاستعمارية القديمة، لاننا لا نبرئ مستعمراً منها، قديماً او حديثاً، ولكن نيل صفة الاعلى او الاشد يجعل الاهتمام بما يصدر منه او عنه اكبر تلقائيا وحتمياً على قدر سواء، اذ كشفت الاحداث لنا ان ثمة مفارقة Paradox ترتكبها السياسة الامريكية عبر قنواتها الدبلوماسية في الخلط المتعمد بين مفهوم الوضع Accomplished وبين مفهوم الامر الواقع Status quo الراهن القائم Fact. فالاول يمثل وضعاً قانونياً دستورياً معترفاً به، واقعياً وقانونياً ولكن التالي يمثل انقلاباً على الاول في كل شيء تقريباً، الا انه يمنح المتفحص او المراقب صورة (الوضع القائم) او المراقب صورة (الوضع القائم) عندما ينجح التغيير المفاجئ نجاحاً كاملاً في تثبيت اركانه، فاذا وضعنا المعادلة الرابطة بين الاثنين في الحالة الطبيعية المستقرة فانها تمثل علاقة تضاد او حالة لا تساوي بينهما، اي ان الوضع القائم لا يساوي الامر الواقع، ولكن المناورات السياسية الامريكية تجعل من هذه العلاقة في الممارسات العملية حسب الضرورة والحاجة والرغبة الامريكية وحالة تساو بينهما (الوضع القائم- الامر الواقع)

لذلك تجعل عملية التحول من الاول الى الثاني وبالعكس مسألة طبيعية او تقليدية اعتيادية. اي (الوضع القائم يساوي الامر الواقع) برغم كل الهلاك والدمار والمشاكل التي تنطلق من هذه العلاقة بدقة، مما يزيد الموقف تعقيداً فتعذر الحل السلمي ثم يزداد تعقيداً اكثر فاكثر بالحل غير السلمي.

وهكذا تتضاعف المشاكل الناشئة من اول خطوة مغلوطة ان لم تكن شريرة، اما الحالة المفترضة فهي حالة ما قبل الامر الواقع او الوضع القائم قبل التغيير المفاجئ. فاذا كان التغيير حاصلاً بسبب الحرب فان الحالة القانونية التي كانت سائدة قبل الحرب Stutus ouoante bellum تمثل الحالة الصحيحة بلغة دبلوماسية، بل تتوجب العودة اليها تماماً بعد اتمام شكليات فض النزاع العسكري، فهل تصرف الامريكان بعد احتلالهم الثلاثي مع البريطانيين والاتراك شمالي العراق عام 1991، على هذا الاساس؟ ناهيك عن شكل (الوضع القائم- الامر الواقع) في وجود اسرائيل جنوبي لبنان (قبل الانسحاب) او وجود تركيا في شمالي قبرص وما ترتب على كل منهما.

انهم لا يستطيعون فعلاً منح هذه الحالات صفة سياسية دبلوماسية تستند الى مفهوم قانوني حسب ميثاق الامم المتحدة في اي من فصوله اطلاقاً، واذا ارادوا معالجة هذه الحالات ومثالها فانهم ينتقلون الى مفارقة جديدة ومدروسة ايضاً تجمع بين النزعة العسكرية Militarism والتي تملأ الرأس الامريكي السياسي عبر مئات القواعد العسكرية في القارات الخمس وعبر كل صفوف اسلحة الدمار الشامل والتقليدية وبين مصطلح حل المشاكل بالقوة العسكرية Manu Militari (لاتيني الاصل)، اذ يشير في المجال القانوني الى تنفيذ اي امر او قرار بواسطة القوة العسكرية كما جرى وحدث في نشاط الدبلوماسية الامريكية في مجلس الامن تجاه العراق، الضربات العسكرية التي وجهت اليه سراً وعلناً. وبذلك تختنق السياسة وتموت الدبلوماسية السلمية فيتحول الصراع الى احتلال او نية احتلال تتوجب مقاومته بكل شرف المواطنة شعبياً وجماهيرياً فضلاً على التوجه الرسمي الوطني والقومي والدولي.

لقد صار حل المشاكل بالقوة العسكرية سمة امريكية معاصرة، وهو تعبير مدني عن النزعة العسكرية العدوانية التي تنكرها الولايات المتحدة او تتنكر لها في العلاقات السياسية الدولية المعلنة بل أية حلول رسمية اصبحت خارج التفكير السياسي الامريكي التطبيقي او العملي ولكنها داخل النهج الامريكي (العلائقي). وبذلك السلوك المزدوج صار الامريكان من ذوي الوجهين في التعامل الثنائي مع الآخرين، فضلاً على سياسة المعايير المزدوجة، فاذا حقق التعامل العلائقي السلمي المعلن ما يريده الحل العسكري المستتر، ظهر الامريكان بالوجه الاول وان تعذر ذلك ظهروا بوجههم الثاني بانيابه التكنولوجية والحرب من بعيد، ويبقى الخيار العسكري، في كل حال، هو الخيار الذي يجد، بل وجد، فرصته الكبيرة في الرأس الامريكي الكبير، لمعالجة كل القضايا المعلقة والمتوقعة والمختلفة معاً، اما التنفيذ فلا يأخذ مجراه الا بعد استنفاذ الحجج والذرائع التي يتوسل بها النشاط السياسي او بجانبها الفعل الدبلوماسي، حسب واقع الضرورة والحاجة. لذلك تراهم يثرثرون في الحديث عن السلام واتفاقياته، اما قرارات الحرب والضرب فلا تزيد على فقرات او جمل في بيان مقتضب، بل ربما يصدر البيان بعد

الشروع بالعمل العسكري وبخاصة عندما يتضمن توجيه رشقات صاروخية من اعماق البحار الى الاحياء السكنية في عاصمة العراق كما حدث في1991 و 2003.

هنا تظهر المفارقة الثالثة تسلسلاً واتصالاً معاً، اذ بعد المفارقة السياسية المتعمدة والمفارقة العسكرية المقصودة تأتي المفارقة السايكولوجية –السلوكية- التي تجمع بين شر الثأر وبؤس الانتقام، الثأر الذي يفرزه علم الاجتماع مقابل الـ Retaliation وهو نزعة انتقامية محدودة بحجم الاثر او الاذى المسبب له، يكافئه بالشكل والمقدار –العين بالعين والسن بالسن- ولا خير في ذلك الا ان الانتقام Revenge ليس الثأر المجرد ذاك، انه هو ويزيد عليه قليلاً او كثيراً عند الانتقام، اذ يزيد عليه في الكم والحجم والشكل بالمعنى المجتمعي، اما المغزى النفسي السلوكي فهو نزعة بدائية عند اشهر عالم نفساني عرفه العالم (فرويد) لم يتخل عنها الانسان الا بالتحضر وسادة القضاء، والقانون بين الناس، فبدلاً من ان تأخذ – حقك بيدك- يستحصله لك القضاء، وكلما ابتعدت عن القضاء زدت تخلفاً وبدائية والعكس صحيح، هنا ننتقل من الفرد الى الدولة الامريكية المتحضرة، والاولى في العالم الاول، فنجد الانتقام هذا مآل التعامل بالقوة العسكرية في سياسة الخلط المتعمد بين الوضع القائم والامر الواقع، الانتقام للواحد بآلاف، ولا أسف او تردد او اتعاظ، حتى لو كان المقابل هذا ظالماً معتدياً نال جزاءه بحق وقانون، اذ يكفي انه امريكي يمتاز على بني البشر، وحتى اذا كان دولاراً او سيارة او مغنياً او جندياً او عاهرة… تحت اسم فناني هوليود العاملين في دهاليز المخابرات الخارجية او الداخلية، المهم انه تلقى اهانة من شخص ما او دولة ما .

انها صورة من صور الردع الكارتوي الاسطوري الذي وجد له ظلاً في اول تكوين المجتمع الامريكي بين رعاة البقر ممن اختاروا الجريمة وسيلة للعيش وليس الحرية للتعايش، انها رواسب مجتمع كامل عالقة باذيال الدولة المعاصرة في عالم الحداثة وما بعد الحداثة، عالم هنتنغتون –صراع الحضارات- تحت مظلة الفرضيات الامريكية نصاً –اسلوباً وغاية- حتى برز من يقولها –لا- فاشتعلت نيران الحقد والكراهية والانتقام بالمضمون السابق، ولكن ليس كل –لا- بعدها انتصار امريكي، وليس كل –نعم- تسبقها هزيمة لاعدائها.

ان الولايات المتحدة تعيش شعوراً بالقممية وليست هي قمة القمم فعلاً، وان التمعن في نقاط ضعفها من خلال المفارقات التي تغص بها شبكة الاحجيات السياسية الامريكية واستثمارها في رسم سياسات مقابلة في الساحة الدولية يفضي الى نتائج مدهشة حقاً برغم التضحيات التي لا مفر منها في هذا الجيل وربما مع الجيل القادم، الا ان النتيجة النهائية لا بد تكمن في تحرير ارادة العالم، كل العالم، من هذا الطاغوت.

[email protected]