في كل مؤسسات العالم لا بد من تقييم لعمل المؤسسة و لا بد من اعادة النظر في كثير من مفاصل العمل داخل تلك المؤسسة كلما تقدم الزمن, و استطيع القول جازما أن أي مؤسسة لا تفعل ذلك ستعاني بطئا في التطور و التقدم و اعتقد ان مؤسسة كالحوزة العلمية في النجف لم تفعل ذلك طيلة قرون من تأسيسها , لذلك فأن هذه المؤسسة التي أنتجت الاف العلماء و الكتاب و الادباء, أنتجت شيئا لم تكن تنوي أنتاجه لقد أنتجت أناسا يدعون الليبرالية و العلمانية و يحملون عداءا شديدا للدين و لا يدعون نقدا للدين و القوى السياسية التي ترفع الاسلام شعارا الا وجهوه.
أن ظاهرة وجود جيل من هؤلاء أمثال احمد القبانجي و سرمد الطائي و سعدون ضمد و غيرهم كثير و أضعاف ممن ظهر منتقدا للدين بعد ان كان جزءا من المؤسسة العتيدة (الحوزة العلمية) و غيرهم كثير ممن أثر الانتقاد و الدعوة الى اعادة التفكير و وجه نقدا للحوزة و لكن بعيدا عن اضواء الاعلام و صخبه.
و لعل جيل الخمسينيات و الستينيات أيام المد الشيوعي كانت زاخرة بأمثال هؤلاء الذين شهدت حياتهم تحولا و انقلابا يسمونه (فكري) من متدينين و طلاب في تلك المؤسسة الى أشد أعدائها و أشرسهم و كثير من هؤلاء كانوا أبناء عوائل دينية معروفة أنقلبت حياتهم و تحول نمط تفكيرهم.
لست في معرض الحديث عن هؤلاء بقدر ما اريد الحديث عما يدور في اروقة هذه المؤسسة محاولا كشف بعض الاسباب التي أدت بهؤلاء الى التنكر لها و أنتقادها.
لا شك ان التحول لدى هؤلاء يستبطن أسباب ذاتية عميقة و تساؤلات فكرية ملحة رافقتهم منذ دخولهم هذا السلك و كانوا يعتقدون أن تلك المؤسسة ستؤمن لهم الاجابات الشافية عما يختلج في صدورهم و بطبيعة الحال فأن هذه التساؤلات تتطور و تترقى مع مرور الوقت و طي المراحل الحوزوية و من ثم تصبح في مرحلة ما لا تحتمل و تترك صاحبها امام خيارين الاول ان يستمر على المنهج العلمي المتاح و يدفن تساؤلاته في اعماق نفسه و الخيار الثاني أن يثور على واقعه و يتحول الى منهج فكري جديد يمكنه ان يفسر و يجد اجابات أكثر اقناعا عن تلك التساؤلات.
و الثاني من الاسباب الذاتية هو روح التمرد و المجادلة و التشكيك التي يمتلكها أغلب هؤلاء المتحولين فكريا هذه الروح تجعل أقناع صاحبها أمرا صعبا.
أن ما اشرت اليه ضمن الاسباب الذاتية يعد جزءا بسيطا من الاسباب التي أدت الى تحول هؤلاء و الا فأن السبب الرئيس الذي أدى بهؤلاء الى ذلك هو المنهج العلمي القديم الذي تتوارثه الحوزة جيلا بعد اخر دون ان تطوره ليلائم تحديات و متطلبات المراحل المختلفة التي مرت بها الحوزة و المجتمع.
ان الاهتمام المتزايد من قبل الحوزة بالفقه و جعله المعيار العلمي للتمايز جعل الحوزة تتأخر علميا في العلوم الاخرى و خصوصا الفكرية و الفلسفية منها بالرغم من وجود مدارس تتبنى دراسة العلوم ذات الاهتمامات الفكرية و الفلسفية الى جانب الفقه كأساس لنيل مرتبة الفقاهة , أن عدم الاهتمام بتلك العلوم ادى الى بروز ظواهر فكرية منحرفة كثيرة خاصة في جسد الحوزة و مريديها خصوصا مع حالة جزئية من الانفتاح العلمي توفره الحوزة و تحث عليه في بعض الاحيان لتخيل ان جزء من تقييم مرتبة الفقاهة هو سعة الاطلاع ما وفر جوا لما أستطيع ان أسميه ظاهرة الالتقاط الفكري بحسب تعبير الشيخ المطهري (احد علماء حوزة قم) و من أسمها فهي ظاهرة تخالف المنهجية العلمية التي من المفترض ان يتلقاها الطالب في تلك المعاهد العلمية.
أعتقد ان على الحوزة لكي تنقذ ابناءها و تستوعبهم فكريا ان تترك الحواشي و الكتب العتيقة و تؤسس لمنهجية علمية حقيقية حديثة (من ناحية الشكل و المضمون) تستطيع أن تواكب متغيرات العصر الفكرية والاجتماعية خصوصا و انها تمارس دورا اجتماعيا تأخذ شرعيته من تلك العلوم التي تتداولها وتدرسها, ولقد سمعت بمحاولة جيدة بدأها الفقيه السيد محمد الصدر و لكنه لم يستطع ان يتمها بدأت بتأسيس دراسة حوزوية تشبه النظام الجامعي من ناحية التدرج و المراحل و المناهج العلمية أسماها جامعة الصدر الدينية و يبدو أنها لا تزال مستمرة على يد الفقيه الشيخ محمد اليعقوبي الذي أمسك بالجامعة خلفا للصدر و بالرغم من عدة محاولات قبلها كمدرسة منتدى النشر التي أسسها الشيخ المظفر و جامعة النجف التي اسسسها السيد محمد كلانتر و كلية أصول الدين و غيرها الا انها باءت بالفشل او تحجم أثرها بسبب التعنت و التمسك الموجود في الحوزة بالمنهج الدراسي المتعارف عليه.
ختاما لا يمكن لي أن ابرأ الحوزة من أنتاج الشذوذ الفكري نتيجة توليفتها غير المتسقة من المناهج و المواد الدراسية و التوقيتات و غيرها خصوصا اذا علمنا أن هؤلاء سيكونون أشد و أمضى من غيرهم لانهم اعرف بالحوزة و بمرتكزاتها العلمية.
[email protected]