18 ديسمبر، 2024 6:43 م

المتقاعدون — طاقات مهدرة

المتقاعدون — طاقات مهدرة

هم أصحاب الشيبة، أصحاب الهمة، أصحاب الغيرة ،الآباء والأجداد، أصحاب التأريخ الوظيفي والمهني والوطني،المدني والعسكري، الطويل والمشرف ممن تتسابق الدول والحكومات في أرجاء المعمورة الى توفير سبل الحياة الكريمة والعيش الرغيد لهم وعلى مختلف الصعد بعد أن خدموا شعوبهم وبلدانهم طويلا بكل تفانوإخلاص،هؤلاء تحديدا حين يتظاهرون ويعتصمون ولو بأعداد قليلة ،لا تكاسلا ،ولاجبنا ، وإنما مرضا وشيخوخة وهرما قد أصاب أكثرهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة وفي مقدتها زيادة رواتبهم التقاعدية التي لاتكاد تغطي ثلث نفقاتهم الشهرية ولاتكفي لدفع تكاليف الأدوية والعلاج الباهظ وبدلات الايجار والمولدات الاهلية، مطالبين بإنصافهم ، فهنا تسكب العبرات وتسنفرالمشاعر وتصحو الضمائر ، وتنهضالهمم ليجد الكل أنفسهم ومن دون استثناء مدفوعين لا اراديا للتعاطف معهم ،والتوقف جليا، والتأمل مليا فيما يجري عن كثب، ولاسيما وأن وقفات أصحاب الشيبة تأتي بالتزامن مع الاعلان عن الأرقام المليارية لواردات العراق الشهرية، ومخصصات وإمتيازات المسؤولين والساسة ورواتبهم الفلكية، ومواكبهم الفارهة الطولية منها والعرضية ، وقصورهم العامرة السمنتية والحجرية، ولسان حال معظم المتقاعدين يقول “لن أعيش مشلولالقدمين،مكتوف اليدين ،مكمم الشفتين،اصم الاذنين،ضعيف العينين،الى أن يحين الأجل ،بل سأقف شامخا وصادعا بالحق لأطالب بحقوقي وحقوق ورثتي من بعدي كاملة غير منقوصة في بلاد ما بين النهرين، أغنى بقعة بالموارد على سطح الكوكب، وليسمع العالم كله من شرقه الى غربه، وما بين القطبين !.وكأننا بالذاهلين عن حق المتقاعد ,, وحكومتنا واحزابنا تجاهلوا عمدا او سهوا ، وهم يتمنون صمته، يشترون سكونه بمنح هزيلة ووعود كثيرةتطلق بين الفينة والأخرى يصدق بمجملها المثل الشعبي” دخانكم عمانه ، وطبيخكم ما اجانه” آملين بأن يظل المتقاعد قاعدا “مت قاعدا ” فآثر الا أن يحيى عزيزا شامخا رغما عن أنف البنك الدولي وقد فرض على العراق – أغنى بلد في العالم بالخيرات والثروات والكفاءات ، الا انه من أفقر دول العالم في العدالة الاجتماعية، والرؤية الثاقبة،والتنمية المستدامة،والتخطيط الاقتصادي بعيد المدى خمسيا وعشريا
التقاعد في بلاد الغرب- مرحلة جميلة وفرصة نادرة للتمتع بالحياة، وامتلاك الحرية لممارسة ما يهوى المتقاعد، وليستمر في النشاط والعطاء، وهذا يتطلب أن يفكر الشخص بالتقاعد منذ بداية حياته الوظيفية، فيخطط لأن يصل الستين والسبعين وهو في صحة جيدة..
أضرب المثل دائماً بالدكتور جون جوديناف الأميركي وأستاذ الجامعة الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2019، وهو في السابعة والتسعين من العمر عن أبحاثه المتواصلة في مجال الكيمياء والتي كان لها الفضل في إيجاد بطاريات “الليثيوم أيون”، مما جعله أكبر شخص بهذا العمر يفوز بهذه الجائزة الثمينة. وهنا أتساءل: ماذا لو تم إطفاء شعلة الحماس لدى هذا الأستاذ بإجباره على التقاعد في سنّ السبعين؟ كما هو النظام في كثير من الجامعات على مستوى العالم، حيث يتم تقاعد كفاءات متميزة على أساس أنهم وصلوا إلى السن القانوني للتوقف، متناسين ما لديهم من خبرات متراكمة من عملهم السابق تعوضهم عما يفقدونه من الجهد البدني
وفي النظر إلى التجارب العالمية لأفضل المجالات لتوظيف من تقدموا في السن نجد أنه في التجربة الألمانية يعتبرون المتقاعد ثروة قومية، وأنشؤوا لذلك “هيئة الخبراء المتقاعدين الألمان” وبها أكثر من خمسة آلاف خبير ألماني من المتقاعدين، وأعادت تعيينهم مستشارين في مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية. ومثلها اليابان التي لديها أكبر نسبة على مستوى العالم ممن تجاوزوا سنّ الستين، لذا يتم إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة، وفي مواقع ذات صلة لما لديهم من خبرات وتجارب، وتوظيفهم كمستشارين في القطاع العام والخاص وفي القطاع الثالث غير الربحي، مع مراعاة ساعات العمل ومدتها. كما أن المتقاعدين في اليابان محرك أساس في الاقتصاد المحلي، خصوصاً في السياحة الداخلية حيث يشكل من تجاوزوا السبعين 60 % من السياح اليابانيين. وفي أميركا يتم إبلاغ المتقاعد العسكري بتقاعده قبل التقاعد بعام على الأقل، وقد ينقل إلى مكان مناسب يختاره قريباً من العمل الذي سيعمل به بعد التقاعد. وتوظف الشركات الأميركية التي لها علاقة بالقوات المسلحة الكثير من أصحاب الخبرات، وأكثرهم يحمل شهادة الماجستير في الإدارة على الأقل. أما في الدول العربية فإن الاستفادة من المتقاعدين قليلة لأسباب كثيرة منها غياب المعلومة كعدم توفر قواعد المعلومات عن المتقاعدين وتخصصاتهم. إضافة إلى مزاحمة الوافدين لهم، وعزوف الشركات الاستشارية الأجنبية عن توظيفهم، وتجلب بدلا من ذلك خبراءها من الخارج بعضهم قليلي خبرة أو صغار سنّ.
اليوم أصبحت أعداد من تجاوزوا الستين كبيرة وفي زيادة مستمرة حتى أصبحت نسبتهم حوالي 25 % من السكان في الدول المتقدمة، وهذا يحتم علينا الاهتمام بهم، والاستفادة من خبراتهم وجعلهم ضمن الطاقة الكلية المنتجة للمجتمع، ومن هذه الوسائل:
أولاً: التقاعد مرحلة جميلة وفرصة نادرة للتمتع بالحياة وامتلاك الحرية لممارسة ما يهوى المتقاعد، وليستمر في النشاط والعطاء، وهذا يتطلب أن يفكر الشخص بالتقاعد منذ بداية حياته الوظيفية، فيخطط لأن يصل الستين والسبعين وهو في صحة جيدة تتيح له الحرية في عمل ما يريد، وكي لا يصبح عالة على أسرته ووطنه. كما يجب أن يخطط لمشروعه الخاص والقريب إلى قلبه قبل التقاعد بسنوات، مع المحافظة على الأسس الثلاث للحياة السعيدة واستمرار العطاء وهي “الصحة والأسرة وما يكفي من المال
ثانياً: كبار السن خير وبركة أينما حلوا، لكنهم بحاجة إلى أن يسعوا بأنفسهم للبحث عن المجالات التي يجدون أنفسهم فيها، سواء من حيث العمل ومنه الاستشارات، أو العمل الخيري وما يجلبه من فائدة للقطاع الثالث وللمتطوع بشكل خاص. كل ذلك يتطلب أن يطرق المتطوع أو طالب العمل الأبواب حتى تفتح له، فمن بقي في بيته لن يعرف عنه من هو بأشد الحاجة له ولخبراته المتراكمة. وكما يقال: “الأبواب لا تفتح إلا لمن يطرقها
ثالثاً: كبير السن قدوة ومحل تقدير واحترام أينما حلّ، وأنا هنا أتحدث من تجربة، فلا شيء كمشاركة كبير السن في الأنشطة البيئية كزراعة الشجرة وتنظيف المتنزهات والحدائق، وممارسة المشي وسباق اختراق الضاحية مهما تواضع جهده، فيكفي أن يراه من هو أصغر منه ليزداد حماساً ورغبة في المواصلة، كما أن السياحة البيئية من أهم محركات الاقتصاد وتناسب كبير السن سواء كمشارك أو مالك لمنشأة سياحية.
كبار السن إما أن يكونوا خيرا وبركة وإضافة قيمة للاقتصاد بشكل عام، أو أن يكونوا عبئاً على أنفسهم وأسرهم والنظام الصحي بشكل عام. وكل ذلك يتطلب جهوداً مستمرة ومشتركة من التعليم والصحة والإعلام وخطب الجمعة لتوضيح أهمية المحافظة على الصحة والأسرة والتوفير بشكل عام، وهذه هي التي تبقى وتسعد كبير السن، وتضمن له الحياة السعيدة والمديدة بإذن الله.