23 ديسمبر، 2024 12:35 ص

المتجاوزون .. وحق السكن

المتجاوزون .. وحق السكن

كثيرا ما نسمع عن تأثيرات المتجاوزين (الذين أقاموا الدور السكنية في أراضي لا يملكونها، وعادة ما تكون تلك الأراضي المتجاوز عليها تعود ملكيتها للدولة) وإعتبارها ظاهرة تجاوز على المال العام، ومؤثرة بصورة سلبية على التصاميم الأساسية للمدن، ولها تبعات خطيرة على الوضع الأمني. وعليه فإن إزالتها هي ضرورة ملحة لتطبيق القانون ومنع التعدي على ممتلكات الدولة وسرقة المال العام، والجميع يَعُد المناطق السكنية العشوائية التي انتجتها هذه التجاوزات (غير القانونية) إنما هي مظاهر غير حضارية ومشوهة للحياة المدنية.
ولكنني هنا “لا” أطرح موضوع التجاوزات والعشوائيات السكنية من هذا الجانب القانوني الضيق، بل أعرج عليه من جانب يتعلق بالفلسفة السياسية والمبادئ العامة لنشوء الدولة.
حق السكن، أو بمعنى، إندفاع الإنسان لإيجاد مؤى سكني له يعطيه الأمان ويوفر له ولعائلته السكينة والطمأنينة هو من الحقوق الانسانية الإساسية. هو أساسي للإنسان كما هو حق الحياة (الدفاع عن النفس والعرض) وحق الحرية الشخصية (ويدخل في هذا حق التعبير عن الرأي والإعتقاد الديني والسياسي). فحق السكن نابع من حق التملك، بمعنى أن الإنسان، بما هو إنسان، يبحث عن موطن سكن، سواء إن كان في البر أو الحضر، في البادية أو المدينة، في مجتمع الصيد، أو مجتمع البدو الرحل، أو في المجتمع الزراعي والصناعي لحضارتنا المعاصرة. في الواقع أن قيام الحضارة الإنسانية في حقبة الزراعة التاريخية على أرض الرافدين (في الوركاء تحديدا) هو عندما قام العديد من البشر في بناء مساكن لهم فتكونت العشوئيات من أجل التعاون بين مجموعة من البشر على الزراعة، ثم تضخمت هذه العشوائيات الى المدن، ومنها جاءت الحاجة الى نشوء الحكومة لتنظيم أمور المدينة وحفظ الأمن وإفشاء السلام.
فالسكن وأيجاد مأوى للعيش هو سابق على نشوء الحكومات. فهو حق طبيعي للإنسان، لا دخل فيه للحكومة والسلطة في منعه، كما لا يحق لها سلب حقه في الدفاع عن نفسه وعرضه. فسكن الإنسان وإيجاد مأوى له وبحثه عن لقمة عيشه هو حق طبيعي للإنسان، ومتى ما سلب منه حق السكن وحقه في رزقه يفقد الإنسان إنسانيته. هذا الحق سابق حتى على مفهوم كرامة الإنسان، هو حق طبيعي جوهري للإنسان، تجعله بصورة عفوية أن يقوم ببناء مأوى له (ولعائلته) يبحث عن لقمة عيشه. فهو سابق حتى عن حق الحرية، ولكن ملازم لحق الحياة. وأغلب دساتير للدول جعلت هذا الحق من الحقوق الطبيعية التي وهبها الله للإنسان عند خلقه، كما يعبر عنه في الدستور الامريكي، وعبروا عنه: بحق البحث عن السعادة – التي أساسها حق الملكية الخاصة وفرصة البحث عن لقمة العيش.
في العراق، توقفت الدولة والحكومات المتعاقبة عن تنفيذ برامج بناء المساكن للمواطنين منذ تسعينات القرن الماضي. ومنذ ذلك الحين، فإن كل ما قامت به الدولة هو توزيع الأراضي السكنية على موظفيها والعاملين عندها فقط لاغير، بينما يبقى المواطن العادي، والذي نشأت الحكومات من أجله، ترك بلا مأوى. ومنذ عام 2003، جُعل (عن سابق قصد) توزيع الأراضي للمسؤولين حصراً وطبعاً شملوا معهم العاملين عندهم في السلطات الثلاث فقط. فمحدودية الأراض المتوفرة للسكن محدودة وضيئلة نسبة للحاجة العامة والمُلحّة للمواطنين في دولة العراق.
أزداد نفوس العراق منذ بداية التسعينات وحتى الآن الى أكثر من الضعف (من 17 مليون تقريبا في عام 1990 الى حوال 37 مليون في هذا العام)، بمعنى أن هنالك ما يقارب من عشرين مليون نسمة بدون مأوى. المسؤولون (في جميع السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، في الحكومات المحلية والاقليم والمركز) الذين ينادون بإزالة العشوائيات (على نطاق السكن وعشوائيات تحصيل الرزق) إنما يحاربون حق من حقوق الإنسان الطبيعية. فعلى الدولة أولاً أن توفر السكن ولقمة العيش، فهذه هي وظيفتها، وهذه هي مسؤولياتها، ومن ثم تزيل العشوائيات،. فالمتجاوز هو مواطن عمل بحقه الطبيعي كإنسان في البحث عن مأوى له وبحث في إيجاد عمل ليسد به رمق عيشه. لكن الدولة لم تقم بواجباتها بتنظيم أمورها، من توفير السكن وفرصة العيش الكريم للمواطن، ومن ثم القيام بمسؤولياتها في تنظيم المدن وتوزيع الأراضي ضمن التصاميم الأساسية للمدن وإقامة البنى التحتية وإحداث التنمية الإقتصادية للعيش الكريم.
فالمواطن قام بحقه الطبيعي، ولكن الدولة هي التي لم تقم بوظيفتها التي أُنشأت من أجلها من قبل المواطنين.