من خلال مشاهداتي القريبة والواقعية جداً في فترة الدعاية الانتخابية لانتخابات مجالس المحافظات في العراق كوني مرشح عن محافظة ذي قار لاحظت وللأسف الشديد تأثير جملة من المؤثرات على خيارات الناخب تأثيراً سلبياً، ولعل أبرزها المال السياسي. وقد كان بودي الحديث عن ذلك في فترة الدعاية الانتخابية للمساهمة في معالجة بعض الخلل ولكني خشيت سوء الظن والاتهام بأن كلامي مقدمة لتبرير فشل قادم فانتظرت ظهور النتائج وتكوّن صورة معقولة عن الاسماء الفائزة والتحالفات القادمة التي سترسم صورة الواقع الخدمي والإداري في المحافظات لأربع سنوات قادمة وتلقي بظلالها على الواقع السياسي برمته. ورغم ظهور فوزي في الانتخابات وتسجيل مجموعة من الحالات الايجابية في هذا الانتخابات إلا أن ذلك لا يمنع من الحديث عن تلك السلبيات بغية المعالجة لأن بعض هذه السلبيات إذا لم يتم البحث عن حلول لها ستتحول إلى خلايا سرطانية تهدم العملية السياسية أو ما تبقى منها، ومن هذه السلبيات(علماً إني لا اتحدث عن محافظة بعينها):
1-المال السياسي:
اثبتت الانتخابات الأخيرة تأثير المال السياسي الكبير على خيارات نسبة كبيرة من الناخبين، فكم من ناخب تم شراء ولائه بالمال ، وكم من ناخب تأثر بسبب ناخب آخر تم شراء ولائه بالمال، حتى وصل الأمر إلى تحديد أسعار للصوت يتفاوت من منطقة لأخرى ومن وقت لآخر وبلغت ذروة الاسعار في الساعة الأخيرة من الانتخابات. والغريب إن هذه الأمور تجري على مرأى ومسمع من المفوضية ولا نية كما يبدو للمعالجة بل البعض صار يراها وكأنها أمر طبيعي. وتنوعت اسباب قبول الناخب ببيع صوته بين الجشع وقلة الوعي والفقر، فبين واعٍ دفعه جشعه ومغريات المبالغ التي يتم دفعها خصوصاً وإن هذا الصنف من الناس لا يكتفي في العادة بأخذ المال من مرشح واحد فيبيع صوته عدة مرات وبأثمان مختلفة، والبعض منهم يلجأ إلى حيلة تافهة ليُقنع بها نفسه عبر التأشير على اسماء كل المرشحين الذين باع لهم صوته فتبطل البطاقة، وبين قليل الوعي سهل الانخداع يظن إن استلام الاموال مسألة ليس فيها ضير وأن الالتزام مع المرشح الذي دفع له الاموال أمر لابد منه والبعض منهم يتم اقناعه بضرورة الالتزام عبر القسم بالقرآن أو “شد راية العباس” أو أشباه ذلك، والبعض منهم يقتنع بالالتزام ظناً منه إنه يمكن معرفة تصويته! وبين من اقعده الفقر فرأى في هذه المسألة فرصة تسد رمقه ورمق عائلته لبعض الوقت واللوم ليس عليه بل على من أوصله لهذه الحال!
ونقصد بالأموال كل مبلغ او شيء عيني يتم دفعه أو الوعد بدفعه مقابل التصويت.
ولا تنتهي المسألة عند هذا الحد بل تأخذ صور كثيرة وأغلبها واضح الهدف فما اغرب الصمت عنها، كما في حالات التوزيع اليومي لوجبات الغداء والعشاء، وتوزيع البطانيات والملابس والأجهزة الكهربائية وكارتات الرصيد وغير ذلك.
اما اسباب لجوء المرشح لهذا الاسلوب فواضحة فهي الرغبة منه في البقاء في المنصب وعدم الاستعداد لخسارته وعدم المجازفة بذلك والتفكير في الوجاهة والمكاسب المادية الكبيرة التي يمكن الحصول عليها بوساطة هذا المنصب.
اما مصدر المال فتارة بتمويل شخصي ناتج من تمكن المرشح مالياً أو من مال ناتج عن فساد اداري كونه المرشح عضو سابق أو مسؤول أو من تبرع جهة مستفيدة من فوز المرشح (مقاول، وجيه، جهة دينية، جهة سياسية، عشيرة وغير ذلك) أو من الجهة السياسية التي تدعم المرشح وهذا اخطر الصور إذ كيف يمكن الثقة بجهة تنتهج هذا الاسلوب؟
والاموال التي يتم صرفها تُصرف على أمل استحصالها لاحقاً ليس عبر الراتب الرسمي كما يتصور دعاة الغاء رواتب اعضاء مجالس المحافظات فما أهون الراتب عند هؤلاء بل من خلال الوساطة في عقد الصفقات واستغلال المنصب في هكذا أمور والتغاضي عن الاخطاء في المشاريع وغيرها لقاء مبالغ كبيرة.
وهذه المشكلة كبيرة بل وكبيرة جداً ولا يمكن حلها إلا عبر التشدد في القوانين وتطبيقها وعدم التساهل في ذلك والسعي لتوعية المجتمع ومن قبله تحسين وضعه المادي.
2-الدعاية:
نتحدث في موضوع الدعاية من عدة جهات:
أ-حجم الدعاية اعتماداً على حجم التمويل:
اتضح التفاوت الكبير بين المرشحين في حجم الدعاية ونوعها في الانتخابات الأخيرة وهذا بالتأكيد اعتماداً على حجم التمويل المتاح لكل واحد وبعض المال أو نسبة كبيرة منه ناتجة عن المال السياسي الذي تحدثنا عنه في النقطة السابقة واستغلاله.
والدعاية تؤثر على خيارات الناخب المتردد كثيراً، وبعض الناخبين-وهذا واقعي-يفضل التصويت لأصحاب الصور الكبيرة والكثيرة ظناً منه إنهم كبار أيضاً!!
وحل هذه المشكلة يكون عبر تحديد حجم ونوع الدعاية ضمن قوانين صارمة تكون الغرامة فيه خسارة أصوات لا خسارة أموال!
ب-دعاية الترويج:
يتم الترويج لبعض المرشحين –قبل فترة الدعاية حتى- بأساليب الكذب وتزوير الحقائق ورسم صورة خيالية عنه من خلال تضخيم أفعاله ونسبة منجزات وهمية له ونسبة منجزات غيره إليه. وللأسف تتفاعل الناس مع هذه الدعاية بسهولة بل وتضيف لها، ومجتمعنا هو سوق رائج للدعاية بأنواعها كافة فلا أحد يكلف نفسه السؤال عن المصدر والأسباب ومقدار الثقة بالخبر المنقول. مرة وجدت خبر منقول عن أحد المرشحين في صفحات الفيس بوك بأنه جاء في الجريدة الفلانية كذا عنه ولم يذكر الخبر رقم العدد الصادر فيه الحدث ولا تاريخ صدوره والغريب إني وجدت على الخبر ما يقرب من (3000 إعجاب) و (800 تعليق لصالح الخبر) دون أن يسأل أحد عن العدد أو التاريخ ليتأكد إن كان الخبر صحيح أو مفبرك!!
فكتبت تعليق أسأل فيه عن العدد والتاريخ واستمرت الإعجابات والتعليقات!!
فكتبت منشور أؤكد فيه-بعد البحث طبعاً- عدم صحة الخبر المنشور واستمرت الإعجابات والتعليقات!!
واقترح كحل محاسبة المرشح عن كل خبر كاذب يصدر للترويج له أو مطالبته بنفيه إذا لم يكن قد صدر عنه.
أما توعية الناس للتعامل الصحيح مع هكذا أساليب فالأمر يتطلب جهداً توعوياً كبيراً.
ج- دعاية التسقيط:
وأقصد بها الدعاية التي تستهدف تسقيط المرشحين الآخرين، لا شك إن بيان أخطاء بعض المرشحين أمر ضروري لمنع الناس من انتخابهم وهو حق طبيعي للمرشح المنافس بشرط أن لا يصل لمستوى التضخيم والادعاء.
ودعاية التسقيط هذه تأخذ صور عدة، فقد يتم بث خبر كاذب عن المرشح، أو قد يتم نقل خبر غير تام عنه، أو تحليل خبر متعلق به بطريقة مشوهة، أو تمزيق صوره أو تشويهها وغير ذلك. ولا شك إن هذه الأمور غير صحيحة وينبغي مواجهتها بصرامة لأن للدعاية سوقها الرائج كما قلنا فيكون لهذه الدعايات على الرغم من كذبها الواضح في كثير من الاحيان تأثير كبير على خيارات الناخب وبالتالي تشويه العملية الانتخابية.
3-المتاجرة بالمشاريع والخدمات والتعيينات:
في سنة 2008 ومن موقع عملي كمعاون محافظ ذي قار للشؤون الفنية سعيت وبقوة لتنفيذ مشروع مركز نظم المعلومات الجغرافية “GIS” وكان هدفي من ذلك تحقيق أمرين مهمين:
الأول: تهيئة المعلومات والاساس لتخطيط سليم ومتقدم لمشاريع الإعمار والخدمات، حيث يعتبر مركز نظم المعلومات الجغرافية عالمياً أحد أهم أسس التخطيط السليم.
الثاني: جعل القرار في الإعمار والخدمات قرار فني بحت وإبعاد هذه الجوانب عن المتاجرة السياسية في الانتخابات وخارجها.
وللأسف لم اتكمن من تنفيذ المشروع وقتها ولا داعي لذكر الاسباب لأنها واضحة!
ومن الواضح في الانتخابات الأخيرة كيف إن الكثير من الناخبين-من اصحاب السلطة طبعاً- استغلوا مواقعهم أو مواقع جهاتهم أو معارفهم للمتاجرة بالمشاريع والخدمات بل إن بعضهم خطط لهذا الأمر قبل مدة وهيء له عدته!
والغريب إن هذه الخدعة تنطلي على الناس مراراً وتكراراً، فالمسؤول الذي لم يكن يمر عليهم ويذكرهم في فترة عمله كلها يمر عليهم في فترة الدعاية الانتخابية وينجز لهم بعض المشاريع أو يعدهم بذلك وبعضهم يشترط انتخابه بكل صلافة وبعضهم عندما يشك في الولاء يلغي المشروع أو يؤخره، والكل يعلم إنه بعد فوزهم سينسون الناس مرة أخرى، ومع كل هذا الناس تنتخبهم!!!!
أما موضوع التعيينات فحدث ولا حرج فاستلام المعاملات صار بالجملة، وكل مرشح صار معه طاقم من مئات الاشخاص بين حماية وسواق ومدراء مكتب اعتماداً على حجم الوعود، والكل يعلم إنها في الغالب وعود كاذبة ويصدق وينتخب على أساس هذه الوعود!!
والحل بتقنين هذه الأمور وتوضيح ذلك للناس لكي تتوقف عن الاختيار على هذا الاساس الخاطئ.
هذه مجموعة من الملاحظات أحببت أن أذكرها من واقع تجربتي والحل برأيي هو السعي لمعالجة هذه الأمور بما ذكرناه والسعي لتثقيف الناس وتنمية وعيهم وحثهم على عدم مخالفة هذا الوعي، وحث الواعين على أخذ دور إيجابي في ذلك بدل اكتفاء نسبة كبيرة منهم بالدور السلبي الناقد غير المشارك والذي يقود بالضرورة إلى تردي الوضع لما هو أسوء.