عندما نريد الحديث عن من يستطيع إن يشكل ويدير الحكومة العراقية فهذا يعني إننا نتحدث عن مشكلة مستعصية ولا يكاد إن يوجد لها حل إلا بتدخل خارجي, لان كل من يُريد إن يتصدى لذلك الأمر فانه سوف يواجه أمامه تحدي كبير في كيفية إرضاء المكونات السياسية وحل المشاكل والأزمات والعقد المتعددة في تشكيلة ونسيج المجتمع العراقي.
وما نواجهه اليوم من التناحر والقتل والإرهاب والانفلات الأمني والتردي في كل شيء من ناحية الخدمات والتعليم والتجارة والصناعة سببه الرئيسي هو عدم وجود قيادة واعية للبلد تستطيع أن تشرك جميع أبناء هذا البلد في صنع القرار وتحمل المسؤولية, وان يضحي الجميع من أجل الوطن وان يبتعدوا عن الأنانية الحزبية والعرقية والطائفية في اتخاذ القرار وان يتحدوا من أجل خدمة الوطن فقط.
وأما الحديث عن حكومة الأغلبية وتحدي الآخر وإهمال مطالبه فهذا الكلام لا يقودنا إلا إلى التمزيق والشتات والتفرق, وخير دليل ما تشهده الساحة العراقية اليوم من صراعات وانشقاقات وكيل التهم وغيرها من الأمراض التي باتت لا تستحي منها الكتل السياسية العراقية.
وما طرحه مؤخراً الأستاذ نور المالكي عن تشكيل حكومة أغلبية ورفض حكومة الشراكة الوطنية كان سببا في تدهور الأوضاع المتأخرة في بعض محافظات العراق, ولا أعلم لعله غفل أو نسى كيف تسنى له إن يحكم العراق في دورتين انتخابيتين متتالية تحت إطار الشراكة الوطنية.
فانه في الدورة الأولى حصل عليها كبديل عن مرشح الائتلاف الوطني الدكتور إبراهيم الجعفري آنذاك, وبدعم من الجارة إيران في إقناع الأطراف السياسية الأخرى داخل الائتلاف, وكان ذلك بسبب رفض الكتل السياسية الأخرى تولي الدكتور الجعفري للرئاسة.
وفي الدورة الثانية حصل عليها بعد صراعات ومفاوضات طويلة انتهت بوضع برنامج عمل جديد يقضي بتشكيل مجلس السياسات لاتخاذ القرارات المصيرية في البلد يترأسه الدكتور إياد علاوي, هذا من جانب الكتل الأخرى, وأما من جانب التحالف الوطني فقد واجه السيد المالكي معارضة قوية من قبل المجلس الأعلى والتيار الصدري وبعد المفاوضات والمداولات التي بذلتها الجارة إيران في إخضاع الأطراف الشيعية إلى القبول برئاسة السيد المالكي, وافق التيار الصدري بعد التهديد بقطع التمويل عن مؤسسات التيار وبعد أن اخرجوا فتوى خطية من المرجع الديني السيد كاظم الحائري “المقيم في إيران” تقضي بوجوب التصويت للسيد المالكي.
وأما المجلس الأعلى فقد أصر على رفضه لتولي المالكي لرئاسة الوزراء مرة ثانية مما أدى ذلك الأمر إلى انشقاق منظمة بدر عنه التي يترأسها السيد هادي العامري, بعد أن أمر السيد الخامنئي هادي العامري بالتخلي عن قيادة المجلس الأعلى, وبعد هذا الأمر بتعد المجلس الأعلى عن ودّ الجمهورية الإسلامية.
وخلال ثمان سنوات من حكم السيد المالكي لم يشهد العراق أي تحسن في سياسته الداخلية أو الخارجية بل شهد العراق تراجعاً مستمراً من ناحية السياسية والأمنية فضلاً عن التراجع التام للبنى التحتية للبلد.
ويلاحظ على حكومة السيد المالكي الكثير من المؤاخذات التي تجعله غير مرحب به في إدارة البلاد لدورة ثالثة.
فمن تلك الملاحظات تفرده التام في المناصب السيادية في البلاد فإضافة إلى رئاسة الوزراء فهو القائد العام للقوات المسلحة ويشغل أيضا وزارات وهيئات مهمة بالوكالة, مما يجعله ان يتحمل الخطأ الذي يقع في العراق بمفرده وهو الملام الوحيد اتجاه الشعب.
ومنها تهميش الشركاء السياسيين وعدم إشراكهم في القرارات المصيرية التي تهم البلد, بل تم تجاهلهم تماما مما ولد معارضة قوية تقف بوجه العميلة السياسية برمتها وتدعوا إلى سحب الشرعية من العملية السياسية الجارية في البلاد, مع ان قادة هؤلاء هم بالأمس كانوا جزء من العلمية السياسية الجارية ولكن الضغط المستمر والتهميش الغير مبرر ولد مثل هكذا معارضة مقيتة وغير شرعية وقبلتْ تلك القيادات بالعمل مع التنظيمات الإرهابية والفصائل المسلحة من أجل إسقاط العملية السياسية.
ومنها عدم الرؤية الواضحة للحكومة في العمل تحت سقف الشراكة الوطنية التي تتيح لكل شخص ان يكون جزء من هذا البلد ويعمل من أجله, وعجزت الحكومة أن تكون هي البيت الذي يأوي إليه الجميع في حل مشاكل ودرء خصومهم.
إذاً فلابد للحكومة المقبلة ان تؤمن بالتعددية الموجودة في العراق وتعمل تحت هذا الإطار لكي تنجح في مسيرتها نحو الإمام, لان وضع العراق اليوم لا يسمح بطرح حكومة الأغلبية حتى مع فوز كتلة معينة بمقاعد نيابية كثيرة تأهلها لتشكيل حكومة, لان الشركاء السياسيين اليوم لا يتمتعون بروح المعارضة الشفافة والنزيه التي تقبل ان تكون في جبهة المعارضة, وان تشخص اخطأ الجهة التنفيذية في الحكومة, وفي المقابل أيضاً ان الحكومة التي تشكل لا تعطي مساحة كافية ومناصب رقابية مهمة في السلطة للمعارضة لكي تمارس دورها الرقابي عليها بشكل صحيح.
فذلك من الخطأ ان نفكر اليوم وان نصر على طرح مشروع حكومة الأغلبية في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العراق, بل نحتاج إلى سنوات عدة وثقافة عالية تُأهل الشركاء السياسيين على قبول ذلك.
وليكن في معلوم الجميع بأنه لا يتم تشكيل حكومة في العراق ما لم تضرى عنها الأطراف السياسية العراقية وتكون لها مقبولية لدى دول الجوار وتحضا بالدعم الأمريكي لكي تنجح في عملها, وتكون قادرة على احتواء الأزمة التي يمر بها العراق.
لان العراق ليس حراً في اتخاذ قراراته المصيرية بل يوجد هنالك شركاء في اتخاذ القرار وهم كثر وعلى رأسهم أمريكا وإيران والسعودية وغيرها من الدول التي تقف وراء دعم كتل وأحزاب سياسية.
وعلى الأحزاب ان لا تغفل عن الحقيقة المرة وهي بان الأمريكان وحلفائهم هم من اسقطوا النظام ألبعثي وهم من أوصلوا أحزاب المعارضة إلى سدة الحكم وبالتي لابد من الاعتراف بأنهم ليست لديهم الحرية المطلقة في اتخاذ القرارات المصيرية التي تتعلق بأمن واستقرار العراق أو المنطقة من دون موافقة الأمريكان. والأمريكيون لا يهمهم من يحكم العراق بقدر ما يهمهم السياسية التي سوف ينتهجها ذلك الحاكم شريطة أن لا تتعارض مع أهدافهم الإستراتيجية في العراق أو المنطقة.
ومن يبحث عن الاستقلال التام والسيادة الكاملة في اتخاذ القرار وتحديد المصير فعلية إن يقوم بثورة مشروعة ضد النظام الذي يحكم بلدة وهذا ما عجزت عنه المعارضة العراقية في إسقاط النظام المقبور.
وها نحن نشهد اليوم قوة المعارضة التي يواجهها السيد المالكي في داخل العراق وخارجه, ومع كونه هو الفائر الأول في نتائج الانتخابات وصاحب الكتلة الأكبر إلا انه سوف يكون الخاسر الأكبر في تشكيل الحكومة المقبلة وسوف يودع الولاية الثالثة شاء أم أبا لأنه فشل في إدارة السلطة طيلة ألثمان سنوات الماضية, وحكومته فقدت كل المميزات التي تُأهلها في الاستمرار في الحكم وأصبحت حكومة الحزب المستبد وحكومة الرجل الواحد التي تحاول صنع الدكتاتور.
ولابد للحكومة القادمة من إشراك الأطراف والمكونات الموجودة في العراق, ولابد لها من عزل السلطات عن الحاكم الواحد, ولابد لوزرائها إن يبتعدوا عن الحزبية والأنانية في عملهم في الوزارات.
ويجب أن تتمتع السلطة القضائية والمفوضية العليا باستقلالية تامة عن تأثير رئاسة الوزراء, لكي تسير في المسار الصحيح.
لان نجاح العراق يكمن في المشاركة الحقيقية والفاعلة وتحمل المسؤولية من جميع المكونات الموجودة وان يكون الهدف الواحد هو تقدم وازدهار العراق لا غير.