أثبتت الأحداث منذ تولي العبادي رئاسة الحكومة الحالية في سبتمبر 2014 أن المالكي لا يكل ولا يمل، في منهجه المنظم لمحاصرة العبادي وافتعال الأزمات أمام حكومته.
لم يعد الأمر همسا كما كان في السابق، فمنذ أسابيع والأوساط السياسية والنيابية في العراق قلقة، تتداول أخبارا تفيد بأن زعيم حزب الدعوة ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بات جاهزا لتنحية حيدر العبادي عن رئاسة الحكومة ليحل مكانه، وهو ينتظر انتهاء معركة الجزء الأيمن من الموصل، واستغلال انشغال القوات المشتركة ووحدات مكافحة الإرهاب وقطعات الجيش المؤيدة للعبادي، باستكمال تحرير المدينة ومسك الأرض فيها، ليضرب ضربته من خلال سياقين: برلماني وعسكري، يجري التحضير لهما بشكل متسارع عبر تنظيم اجتماعات وعقد تحالفات واستقطابات سياسية جديدة.
ويتمثل السياق البرلماني في حشد أكبر عدد من النواب، يتفقون على سحب الثقة من حيدر العبادي وإسقاط حكومته وفق ما يسمى بـ”الأغلبية السياسية”، بعد أن نجح المالكي خلال الشهور الستة الأخيرة في تحصين ائتلافه “دولة القانون” ومنع تسرب نوابه باتجاه جناح أو فريق العبادي، واستقطاب نواب حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير والجماعة الإسلامية الكردية، والتحالف مع سليم الجبوري وحزبه الجديد “التجمع المدني للإصلاح” والتعاون مع كتلة “الحل” برئاسة جمال كربولي، يضاف إليهم أحد عشر نائبا من منظومة “سـنة المالكي”، وبذلك يكون زعيم حزب الدعوة قد ضمن أغلبية نيابية وسياسية مريحة، تمهد الطريق لعودته إلى رئاسة مجلس الوزراء وتشكيل حكومة جديدة تكون أولى مهماتها، تطويق التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر شيعيا، وعزل كتلة “متحدون” ورئيسها أسامة النجيفي سنيا، وإضعاف الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البارزاني كرديا.
أما بخصوص الأحزاب والكتل الأخرى، مثل المجلس الأعلى بقيادة عمار الحكيم، وحزب الفضيلة بزعامة محمد اليعقوبي، وائتلاف “العراقية” برئاسة إياد علاوي، فالمالكي متفائل ويقول: “خلوهم علي” أعطيهم وزارة “دسمة”، وزارتين، وسيأتون مهرولين.
وفي ما يتعلق بالسياق العسكري الذي سيعتمده نوري المالكي في تنفيذ مخططه، فيقوم على تحريك قوات الحشد الشعبي وتعبئتها بما يؤمن نجاح انقلابه بعد أن صار عمليا، رئيس الجناح السياسي للحشد، على حد وصف النائب السابق حسن العلوي، الذي يعتقد أن المالكي قادم، إذا لم يكن الآن، في الانتخابات المقبلة بقوة الحشد الضاربة وأصواته التي قدرها بمليون صوت، خصوصا وأن قادة الحشد تمكنوا بالتهديد والضغط من تحويل فصائلهم من مجرد ميليشيات مسلحة خارج القانون والدستور، إلى مؤسسة عسكرية رسمية وأحزاب سياسية علنية، تتمتع بمزايا وامتيازات وسلطات أكثر من وزارتي الدفاع والداخلية، وأكبر من القوات المشتركة ووحدات مكافحة الإرهاب، المتهمتين بأن الأميركان هم من أسسهما واختار قادتهما ودرّب عناصرهما.
ورغم أن العبادي ليس بعيدا عن تحركات المالكي، ويعرف أن الأخير لا يهدأ ولا يستقر إلا بعودته إلى الحكم من جديد، غير أنه في موقف لا يحسد عليه، إذ يلوذ بالصمت مرة، ويلـمح بالحزم تارة، لكنه في كلتا الحالتين لا يستطيع اتخاذ قرار حاسم بتقييد حركة المالكي ومنعه من المضي في خططه الانقلابية، خوفا من الصدام معه وما يترتب على ذلك من تداعيات على المشهد السياسي المضطرب.
فالعبادي يقر بأنه يتعرض إلى هجمة يقول إنها ظالمة وتستهدف إفشال حكومته وإحراجه شخصيا وإعاقته عن تنفيذ إصلاحات يتطلع إليها، ويدرك سلفا أن المالكي يتربص به ويعمد إلى التشويش على أدائه وإظهاره كرئيس وزراء ضعيف. ولكن مشكلة العبادي تكمن في شخصيته الحائرة التي تفتقر إلى المواجهة، ولا تعي جيدا الخطر الجدي الذي يتهدد مستقبله السياسي، الأمر الذي أتاح للمالكي أن يلعب في الساحة وفق رغباته وخياراته بحرية دون خوف من أحد. وقد اتضح ذلك في الأسبوع الماضي عندما حرض حزب الدعوة أنصاره في الكوت على استقبال العبادي الذي تفقّدَ جامعتها، بهتافات جارحة، وإلصاقها بالتيار الصدري الذي سارع زعيمه مقتدى الصدر، بالتبرؤ منها مشيدا بحيدر العبادي واصفا إياه بأنه رجل الإصلاح والوحيد البعيد عن جرائم الفساد، في رد واضح، فند فيه اتهامات المالكي، ومنح العبادي جرعة دعم وتأييد، وفسحة للتفكير في اتخاذ خطوات تساعده على تحجيم خصومه وكشف أغراضهم، ولكنه لم يستثمر الجرعة والفسحة بما يخدم موقفه، وظل مترددا ينتظر فرجا لن يأتي.
أثبتت الأحداث منذ تولي العبادي رئاسة الحكومة في سبتمبر 2014 أن المالكي لا يكل ولا يمل، في منهجه المنظم لمحاصرة العبادي وافتعال الأزمات أمام حكومته وإدخالها في مناطق خطرة. فمثلا كشف النقاب مؤخرا عن اتصالات أجراها زعيم حزب الدعوة مع قيادة الحزب الكردي التركي الـ”بي كا كا” المتركزة في سنجار غربي الموصل، وثمة معلومات مؤكدة تفيد بأن مقاتلي هذا الحزب، يقبضون رواتب شهرية من ميزانية الحشد الشعبي ويتلقون أسلحة ومعدات عسكرية من مستودعاته. وهدف المالكي واضح، ويتمثل في توتير العلاقات العراقية التركية التي هدأت بزيارة بن علي يلدريم رئيس الوزراء التركي إلى بغداد في الشهر الماضي ونجاح محادثاته مع العبادي. والمالكي هو نفسه، لا غيره، من أوعز لحليفه حزب الاتحاد الوطني بالاستيلاء على شركة نفط الشمال في كركوك، كما صرحت النائبة الكردية بيريوان خيلاني، لمنع تدفق النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي، والتمهيد لتنفيذ مشروع نقل نفط كركوك عبر الأراضي والموانئ الإيرانية.
المالكي لا يريد للعبادي أن يستمر في رئاسة الحكومة حتى الانتخابات النيابية المقبلة في أبريل 2018، ونسب إليه في اجتماع مع قادة الحشد في مكتبه، خصص لمناقشة قضية الأغلبية السياسية، قوله إن العبادي “سيضيعنا” إذا جرت الانتخابات في ظل حكومته الحالية، وقد نقل هذا الكلام إلى العبادي من مصادر عدة. لكن الأخير ما زال يتوهم أن واشنطن ومرجعية النجف معه، وتمنعان تقويض حكومته، مع أنه يعرف أن المالكي يستطيع تغيير جلده في أي لحظة، لأنه بلا مبادئ أو قيم سياسية وأخلاقية.
نقلا عن العرب