لا أؤمن بنظرية المؤامرة لأنها تبعد النظر عن الظروف الموضوعية المحيطة بأي مشكلة وهي أيضا ً أبسط الطرق للتملص من المسؤولية بإلقاء اللوم على الآخرين. ونظرية المؤامرة لايوجد أسهل منها, فقط فتش عن المستفيد والصق التهمة به من دون الرجوع إلى أي حقائق موجودة على الأرض, وإن وجدت فمن السهل تبريرها أوتحريفها, ومما يساعد على قبولها أن الغالبية من شعوبنا وأناسنا مهووسون بكل ماهو أسطوري خرافي غيبي إضافة للجهل والأمية والتعصب الديني إذ لايهتمون كثيرا ً بموضوع الحقائق والدلائل. فبالأمس كانت داعش لدى البعض صنيعة إيرانية سورية واليوم نفس هذا البعض يتحالف مع داعش ويعلن عن ذلك ليعود مرة أخرى لمقاتلة داعش, بل كانوا يقولون أن لاوجود لداعش أصلا ً وأن وجدت فقد أوجدها المالكي ليجد له ذريعة بقتل أهل السنة في العراق. وفي الإتجاه الآخر, يقول المالكي أن النجيفي من تآمر على الموصل وسلمها لداعش وأن دول أقليمية وراء الموضوع, إلا أن بعض أمراء داعش اليوم يعيشون في بيت النجيفي أثيل وأخيه أسامة. يقول الكاتب في صحيفة الأندبيندنت باترك كوكبورن أن نظرية المؤامرة أداة هدامة لأنها تحرف الحكومات عن الرؤية الصحيحة بتحديد الخلل من خلال إلقاء اللوم على الآخرين في مقال كتبه عن المهووسين بنظرية المؤامرة.
شخصيا ً بدأت أؤمن بنظرية المؤامرة لكوني من هذا الشعب المسكين الذي تنطلي عليه أبسط الأشياء لأنه وببساطة لايقرأ وأن قرأ فلا يستقصي فهو مسلم أمره إلى قيادات سياسية ودينية تكذب عليه حينما تصغر الإنهزامات وتكبر الإنتصارات وهي من تملك المنابر ووسائل الإعلام وهكذا. لقد بدأت بالإيمان بنظرية المؤامرة لأني إلى الآن لم أجد تفسيرا ً واضحا ً وشاملا ً لما يحدث مستند على حقائق لاتقبل الشك.
ولكن من قال أن لاحقائق هناك؟ نعم, يوجد هناك الكثير من الحقائق ولكن الإيمان بها يثبت بأن لاتوجد هناك مؤامرة بل أنصاف مؤامرات, بالضبط كما توجد هناك أنصاف حلول ومناطق رمادية وأرض حرام وأشياء من هذا القبيل.
من كل مايدور, على الأقل رشح لنا أن هناك حقيقتين لايمكن لأي عاقل ومنصف دحضهما, الأولى أن مايسمون بثوار العشائر وبعض البعثيين القدامى وبعثيي الدوري وبعض الفصائل المسلحة قد تحالفت مع داعش لإسقاط الموصل في عملية تم التحضير لها من شهور عديدة بغض النظر عن الصدام الأخير بين الجهتين. وهذا واضح بتصريحات مايسمى بقادة الحراك السني وادعائهم بأن داعش جزء من هذا الحراك أضف إلى ذلك أن داعش لاتستطيع وحدها مسك الأرض بعدة الآف فكيف بثلث مساحة العراق وأن لاقتال داخلي في بادئ الأمر بين تلك الفصائل وداعش على الأرض أو السلطة مما يدل على أن هناك تنسيق عال المستوى بين داعش وباقي الفصائل. ولكن هل بتلك المؤامرة فقط سقطت الموصل بيد المسلحين؟
ربما لا, فتلك هي نصف المؤامرة! أما النصف الآخر فيقبع في الطرف الآخر من الصراع. ولكن كيف لنا أن نفهم بأن الحكومة ويمثلها المالكي فسحت المجال لداعش بإحتلال الأرض وأخذ المال والسلاح بتلك الكمية ثم تعود إلى مقاتلتها فهذا الشيء قد أضعف المالكي كثيرا ً بالحصول على الولاية الثالثة. أنا لا أصدق بكل هذا الهراء, ولكن, نعود إلى أن هناك حقائق لايمكن دحضها وهنا لابد من ذكر الحقيقة الثانية وهي أن هناك الكثير من الوثائق والدلائل التي تشير إلى أن الكثيرين قد حذروا حكومة بغداد من سقوط الموصل, فالتحذيرات جائت من الأكراد الذين رفض المالكي مساعدتهم والأتراك الذين أبلغهم النجيفي بسقوط الموصل قبل أيام وأخيرا ً الولايات المتحدة قبل أيام حين كشفت بأنها حذرت المالكي بأن الموصل ستسقط.
أضف إلى أن أغلب المحللين السياسيين والمراقبيين العسكريين الغربيين كانوا يحذرون منذ شهور من سقوط الموصل وأنهم كانوا يكتبون التقارير إلى حكوماتهم بأن الموصل الممول الرأيسي لداعش وأنها للحكومة نهارا ً وللمتطرفين ليلا ً. لماذا لم يتخذ المالكي أي أجراء يحول دون سقوط الموصل, وهل سمح المالكي بسقوط الموصل؟
سأزعم أن كل من المالكي والثوار هلاميون لاتجد لهم ملامح واضحة لفهم سلوكياتهم أما داعش فهي الشيء الوحيد الواضح لذلك لاتجد في داعش من يتحدث عن المؤامرات فهي تطلب المبايعة من كل من ينضوي تحتها من فصائل وتفجر المساجد والأضرحة وترفض المسيحيين وتقتل الشيعة والسنة ممن لم يواليهم, فهذا سلوكها منذ نشئتها وهي لاتستطيع الكذب على أفرادها القادمين من كل بقاع الأرض فأن كذبت سينفضوا عنها عاجلا ً أم آجلا ً ولهذا السبب هي لاتتهاون ولاتتفاوض وتمعن بالقتل بدون إستثناء وهذا سر من أسرار تفوقها. أما الهلاميون والنبدأ بالثوار الذين تحالفوا مع داعش بنصف المؤامرة وهم يعلمون سلوكيات داعش ويعرفونها حق المعرفة ولنصرة سوريا والجيش الحر تجربة مريرة مع داعش لم يستفيدوا منها. فهم يحملون وزر داعش بعد أن تبنوها كالدوري والضاري والحاتم وبعض السياسيين الحالمين الرافضين لكل ماهو ديمقراطي ولم يتجازوا بعد عقدة السلطة عند أهل السنة. لكنهم اليوم بدأو بالتنكر لداعش بعد أن مسهم الضر وقبل يومين كانوا يكيلون لها المديح لأنها وفرت الأمن والأمان لأهل الموصل, والغريب في الأمر أنهم لم يقدموا دليلا ً واحدا ً ملموسا ً بأنهم موجودون على الأرض بعمليات قتالية ضد الجيش أو ماشابه ذلك فكل الذي على الأرض هم داعش وهم يجلسون في أربيل يصرحون وفي عمان يعقدون المؤتمرات وماهم إلا زعامات كارتونية. وليس داعش ممن يعطي أنتصاراته لغيره كالمثل العراقي (يجد أبو جزمة وياكل أبو كلاش) أي لايعطي من يلبس الحذاء كده لمن يلبس النعل, بل هي أعلنت خلافتها والقت بما يسمون بالثوار في زوايا الفضائيات يصرخون ويزعقون ويبحثون عن إنتصارات موهومة أما داعش فهي التي على الأرض.
لقد كان هذا النصف الأول من المؤامرة أما النصف الثاني فهو أكثر غموضا ً. لماذا سقطت الموصل رغم كل التحذيرات للمالكي؟ هل وصلت تلك التحذيرات للمالكي أم لا؟ وهل تجاهلها إذا كانت قد وصلت إليه؟ ولمن راقب سلوك المالكي ومن حوله ممن يصيغون سياسية حزب الدعوة ودولة القانون سيلاحظ أنهم يعتمدون على فكرة تأجيل الأزمات وأبرازها في الوقت المناسب, هذا من جهة ومن جهة أخرى هم لايعترفون بأي مرجعية دينية أو سياسية. كلنا يتذكر خطاب دولة القانون في كربلاء في التحضير للإنتخابات البلدية حيث حذر المالكي من عودة البعثيين والمتطرفيين التكفيريين في الوقت الذي كان مفترض به أن يتحدث عن الخدمات في انتخابات تمس هموم المواطن اليومية. ولكنه وجه الأنظار لما كان يحدث في الفلوجة لتحشيد الرأي العام الشيعي لكسب الولاية الثالثة وما أن بدأ التحضير للإنتخابات النيابية قبل أشهر حتى تفجر الوضع في الأنبار, فهل كان الأمر صدفة؟
لقد بدا الأمر وكأن الوضع تحت السيطرة ببث أشرطة ضربات سلاح الجو العراقي مستهدفة الإرهابيين وملاحقتهم في الصحراء كرسائل تطمينية. كان هذا الوضع مريحا ً لإيران وبعض المتطرفين الشيعة ممن يرون أن الأنبار هي بؤرة الإرهاب والسيارات المفخخة التي كانت وماتزال تعصف بمناطق المدنيين الشيعة وكان هناك دعم أمريكي مشوب بالحذر لمحاربة التطرف بمساعدات أمريكية بصواريخ هيل. ولنعود لسلوك المالكي الأخير, فهو أدهش سليماني بأنه لن يتخلى عن السلطة بعد أن طلبت منه ذلك كما ذكرت الواشنطن بوست وطمئن الأمريكان بأن رئيس الوزراء سينتخب ضمن المواقيت الدستورية وسيشكل حكومة وحدة وطنية تجمع كل الأطراف وتغافل عن تحذيرات المرجعية الدينية التي طلبت منه تلميحا ً
وبوضوح الرحيل لكنه بعث لها باشارات بعدم التدخل بالسياسة.أما مايحدت على الأرض فإنه شيء آخر, فهناك قتال من قبل الجيش والميليشيات المنضوية تحته منذ أسابيع في تكريت لتحقيق أنتصارات يمكن أستغلالها سياسيا ً ومحرقة ضحاياها أولاد الخايبة بأسم الدين والمذهب والوطن. والحق يقال لولا أولاد الخايبة لكان العراق الآن في خبر كان إلا أن المالكي يستغل هذه الأنتصارات سياسيا ً مجيرا ً أياها لصالحه. لقد تجاوز المالكي سياسات أيران وأمريكا والمرجعيات الدينية والسياسية في العراق بعد أن أستغل فتوى السيد السيستاني لأعادة الوضع على ما كان عليه بعد أن خرج عن السيطرة.
أعود لسؤال نصف المؤامرة الآخر وهو, هل سمح المالكي بسقوط الموصل؟ شخصيا ً لا أعتقد ذلك ولو أعتقدت فسأتهم الأكراد أيضا ً بأنهم شركاء بالمؤامرة لأنهم كانوا المستفيد الأكبر منها وأن هناك الكثير من الاتهامات بأنهم سهلوا سقوط الموصل بمساعدة الجيش بالإنسحاب. ولكن, هل نستطيع أن نقول أن المالكي ترك الحبل على الغارب ليسمح لإنتصار محدود يحرزه بعض المتطرفين ليخرج لاحقا ً عن السيطرة؟ إذ أنه لم يحسب الحساب لداعش في قراءة ميدانية خاطئة وعدم معرفته بالنصف الآخر من المؤامرة وقد عد العدة بعيدا ً عن أيران فالموضوع لم يكن ليبدو كما هو سيء الآن. هل كان الوضع في الموصل سيبدوا كما في الفلوجة ولكنه خرج عن السيطرة كما خرج موضوع داعش عن سيطرة بعض القيادات الدينية والسياسية السنية بالإتفاق مع قوى أقليمية التي لم تقدر حجم قوة داعش؟
كل تلك مجرد تكهنات مبنية على أنصاف حقائق ولكنها تغذي لفكرة المؤامرة التي أكتمل نصفيها بسقوط الموصل إن كان المالكي قد خطط لها أم لم يخطط, فهو متهم بإكمال نصف المؤامرة وإن لم يعلم. ولايعلم أحد أيضا ً إن ظهرت بعض الحقائق الجديدة لتجعل للمؤامرة ثلاث أثلاث فالله أعلم, ولكن الواضح والأكيد بأن داعش أكثر وضوحا ً بأجندتها الأقليمية العابرة للحدود وبمشروعها الخلافوي من كل الهلاميين الذين يختبئون خلف الشعارات البراقة كالثورة دفاعا ً عن مظلومية أهل السنة أو ممن يقاتل دفاعا ً عن الوجود الشيعي المهدد من داعش وأخواتها.