لو القينا نظرة على الخارطة الشيعية العراقية بشقيها المرجعيّ الحوزوي واحزاب الاسلام السياسي نجدها واضحة المعالم ،ولا وجود جماهيري لاي من الاحزاب والتكتلات، خارج تلك المحاور التي يسمعها المزاج الشيعي العام بنسب متفاوتة.(ناهيك عن التيار المدني والعلماني في الرقعة الجغرافية الشيعية).
فهي من حيث التأثير والنفوذ الشعبي على الشكل التالي:
– مرجعية النجف الكبرى بزعامة الامام السيستاني التي لها اليد الطولى في القبول الشيعي ،من حيث الفتاوى والتوجيه الشعبي بواسطة وكلائها. وزعامتين أخرتيّن تسّتمد النفوذ من مراجع غائبة متمثلة بما يأتي:
– مرجعية الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر رحمه الله ،وهي المرجعية التي يعدّ التيار الصدري بقيادة السيد مقتدى الصدر الوريث الشرعي لها .. صاحبة النفوذ الشعبي على ارض الواقع.
ورغم محاولة الآخرين استخدام اسم مرجعية الشهيد الصدر غطاءا لتكوين تيارات بعيدة عن قيادة السيد مقتدى الصدر ،مثل الشيخ اليعقوبي بحزب الفضيلة، وعصائب اهل الحق بقيادة الشيخ الخزعلي واخرين، وبالدعم اللامحدود لها من طهران، ظلت تكتسب شرعيتها من صورة الشهيد الصدر المعلقة في مقراتها ولم تتمكن من العمل خارج عبائتها رغم تقاطعها الجزئي او الكلي مع السيد مقتدى الصدر. – مرجعية السيد محسن الحكيم التي يستمد المجلس الاسلامي الأعلى الاسم التاريخي لتلك المرجعية .. ولكنها لم تعد مؤثرة شعبيا وذلك للتباعد الزمني في غياب الأثر الروحي لدى الفرد الشيعي، وان امتدادات تلك المرجعية عاشت في ايران، وفي خضم الصراع السياسي أفقدها الالق الروحي التقليدي المؤثر في الساحة الشيعية.
بالعودة لحزب الدعوة الاسلامي، اقتصر منذ تاسيسه على طبقة نخبوية … وفي التضليل الأمني لتنظيماته السرية كان يعول على العلاقة الخيطية بين العضو والمسؤول، دون وجود اي مؤشر للانفتاح الجماهيري قبل عام ٢٠٠٣ .. وقد ظَل ذلك الحزب متبوتقا، وما حصل عليه من شهرة اجتماعية هو الخطأ الفادح الذي اقترفه نظام صدام حسين حين ادخل مادة قانونية جزائية في قانون العقوبات العراقي تجعل عقوبة الإعدام لكل من انتمى لحزب الدعوة .. وبذلك سمّيت جميع الحركات الدينية بمختلف اشكالها وصنوفها باسم حزب الدعوة في إصدار الأحكام بحق أعضائها .. في حين ان هنالك تباين فقهي في المرجعية الدينية لتلك الاحزاب ، فقد كانت المرجعية الفقهية للمجلس الاسلامي الاعلى هي ولاية الفقيه، في حين كان وقتها حزب الدعوة يعد مرجعيته الفقهية السيد محمد حسين فضل الله قبل انكفائته الاخيرة بالالتزام الفقهي بولاية الفقيه. ويمكن ان يتبادر للقارئ سؤال:
وكيف تقرأ مقرات حزب الدعوة المنتشرة في بغداد ووسط وجنوب العراق وتنظيماتها؟
يمكننا الإجابة:ان الرقعة الجماهيرية التي نظمها حزب الدعوة بعد ٢٠٠٣ كان الغالبية منها امتدادات مصلحية لتوزيع الوظائف للأنصار والمؤيدين وقد تنحلّ عقد الغالبية العظمى لذلك الانتماء بعد اول انتكاسة انتخابية ومغادرة السلطة لقياداته.
وما حدث لحزب الدعوة من انشقاقات في قيادته السياسية، وكان اخرها وضوحا إبعاد الجعفري لصالح المالكي، وبعدها العبادي عن المالكي وهكذا دواليك ،كل من يغادر له مجموعة من الدعويين يصطفّون بجواره.
لا يخفى على القاريء ان حزب الدعوة اكثر تدبيرا من الاحزاب الاسلامية الاخرى في حياكة دفة الصراعات الطائفية واستثمارها دون النظر لآثارها، شبيه بما تتقدم به حركات الاخوان المسلمين، وهو استخدام العجلة الانتخابية الديمقراطية وبمجرد الوصول للحكم يتم الارتداد عن كافة الممارسات الديمقراطية بذرائع شتى وخلق المناخات الملائمة لاحياء الصراعات المفّتعلة، بغية تشتيت الرأي العام والسيطرة على مقاليد الحكم.
لقد تأتت لحزب الدعوة فرصة تاريخية باستلام مقاليد الحكم بالموافقة الامريكية والدعم الايراني وبميزانيات انفجارية بحكم الازدياد المهول لاسعار النفط .. ولكن ما لمسناه وشاهدناه هو تفشي الفساد والمحسوبية وسرقة المال العام وتوظيف السلطة لخدمات الحزب الانتخابية وتنمية المجاميع وتمويلها وتجهيزها عسكريا خارج نطاق سلطة الدولة التنفيذية منذ عام ٢٠٠٥ وحتى إصدار قانون الحشد الشعبي ،لإعلان جيش رديف مشابه للحرس الثوري تطابقا مع الرؤية الإيرانية.
وبذلك فقد الحزب مصداقيته السياسية والتاريخية بعدما أعلن أعضاءه ان استمرار المالكي كقائد ضرورة أوحد، هو الخيار الوحيد للقبول .. وحتى السيد العبادي العضو العريق في قيادات حزب الدعوة حين تسلم رئاسة الوزراء كشر المالكي ومناصريه من حوله أنيابهم ورفضوا رفضا قاطعا توزيره.. وما نشاهده من حملات التسقيط بغية سحب البساط من حكومة العبادي هي محاولة لتوزير المالكي ثانية على راس الحكومة.
وما وقع به حزب الدعوة بقيادة المالكي من خطأ تاريخي بإقامة مجالس الاسناد في المناطق الشيعية بغداد جنوبا لغرض المساندة والمؤازرة بشراء الذمم لتلك التجمعات العشائرية وما أفصح عن تبني ذلك المشروع هو إصدار قانون العشائر لاستخدامه ثانية في الانتخابات القادمة، ويعد رصاصة الرحمة في جسد الدولة المدنية واستبدالها بالنظم العشائرية والرجوع لاحكام القبيلة لتتوقف سيادة القانون.
ولا يخفى ان طهران راهنت كثيرا على المالكي لان فترة تسلمه زمام السلطة كانت الفترة الذهبية للتدخل الايراني في العراق للتداخل في مفاصل الدولة واحكام القرار بما ينسجم ورؤاها .. ولكن ما عاد الرهان على المالكي خيارا لطهران ،بعد الدعم اللامتناهي للسيد عمار الحكيم في تسلمه رئاسة التحالف الشيعي، والقشة التي قصمت ظهر البعير الزيارة الاخيرة للمالكي الى المحافظات الجنوبية ودخوله في مجابهة مع الجماهير الساخطة من جراء افعاله، وإعلانه بتوجيه صولة فرسان ثانية بحق المتظاهرين، وبذلك تمّ اعلان السقوط المدوّي لحزب الدعوة .. ولا عزاء لمن بدد ثروات العراق وسلم ثلث البلد للحركات التكفيرية وشرع للفساد الحكومي من أوسع ابوابه ويسقط الحقوق الدستورية لحماية المتظاهرين بوعده صولة الفرسان ثانية.