في مَرحَلة المُعارضة لنظام سياسي مُعَيّن غالباً ما يَتفّق الأضداد مَع بَعضهم البَعض، لأنهم مُجتمِعون آنيّاً على هَدَف أهَم يُوحّدهُم، رَغم الاختلافات التي قد تكون خافية مَطمورة في عقولهم الباطِنة. وهذا ما حَدث مع مُعارضة نظام صدام التي جَمَعت في صُفوفها الإسلامي الشيعي والسُني، والقومي الكوردي والعروبي والتركماني، والعلماني الشيوعي والليبرالي والجمهوري والمَلكي! في خلطة مُتناقِضة وغير مُتجانِسة لا يُمكن لها أن ترى النور سوى في مُعارضة نظام دكتاتوري قمعي كنِظام صدام. ونفس الأمر تكرّر بدَرجة أقل في مُعارضة نظام المالكي، الذي كانت طائفيته وفساده ودكتاتوريته وفشَله أسباباً دفعَت أضداداً مُتمَثلةً بشُركائه في الحكومة بَدئاً بالساسة السُنة مُروراً بالساسة الأكراد وصولاً الى حلفائه ضِمن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بل وضِمن الدعوة نفسه الى تشكيل جَبهة قوية مُعارضة له ولسِياساته الرَعناء التي أودَت بالعراق الى شَفير الهاوية وحافة الإنهيار. لذا فشَخصية المُعارض قد تضطر ببَعض الأحيان الى التغاضي عن بَعض الثوابت وتَجاوز الأساسيات لصالح العُموميات التي قد تبدوا في مَرحلة ما أكثر أهَمية وأولوية. أما مَرحَلة السُلطة فتحتاج الى شَخصية رَجل دَولة تتحَمّل المَسؤولية وتتخِّذ قرارات مَبدأية، وهي أمور تحتاج من المَرء العَودة الى الثوابت والأساسيات التي نَشأت عليها الشَخصية وترَبّت وتكوّنَت على أساسها وطبَعتها بما فيها مِن أفكار وعادات،العَودة الى الجذور والمَخزون الاجتماعي والفكري والثقافي والنَشأوي الذي غالباً ما يَنعكس إما سلباً أو إيجاباً على شَخصية رَجل الدولة ويُحَدّد أطرها العامة، والتي قد يُكتب لها الفشل أو النَجاح بحَسب الظروف والمُعطيات.
المِثال الحَي على وجهة النظر السابقة هو شَخصية كل مِن نوري المالكي رئيس وزراء العراق الأسبَق، والدكتور حيدر العبادي رئيس وزراء العراق الحالي، والإختلاف الواضح بَينهما رغم تشابهُهما في بَعض العُموميات. فرَغم أن الرَجُلين مِن نفس الطائفة الدينية والتيار الفكري والحِزب السياسي، وهي عُموميات مُهمة لا يُمكِن إنكارها، جَعلت مِنهُما رَفيقا دَرب بحِزب سياسي واحِد كان يُعارض النظام السابق، إلا أن الخصوصيات التي تفَرّق بَينهُما رُبما أهَم وأكثر، وتتمَثل بالنشأة المُختلفة لهُما، وطبيعة البيئة الإجتماعية التي عاشا فيها، والتأهيل الأكاديمي الذي تلقاه كلاهُما. فالمالكي مِن بيئة ريفية وتربى بمُجتمع مِن لون ديني ورُبما طائفي واحد، أغلب عَمائمه سوداء وكل النساء فيه بعَباءة أو مُحَجّبات، لذا فالآخر بالنسبة أليه شبيه له أي مُسلم وشيعي غالباً، وحَتى دِراسته وعَمله كانا ضِمن نطاق حدود العراق ومُحيطه، وفي أجواء لا تختلِف كثيراً عَن أجواء نشأته، فقد دَرس في أربيل وعَمل في الحِلة ومارس نشاطه السياسي في قم ثم السيدة زينب في ريف دمشق، لذا كان إختياره لرئاسة الوزراء جَريمة بحَق العراق وتحميلاً له فوق طاقته وعِبئاً على شَخصيته المُتواضعة بفكرها ونشأتها. أما العبادي فقد قضى الجزء الأول مِن حياته في بيئة مَدَنية، وترَبّى بمُجتمع بغداد المُتنوع المُتلون، والآخر بالنسبة إليه ليس بالضَرورة شَبيه له، بل إنه قد يَكون مُسلِماً سنيا أو مسيحياً أو صابئياً أو إيزيدياً، وعيونه مُعتادة على رؤية المَرأة بعباءة أو حِجاب أو جَدائل تتطاير مَع نسيم الهواء، أما الجزء الثاني مِن حياته المُتعلق بالدراسة والعَمل فقد قضاه في بريطانيا وبَين مجتمعها المتلون بكل ثقافات العالم، بالتالي فهو أكثر إنفتاحاً وقدرة على التعاطي مَع التنوع الإثني الطائفي والديني الذي يُمَيّز المُجتمع العراقي ويُعَقِّده، وعلى إستيعاب الآخَر وفهمه أكثر مِن سَلفه.
لكل هذه الأسباب لم نتوقع خيراً مِن المالكي مُنذ ولايته وأيامه الأولى بالسُلطة، بل وحَذرنا مِراراً وتكراراً مِن الإفراط في التفاؤل بنَجاحه لأنه فِكرياً ونَشأوياً وكارزمياً لا يَمتلك أسباب هذا النجاح، خصوصاً بَعد أن كشّر عَن أنيابه التسَلطية في بداية ولايته اللاشَرعية الثانية، والتي إغتصَبها مِن مُستحِقها الأول الدكتور علاوي الذي فاز في الإنتخابات وكان الأحَق منه بتشكيل الحكومة، لولا تشَبّثه بالسُلطة وإستغلاله للمَحكمة الإتحادية لتحريف النصوص الدستورية لصالح بقائه فيها، والتي لم يكن يَستوعِب ضَياعها مِنه لأنها جائته على حين غُرة وليسَ عَن إستِحقاق، فمِثله لم يَكن يَحلم يوماً بأن يُصبح قائِم مقام! فكيف رئيس وزراء يَأمُر فيُطاع، يَعيش بالقصور وتفرش له البُسُط الحَمراء ويَستقبله الملوك والرؤساء! لذا أصابته هستيريا العَظَمة التي عادة ما تصيب أمثاله مِن مُحدثي النِعمة حينما تتاح لهُم السُلطة، وبات هَمّه الأول الحِفاظ عليها، حَتى وإن كان بالمَحسوبية والفساد، أو على حِساب دِماء الناس ومُستقبل البلاد.
أما العبادي فهو اليوم أمام تحَدّي أن يَنجَح أو لا في السَير بإتجاه مُختلف عَن الذي سار فيه سَلفه، لإختلاف نشأته وبيئته وتركيبته الإجتماعية والأكاديمية عَنه، وهو أمر لا يَزال للآن مَثار جَدَل العراقيين بَين مُتفائل ومُتشائم بسَبب بُطأ العبادي في حَسم الكثير مِن المَلفات العالقة والشائِكة في بُنية الدولة العراقية أو تغاضيه عنها، إلا أن طريقة تعاطيه مَع المَشاكل التي ترَكها له سَلفه والتحَدّيات التي تواجهه منذ توليه السُلطة، تنُم حَتى الآن عَن عَقل مُتفتح وذِهنية واعِية توحي وتبَشِّر بالخير، وهذا يُؤيد ما أشَرنا اليه آنفاً مِن أن التربية والبيئة والنشأة والعَين الشَبعانة والتحصيل الأكاديمي جَميعها أمور تلعَب مَع بَعضها البَعض دوراً أساسياً في بَلورة شَخصية الإنسان وتنعَكِس على تعامُله مَع الأحداث والأفراد.لذا هناك اليوم تفاؤل حَذِر وبَصيص أمَل بَسيط بالعبادي، ليسَ في النهوض بالعِراق، لأن هذا أمر شُبه مُستحيل وعَكس السُنَن الكونية ولا توجَد له مُقومات بَشرية ومادية، ولا يَقدِر عَليه لا العبادي ولا غيره بالوقت الحاضِر، بل في أن يَنجح على الأقل بإيقاف إنهيار العراق وسُقوطه في الهاوية، وإبقاءه على الأقل بالنقطة التي هو فيها الآن، وإيقاف نزيف دَم أبنائِه الذين يَقتل بَعضَهم بَعضاً قبل أن يَقتلهم الغُرباء.