ماذا فعل المالكي كي ينقسم الناس حوله ؟ بين من يدافع عنه باستماتة إلى درجة يصور فيها إن لاوجود للعراق دون وجوده ؟ وبين من يصور بقاءه في رأس الحكم ،خراباً للعراق ودماراً لما تبقى ؟
هل أصبحت المعادلة تدور بين الطين والعجين ؟ لكن هل يُخبز الطين أو يُفخر العجين ؟ وأيهما أولى بالإهتمام ،أسبقية الطين أم أحقيّة العجين ؟ لاشك إنه سؤال مربك ،فمن يفكرّ بإختيار الطين ومايحمله من تلوّث وملوحة ، بل وانتقاده من قبل شاعر مهجري (نسي الطين مرّة – – ) ولايختار العجين بما يعد به من خبز طازج أو حلوى شهية ؟ ألم تصف الأغنية الشعبية رائحة الأحباب كخبز التنور ( ريحتكم خبز التنور ) فأين المقارنة إذاً ؟ وأين هي رائحة خبز المالكي التي أغدقها على الشعب ؟
ليجرب أحد الإجابة عن تلك المسألة غير الرياضية ، وسيرى إمتداد التداخل بينهما إلى ما لانهاية ،وبالتالي يجد نفسه في حيرة من أمره ،فما أن تبرز أفضلية لهذا، حتى تنبز خصلة لذاك تجعله أفضل ، فمن الطين خُلق الإنسان – وومن خلق الطير والحيوان والنبات إذاً ؟ – وهو مصدر الخصوبة في الأرض بما تعنيه من عطاء وماتمنحه من خيرات ، فالطين يستوجب الماء الذي لاحياة من دونه ويحتفظ به كذلك، عكس الرمل الذي لايحفظ عهد الماء ولايصون وداده ، فبأي منهما يمكن وصف حكم الرجل ؟ الطين أم الرمل ؟
العجين هو خلاصة مايمنحه الطين وذروة عطائه ،فهو مصدر الطاقة في الإنسان ومن ثم قدرته على العمل واستغلال الطين في إنتاج مايحتاجه من غذاء،إلا أن الطين قد يسحق بالأقدام ، أما العجين فلا يقبل الإ ملامسة الأيدي ، كذلك يوزع في الحصّة التموينية على شكل طحين ، فيما الطين مبذول لمن شاء ، تماماً كأموال العراق مبذولة لكل من اشتغل بالسياسة .
إنها معادلة صعبة إذا واصلنا الحديث عنها بشكلها المجرد ، لكنها ستصبح مفهومة وملموسة حين نقلبها في الإشارة إلى واقع العراق وهو يتقلب بين الطين والعجين فلا ينتفع بهذا ولايتجنب ضرّ ذاك ، لتبقى حياته كلها مطينة بالطين وليس ليلته وحدها كما يقول المصريون الذين إبتلوا كذلك بما ابتلينا به ليجعلوا
( أيامهم طيناً ).
الأحزاب الحاكمة ومن تبعها استولت على العجين لتملأ أفواهها ، وعلى الطين لتسدّ آذانها وتغلق عقولها ، لذلك باتت خارج تأثير الكلمة التي أرسل الله بها رسله وأنبياءه لهداية البشرية ( في بدء كانت الكلمة )و( اقرأ بإسم ربك ) كما جعلها تؤثر في كلّ كائن حيّ من النبات والحيوان ،إلى الطيور والأسماك ناهيك بالإنسان ، لكنها في العراق صارت إن لم تكن بمدح وزير أو مدير أو موظف كبير أو صغير أو سكرتيرة أو شرطي مرور أو بواب مستشفى أو كل من يوقعك الحظّ الطيني للوقوع بين براثنه ، فإنها إن لم تجلب لك الضرر ،فلن تنفعك قطعاً .
ولما كانت ظاهرة الكذب قد أصبحت (أيقونة ) لمعظم هؤلاء فراداً ومجتمعين ،فقد أوقعتني قرعة النصيب بين فكي واحد من متوظفي الدولة العلية الذي أشبعني وعوداً في اليوم الأول ثم غيرّها في اليوم الثاني لينكرها في اليوم الثلث ( قبل صياح الديك *) وحين لمّحتُ الإ إنني قد ألجأ إلى الصحافة لكشف مثل هذه السلوكيات ، قال وبسمة السخرية ملء شدقيه :أتهددني بالصحافة ؟ أكتب ماتشاء وقل ماتشاء فلن يهمني .
كنت أتوقع ذلك منه بطبيعة الحال ،فأجبته ساخراً بدوري : بمَ تريد أن أهددك إذاً ؟ لستُ إرهابياً لأهددك بعبوة ناسفة ، ولا ميليشاوياً لأهدد بخطفك أو اغتيالك ، ولا نافذاً في حزب أو مقرّباً من (رأس كبير فارغ ) كي أهددك بعقوبة وظيفية ، لذا لا أملك سوى الكلمة ، ومن الطبيعي أن لاتؤّثر في أمثالك ، ففي وقت تحترم الشعوب الحيّة والمتحضّرة الكلمة إلى درجة قد يستقيل رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم ( ريتشارد نيكسون ) مثلاً أو يتنحى وزير خارجية أو مالية في دولة كبرى ، وذلك لمجرد مقال في جريدة تناوله في قضية ما ، نسمع ونرى كلّ يوم عن عشرات الفضائح وجرائم الفساد( الكبرى) التي يرتكبها ( مفاصل ) مهمّة في الدولة وتشبعها وسائل الإعلام بحثاً وتنقيباً ويعرفها القاصي والداني ومع ذلك (تتحرك دكّة غسل الموتى – أما انتم فلاتهتز لكم قصبة ) على وصف مظفر النواب ، فمن أية طينة خلقتم؟ وأي جنس من المخلوقات أنتم ؟ ولماذا خرجنا من بلاء لنقع في بلايا ؟
إن مايحدث في العراق اليوم يذّكر بالفيلم الأمريكي (فجر الأموات )حيث تتحرك الجثث المتوحشة التي فقدت كلّ صلة بالحياة ،لتجتاح المدينة مفترسة من يقع بين أيديها من الأحياء ، ولأنهم أموات أصلاً ، لذا لاتؤثر فيم الكلمات ولا النداءات بما فيها تلك التي يوجهها حتى من كانوا اقرب الناس إليهم قبل موتهم، فهم لايفقهون ولايشعرون ولايتحركون كذلك سوى لافتراس اللحم البشري ، وكلما أكثروا منه إزدادوا طلباً للمزيد .
لاشك إن مخرج الفيلم متآمر علينا باعتباره أمريكياً ، والإ كيف استطاع أن يشخّص واقعنا بهذه الدقّة ويكشف كيف يفترس الأموات – إرهابيون وساسة ) حياتنا بنهمهم المخيف ؟
(*) : إشارة إلى قول السيد المسيح لأحد حواريه : ستنكرني ثلاثاً قبل صياح الديك .