23 ديسمبر، 2024 9:45 ص

المالكي: القدرات القيادية وشراسة الاستهداف المضاد

المالكي: القدرات القيادية وشراسة الاستهداف المضاد

العراق والرسائل الدموية التي مضى على تدفقها المستمر ما يزيد على عقد من الزمن، الواضحة الاصرار على عدم الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي في البلاد، لا تدع مجالاً للشك حول حقيقة ان الوضع الذي كان وما يزال عليه العراق هو وضع استثنائي بإمتياز، وإزاء حال كهذا، فمن الطبيعي أن تقترن فاعلية الإجراءات والمعالجات وجدواها بمدى تناسبها مع طبيعة المرحلة وظروفها الاستثنائية. ومن هذا المنطلق عمدت القوات الأمريكية في العراق ما بعد التغيير 2003 ولحين انسحابها نهاية عام 2011، الى مساندة الحكومات العراقية المتعاقبة في تنفيذ الاجراءات الأمنية والعسكرية الهادفة لتحرير المناطق والمدن التي سيطر عليها الإرهابيون والخارجون عن القانون أو في مداهمة أوكار التطرف وحواضن الارهاب. وفيما بعد، أي السنتين الأخيرتين تحديدا، فإن الحاجة لاعتماد النهج الاستثنائي من قبل حكومة المالكي في أية مواحهة جرت مع الارهاب، هي أكبر من أي وقت مضى، خاصة مع الفراغ الذي نجم عن الانسحاب الكلي للقوات الأمريكية في العراق.

وفي حال التسليم بإستثنائية الوضع في أي مكان وليس في العراق وحسب، فليس من المنصف حينها اعتماد النظريات الجاهزة عند تقييم الاداء المرحلي للحكومة، بل يتطلب ذلك نهجاً يتسع لتناول تفاصيل الواقع دون اجحاف، وبما يعني رسم صورة الواقع العراقي الذي تولىّ فيها السيد المالكي الحُكم والإحاطة بأكبر قدر ممكن من الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية لتلك الصورة، ودلالات وآثار تلكم الأبعاد وما نتج عنها من صراعات والقوى المحرّكة لذلك. ولاشك أن التقييم بهذه المنهجية المُشار اليها يتطلّب دراسات تفصيلية من غير الممكن إيجازها في مقالِ أو بحثِ ،  ولكن، مثلما أشرت في المقالات السابقة لبعض الجوانب والأطراف السياسية، لابد من الإشارة الى بعض آخر من الأمور المهمة التي لعبت دوراً كبيرا في عرقلة الأداء الحكومي تتعلق بمطالب تعجيزية في أغلب الأحيان.. فرغم أن السلطات الثلاث في الدولة قادرة على استيعاب كافة المكونات، ألا أن المتعذّر إن لم يكن هو المستحيل بعينه، أن تكون كافة المكونات والقوى السياسية على خط شروع واحد رؤوساً للدولة.. ولا يتعلّق الأمر كما هو سائد بأزمة الثقة بين المكونات العراقية، أنما يعود للتنشئة السياسية الموروثة للطبقة السياسية الحالية التي إمتهنت العمل السياسي لتمثيل هذه المكونات في مرحلة ما بعد التغيير 2003، والتي ما فتأت تنظر الى دستور الدولة والقوانين المشتقة من الأحكام الدستورية على أنها قرار ات وبيانات انقلابية تدور في فلك التوافقات والمحاصصة والأمزجة أسوة بما كانت تجري عليه الأمور في مجالس القيادات الثورية.!، ويأتي ارتهان معظم القوى السياسية العراقية للخارج الاقليمي المحكوم بالإرادات الملكية والأميرية والسلطانية ليكرّس هذه النظرة الدونية للقانون العراقي، وليجعل من كل محاولة من الدولة لتثبيت سلطة القانون وبسط نفوذها على أراضيها يُعد استبدادا وخروجاً عن المألوف.. أما الشق الآخر من هذه التنشئة البغيضة يكمن في النظر الى الدولة على أنها السلطة التنفيذية وحسب، أما بقية السلطات فهي ثانوية من حيث النظرة المجتمعية و (أقل بكثير) من الطاقات الكامنة في شخصية رؤساء الكتل السياسية.. لذلك وبإستخفاف بالغ أدّى أحد الساسة العراقيين ( رئيس وزراء سابق ورئيس كتلة في البرلمان)  اليمين الدستورية كعضو مجلس نواب بعد54 يوم على أول جلسة. بل كانت وما زالت تصريحاته تتمحور حول التهديد بالإنتقال الى (صفوف المعارضة) في حال عدم تفصيل منصب رسمي تنفيذي داخل الدولة يليق بمكانته السياسية، ولا يقصد بالمعارضة للحكومة العراقية من داخل البرلمان، بل معارضة العملية السياسية جملة وتفصيلا!

وينبغي الاشارة هنا الى المفارقة في التجربة السياسية التي تعكس بأن الشعب العراقي إذا ما قورن بالطبقة السياسية في العراق، بدا أكثر التزاماً في تأدية ما يتعلّق به من دور لإدامة المسار الديمقراطي، وأسرع استجابة لتطوير نفسه مع الواقع الجديد، وأشد إعتزازا بخياراته السياسية، وذلك ما أكدته انتخابات 2014، عندما أصدر أحد المراجع الأربعة الكبار فتوى بتحريم انتخاب المالكي، وكان الرد من قبل الشعب حاسماً وواضحا في عدم الانجرار الى ما أستدرج له في عام 2005.. ليس هذا وحسب، بل ما أن أخذ الكُتّاب والمثقفين الوطنيين العراقيين على عاتقهم إشعار الرأي العام بخطر المحاصصة وآثارها الكارثية على المصلحة العامة والأداء الحكومي، حتى دب الشعور الشعبي الرافض لها في أوساط الشرائح المختلفة، ومن هذا المنطلق، لم تلقى دعوة التحريم أذناً صاغية عندما تسلّح السيد المالكي بشعار الأغلبية السياسية عند خوضه غمار المنافسة الانتخابية الأخيرة.

وهو عين الواقع، فقد كان اعتماد نظام المحاصصة في النظام السياسي الحديث في العراق بمثابة تسليم دفة أمور الدولة العراقية المراد تشييدها بيد حفاري قبرها، وبما جعل من الحكومات المتتالية التي خضعت لهذا النظام، تخطو نحو مراكز القرار حاملة بذور اخفاقها، وأسباب انحطاط أدائها معها.. ولسنا بصدد الدفاع عن السيد المالكي رغم الجزم بعدم وجود البديل الأنسب لإدارة المرحلة إذا ما إقترن الأمر بالخبرة المتراكمة والبرنامج التصحيحي  والإستحقاق الدستوري الذي يؤهله لذلك، ولا لتبرير ما يعتقده البعض إخفاقاً في أداء حكومته، فلا شك أن الحركة في نطاق المسؤولية المحاطة بقيود المحاصصة لا يتوقع منها أن تسفر عن انجاز بمستوى الطموح، بل نسعى ما أمكن لتثبيت الحقائق والتذكير بها بما لذلك من آثار إيجابية تُسهم في تطوير الواقع السياسي وترتقي بالوعي الجماهيري ليكون أكثر حذرا من مصائد المدارس التجهيلية ومطبّات الطبقة السياسية التي حصرت مهامها الوظيفية في تصيّد العثرات الحكومية للترويج لشخوصها وأحزابها وانتهاج التصعيد للوقوف على منصة المدافعين (الأشاوس) عن الطوائف والأعراق، إعتقاداً منهم بأن فشل أو إفشال الآخر يُعد إنجازاً يُعتد ويُحتفى به وهو ما دأبت عليه معظم القوى السياسية في التعكز على المؤاخذات دون أن يكون لها أي دور ايجابي في اطار المسؤولية التي أسندت لها، ان لم تكن قد أسهمت سلبيا.

ومن جملة المؤاخذات التي يثيرها البعض على أداء حكومة المالكي، ما يخص علاقة العراق بالمحيط الاقليمي والدولي، وفي هذا السياق ينبغي تقييم الدور الذي لعبته الديبلوماسية الرسمية وغير الرسمية في عرقلة مسار العلاقات الدولية للعراق في فترتي حكومة المالكي ما قبل وبعد الانسحاب الأمريكي نهاية العام 2011.  وفي هذا الصدد يكاد يتفق جميع المراقبين على فشل الديبلوماسية العراقية المتمثلة في وزارة الخارجية العراقية التي يديرها السيد هوشيار زيباري في تقريب وجهات النظر أو تبديد مخاوف دول الجوار ذات المواقف السلبية المسبقة من النظام السياسي الجديد في العراق أو حتى التقليل من اندفاعها المستميت لتوريد الارهاب الى العراق طوال الفترة الماضية. وعند تناول المحطات الرئيسية والمهمة في عمل وزارة الخارجية العراقية، يلمس الجميع وبوضوح تقاعسا وتفريطاً كبيرين في العديد من القضايا التي تخص الشأن العراقي، وعلى سبيل المثال، بالمقارنة مع الاندفاع الواضح للوفد الأمريكي في الأمم المتحدة والسعي الحثيث للمندوبة الأمريكية آنذاك سوزان رايس لإخراج العراق من البند السابع، كنا نرى في مقابل ذلك، تثاقل أوضح من قبل وزارة الخارجية في هذا الاتجاه وبما دعا بعض الجهات الاعلامية النظر الى تلك الخطوات المتثاقلة بأنها نوع من أنواع  (التواطئ) مع اللوبي الكويتي داخل الأمم المتحدة وإصطفاف واضح مع الديبلوماسية الكويتية على حساب المصلحة العراقية. وخاصة عندما تكرر الفشل الديبلوماسي الرسمي في ادارة أزمة ميناء مبارك التي تمكّن فيها الاصرار الكويتي من حسم الموقف .

كما تعكس التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الخارجية الى وسائل الاعلام والتي وصف بها حكومة المالكي بـ (الظلم والدكتاتورية) تعكس حقيقة وجود مهام أخرى يُرجّح أن تكون (تعطيلية – تضليلية) دأب السيد زيباري على تأديتها طوال الفترة السابقة!.. وإلا فمن غير المعقول أصلاً أن يكون السيد الوزير قد عبأ الجهد الوزاري بإتجاه تأدية دور تكاملي مع حكومة بهذا الوصف (ظالمة وديكتاتورية)، وإن لم يكن الأمر كذلك، فلا يتعدى الهدف من وجوده على رأس الوزارة أبعد من ممارسة هواية السياحة والاصطياف وحسب.

والى جانب الدبلوماسية العراقية الرسمية، فقد لعبت الديبلوماسية غير الرسمية المتمثلة في علاقات رؤساء الكتل والأحزاب السياسية بالأطراف الخارجية أدوارا سلبية في تشوية الأداء الحكومي للسيد المالكي لدى العواصم الاقليمية المعبأة بالأصل ضد النظام السياسي الجديد والساعية لإضعاف واقصاء العناصر الفاعلة والمؤثرة ومساندة الجهات الفوضوية والعابثة. فالسعودية كنموذج بارز في هذا المجال ، سخية العطاء ومفتوحة الأحضان للسيد رافع العيساوي والسيد عمار الحكيم والسيد مقتدى وغيرهم وتمتنع في ذات الوقت من مصافحة يد المالكي التي امتدت اليها مراراً، وقد تمثل ذلك بالرفض لزيارة تقدم بها السيد المالكي لزيارة الرياض عام 2008، وكذلك الرفض لطلب السيد المالكي اللقاء بالملك السعودي على هامش القمة العربية 21 في العام 2009 ، في الوقت الذي أبدى ملك السعودية الرغبة الكبيرة للتصالح مع القذافي على هامش القمة، مع ان القذافي سبق وأن مسح بالملك السعودي البلاط وعلى رؤوس الأشهاد وشاشات التلفزة وهو مالم يسبق أن صدر ما يماثله من طرف رسمي عراقي، إذن المسألة أبعد من أن تكون شخصية وأقرب الى كونها متعلقة في الرفض السعودي المطلق للنهج المتبع من قبل المالكي في محاربته التطرف والإرهاب حتى وأن كان في داخل المكون الذي ينتمي اليه .. وبذلك يأتي الرفض السعودي ليؤكد بأن النبرة التناغمية التي تتبناها وسائل الاعلام المدعومة سعوديا لمغازلة الغرب في مكافحتها للإرهاب (اعلاميا) لا تعكس حقيقة ما يجري في أروقة المؤسسة الدينية التكفيرية ودهاليز القصور الملكية من دعم ورعاية استثنائية للأنشطة الارهابية في المنطقة.

وعند التطرق الى العلاقة مع الجانب التركي، فلم يكن أمام السيد المالكي أو أية شخصية أخرى تتبوأ هذا المنصب سوى العمل على صيانة المصلحة الوطنية والحرص على التداعيات الخطيرة التي تسببت بها السياسة الأنانية للحزب الحاكم في تركيا تجاه العراق..

أن خسارة تركيا الى ما كانت تطمح اليه من نفوذ في دول الربيع العربي، لا يبرر لتركيا الاستدارة للإستثمار في الشأن العراقي لإستغلال ثرواته وانتهاك سيادته واتخاذه منطلقاً للسباق على النفوذ الاقليمي مع ايران.. فقد أفصحت الأحداث مؤخرا عن خطوات تركية سابقة كانت عصية على الدلالة والفهم ، ومن ضمنها انتهاك وزير الخارجية التركي أوغلو لسيادة العراق في زيارته الى كركوك عام 2012  من دون علم وموافقة الحكومة العراقية ودون اللجوء الى القنوات الرسمية والدبلوماسية، ومن ثم تصريحات رئيس الجمهورية عبدالله غل بخصوص شراء النفط العراقي وابتداعه لمصطلحات تنسب الثروات العراقية الى الطوائف والأعراق ويتعامل بها على أن العراق أو على الأقل أجزاءً منه في طريقها للإلتحاق بتركيا وبما ينفي الحاجة الى التقيد بالأعراف الدولية بين الدولتين (من وجهة نظر العثمانيين الجدد) .. حيث يقول الرئيس التركي في تصريحه :” أن ما تقوم به تركيا من شراء وتخزين لـ (النفط الكردي) لا يتعارض مع (الدستور العراقي)”.. وبذلك يكون الحزب الحاكم في تركيا قد نصّب نفسه بديلا عن المحكمة الدستورية العراقية في تفسير النصوص وشرعنة الطائفية الاقتصادية في العراق.

وذلك ما يجعلنا نتوقع  اطلالة مسؤول ايراني فيما بعد يسعى هو الآخر لتسويق مصطلح (النفط الشيعي)، ونود الاشارة في هذا السياق الى الحقيقة التي يغمض البعض عينيه عنها: وهي أن السياسة الايرانية التي نجحت في دعم مصالح مكونات شيعية هنا وهناك في المنطقة أي :(التوظيف الميليشياوي للإمتدادات المذهبية) غير مثمرة في العراق وما يجعلها كذلك هو اختلاف النسبة العددية للمكون الشيعي في العراق عن ماهي عليه نسبة المكونات الشيعية في بقية المناطق الأخرى، وبما ينتج عن هذه السياسة من عرقلة للجهد العراقي الشيعي الموجّه لبناء دولة مدنية وفق نظام ديمقراطي تشكل النسبة العددية لهم فيه على أدنى تقدير ضمانة من أن لا يتعرّضوا للظلم مجددا.. ولا يقتصر الأمر عند حدود إهدار فرصة المكوّن وتعطيل دوره في بناء بلده، بل يعطي الفرصة للقوى الاقليمية الأخرى بالتكالب على العراق أيضاً وهو ما حصل ويحصل منذ التغيير والى اليوم.. ما يهمّنا في الأمر هل كانت هناك من قصدية أو ادراك مسبق لدى الساسة الايرانيون بالنتائج الكارثية الممكن أن تتسبب بها السياسة الايرانية المعتمدة في التعامل مع العراق .. والجواب على ذلك يبدو جليّا في الموقف الايراني السلبي من استحقاق السيد المالكي، في مرحلة توفرت له فيها الظروف للتحرر من قيود المحاصصة وكسر طوق الحلقة المفرغة التي ما فتأ العراق يدور فيها على مدى عقد من الزمن.. فلا  يعكس الاصطفاف الايراني الأخير بوجه وضع الدولة العراقية على المسار الصحيح سوى خشية ايران من إزدواجية الهوية القومية للمذهب في حال قيام دولة مستقرة على هذه الشاكلة في العراق وبما يجعل من الواقع الشيعي بيئة طاردة للاستثمار السياسي في الجانب الميليشياوي.. رغم ادراك القادة الايرانيين بأن هذا النوع من الاستثمار وحتى مع الاعتقاد بسلامة الغايات يشكل وسيلة اغراء تحفز الآخرين للإستثمار في مجال الارهاب أيضا وتمكنهم من شرعنة الفهم الخاطئ للنصوص الدينية واسقاطها في مواضع تسئ لما رصدته تلك النصوص من قيمة عليا للإنسان في كل زمان ومكان. وبذلك لايمكن للمسؤولية عن النتائج المترتبة على ذلك الا ان تكون مشتركة بين جميع الاطراف.

أن ما جرى من اندفاع لتجريد السيد المالكي من استحقاقه لايعكس سوى حقيقة واحدة وهي وجود توافق ضمني أو التقاء مصالح قومية لأطراف اقليمية على تعطيل العراق ونهب ثرواته وهو ليس بالأمر الجديد.. لكن الجديد في الأمر هو استدراج الجهد الأمريكي مجددا لتهديم ما أقدم الأمريكيون أنفسهم على وضع حجر الأساس له في العام 2003.  وقد بات ذلك جليا في الطريقة الالتوائية التي أقدموا عليها في التضليل والتجييش السياسي للغرب والادارة الامريكية على وجه الخصوص لإزاحة المالكي عن استحقاقه الدستوري ادراكا من هذه الأطراف لما يمكن أن تشكلّه الجماهيرية المتنامية والتوجهات الوطنية من انتكاسة للمشاريع الطائفية وما تسهم به من ادامة للمسار الديمقراطي والحياة الدستورية في العراق.

بعد منتصف ليلة الحادي عشر من اب فجر يوم الاثنين (كانت الذريعة والكذبة الكبرى) التي دار صداها أرجاء العالم، والتي زعم فيها التحالف الاردوغاني/ البارزاني (محاصرة قوات تابعة للسيد المالكي للقصر الرئاسي بالعجلات المدرعة وبما يعرض حياة الرئيس العراقي فؤاد معصوم لخطر أكثر من محتمل، نتيجة توجيه الاوامر للقطعات العسكرية بالانتشار في العاصمة والسيطرة على المناطق الاستراتيجية تمهيدا لإنقلاب عسكري من المحتمل ان يعلن عن تفاصيله عبر قناة العراقية صباح الغد ..

وإضافة لما تتسبب به في العراق من بداية نهاية تجربة (العراق الجديد) وازاحة أبرز من يمكن ان يعوّل عليه في ادامة مسارها ، فقد كانت “حدثاً تاريخيا” كما وصفها أوغلو.. وفرصة تاريخية لتسويق الحزب الاردوغاني الحاكم بانه ديمقراطي الشرق وصمام أمانها الأوحد، وبما تنطوي عليه هذه الفذلكة السياسية من تعبئة استباقية دولية لتزكية القرارات التي يطمح اردوغان لتمريرها في البرلمان التركي مستقبلا والقاضية بتوسيع صلاحية الرئيس التركي وتشديد قبضة الحزب الحاكم على مقاليد الامور لإكمال فصول رحلة العبور نحو ضفاف السلطنة، مع الحرص على التقاط الصور مع كل ما يشير الى شخصية كمال أتاتورك كجزء من الفلكلور السياسي الذي يزيّن المشهد ويبدد مخاوف الغرب من التحول التدريجي الخفي نحو (تركيا الجديدة).. وكما فعل الاخوان المتأسلمون مع شارع الهرم في شراء بعض الحانات بدلا من اغلاق الشارع مرة واحدة ليختلط حينها الصفير بالتكبير، كذلك يفعل الحزب الحاكم في تركيا مع المؤسسات الاعلامية والصحف التي لم ينجح في تجنيدها او تحييدها على اقل تقدير.

نعم كانت الفرصة ثمينة أناطت (تركيا الجديدة) مهمة اشعال فتيل الأزمة برئاسة كردستان لتفتعل انقرة اضطراب استثنائي على الخط الساخن مع البيت الأبيض فيضطرب هو الآخر وتضطرب معه كل القصور الرئاسية في العالم. في حين وصف الاعلام التركي بمهنية عالية وموضوعية متميزة الحدث، بما جاء على صفحات صحيفة ديلي حرييت التركية من تعبير قالت فيه : ان “هذا الامر جاء بعد ان صرح المالكي بانه سيرفع شكوى قانونية ضد الرئيس فؤاد معصوم لارتكابه خرق دستوري واضح، متهما اياه بانه تجاهل تكليفه بتشكيل الحكومة باعتباره زعيم الكتلة الاكبر متجاوزا الموعد المحدد للتكليف وهو العاشر من شهر اب”.. وهو ما حدث بالضبط.. لكن، في تقديري لربما كانت هناك مسرحية من هذا النوع،  فمع النفوذ الذي تتمتع به القوى السياسية وتعدد المواقع التي تشرف عليها قوات تابعة لها، فإن تكليف قوة أمنية لتمثيل هذا الدور ليس مستبعداً، ومن الممكن أيضاً ان يكون هناك قوة من هذا النوع فعلا، لكنها تواجدت كإجراء أمني احترازي للحيلولة دون استغلال الخلاف من قبل البعض لتوجيه اعتداء ما وتفجير الوضع الداخلي في العراق..  أي كان الأمر فمن جملة ما تعنيه ردود الفعل السريعة ان للرئيس العراقي فؤاد معصوم دور أساسي في مستقبل الأحداث متفق معه وعليه مسبقا، ومن الصعب تعويض الدور في حال اصرار المالكي على اعتماد السبل القانونية ومن ثم كسب القضية كخطوة أولى لإزاحة الرئيس عن المنصب.. والحال كذلك، فمن الطبيعي أن يكون الحسم غبر قابل للتأجيل ويستحق المغامرة.

وإلاّ مالذي جعل من مجرد النية في ممارسة الحق القانوني (انقلابا) رغم ان الاعلان عن النية كان قد تضمّن تأكيدا مسبقا من قبل المالكي أمام الجماهير العراقية على الإلتزام الكامل بما يمكن أن تقرره المحكمة الدستورية العليا في هذه الشكوى. .إذن لا يُمكن وصف ما جرى سوى انه انقلاب (تركي/ عراقي- قوى المعارضة للحكومة) على الحياة الدستورية في العراق.

ولا شك بأن الاسناد الأمريكي للزعم التركي هو الآخر لم يأت من فراغ ، وانما نتيجة تراكمات سابقة، وما نعتقده ان أهم ما يمكن ان يكون شاخصا في ذهنية صانع القرار الامريكي تجاه الحكومة العراقية هو ما تسببت بها المزايدات السياسية للشركاء والحرص الأكيد للخصوم السياسيين على الدفع بحكومة المالكي الى اتخاذ قرار الرفض للوجود الرمزي الأمريكي والامتناع عن منح الحصانة التي طلبها الأمريكيون للكوادر التدريبية والاستشارية أبان فترة الانسحاب، وهو ما أظهر العراق وحكومة العراق بموقف قد يبدو بالمقاييس النمطية للتفكير بأنه (موقف وطني) لكنه في الحقيقة، وكما نعتقد لم يكن في مصلحة الوطن وبدلالة مسار الأحداث وتداعياتها الخطيرة، ما مضى منها وماهو آت، وأبسط ما يمكن أن يُستدل به، هو أن القوة الجوية العراقية والمنظومة الدفاعية العسكرية  كان من الممكن لها بوجود (المدربين والمستشارين الأمريكيين) أن تكون قد قطعت اليوم شوطا لا بأس به في التدريب والتسليح، تبعا لما يمكن ان يشكله الوجود الامريكي الرمزي في العراق من دافع للتعجيل في عقد وتنفيذ الصفقات وعامل اطمئنان لتوريد التقنية العسكرية الحديثة للعراق، إضافة الى امور ايجابية يصعب حصرها هنا. وعلى الجانب الآخر، ومن وجهة نظرنا أيضا، فقد تسبب مثل هذا الرفض والحدية في التعامل، خيبة أمل كبيرة لدى الأمريكيين لما انطوت عليه البداية (الإستراتيجية) من سلوك هو أقرب الى فض الشراكة بين الدولتين وليس التأسيس لها، فضلا عن عدم ابداء المسؤولية اللازمة تجاه مصلحة البلدين والتجاهل الرسمي التام للتضحيات المادية والمعنوية التي بذلها الطرفان لإعتماد النظام الديمقراطي في دولة فتية ما زالت تحتاج الكثير للوصول الى مرحلة تتمكن فيها من الدفاع عن نفسها بنفسها… ومن جانب الشركاء التعطيليون فقد كان الرفض بهذه الطريقة إيقاعاً لحكومة المالكي في الفخ وبضمنهم الساسة الشيعة الذين كانوا يخشون من أن يؤدي تأسيس من هذا النوع الى توطيد سلطة المالكي أكثر.

 نعم لم يكن القرار صائبا مع الاعتقاد بأن المسؤولية تضامنية في هذا الشأن ولا تتحمل حكومة المالكي وحدها سوء تقدير الموقف، لكن فيما يخص الحكومة العراقية فقد كانت مرحلة تتطلب الحذر الشديد من تجزئة الموقف أو اسقاط العواطف والشعارات الحماسية على قرارات ذو علاقة مباشرة بالمصالح العليا للبلد واستراتيجية بناء الدولة الحديثة، وتقييم الخطوات على أساس المتوقع من النتائج، عندئذ فقط كان من الممكن اعتماد قرارا يستبطن شيئا من الحكمة تسعى الحكومة فيما بعد ذلك القرار، الى استثمار دور العراقيين في الولايات المتحدة لبناء لوبي ضاغط لإدامة مصالح العراق وإسناد حكومته، كان من الممكن ان تكون بديلا عن الأجواء السائدة اليوم، وما تسبب به قرار الرفض من ايجاد أرضية خصبة  للكيدية السياسية والدعاية المضادة للحكومة والدولة العراقية من قبل الأطراف المختلفة وعلى رأسها الجهات السياسية التي فقدت حظوظها لدى واشنطن بعد التغيير 2003.. وبالفعل فقد حظى الخصوم السياسيون وأعداء الديمقراطية مجددا بهامش من القدرة على لفت الأنظار والنفاذ بمزاعمه وتنازلاته المفتوحة الى مناطق لم يكونوا يحلموا بالوصول اليها مجددا.. والى جانب ذلك وفي الجهة الأخرى من الضفاف التي كان يتمركز على ربوعها الاخوة الاعداء ، فما زال الاندفاع الكبير والتواجد الاعلامي المكثف لساسة المجلس الأعلى الرافض لأي تواجد رمزي وأية حصانة للأمريكيين، وكذلك حركة التيار المقتدائي المتلازمة مع الحكيم في ذلك، نعم فان تلك المواقف الانفعالية والتشكيكية مازال الاندفاع العشوائي الذي انطوت عليه ماثلا في الأذهان. وقد رافق تلك المواقف الارتجالية، موقف أكثر انتهازية محسوب بدقة فائقة من رئيس القائمة العراقية وهو ما صرّح به مؤخرا عبر قناة البغدادية قائلا ما نصّه ” كان السيد المالكي قد دعانا لإيضاح وجهة نظرنا بخصوص بقاء الأمريكيين ومنح الحصانة للمجاميع الاستشارية المتبقية وكان جوابنا له، القرار قراركم فإن قبلتم التمديد ومنح الحصانة قبلنا ذلك وأيدناه، وإن رفضتم رفضنا معكم ذلك”، وهو كلام حق يُراد به باطل، فلا يُعد ذلك تجسيدا للثقة المطلقة من قبل د.علاوي بالقرارات التي تتخذها حكومة المالكي، أبدا وعلى الاطلاق، والقضية المراد بها رأي الآخر ليست اجتماعية تحتمل مجاراة الآخر وتستلزم احيانا وضع الثقة فيه، بل وبما يمتلك د. علاوي من علاقات اقليمية ومع السعودية خاصة، لايمكن إلا التصور بأن الخطط الكيدية للحالتين مكتملة، وأقرب ما يمكن ان يتبادر الى الذهن هو أن الموافقة تعني تهيئة الأجواء لسحب الثقة المؤكد من حكومة المالكي (بوجود البلداء السياسيين والعقول الثأرية)، ومن ثم تشكيل حكومة أخرى ليس مستبعدا منها الركون الى صيغة تفاهمية أخرى مع الأمريكيين أو ضمانات من نوع آخر، ومن الطبيعي ان يكون علاوي قد اوصل في حينه اشارات ايجابية مبكرة للأمريكيين في هذا الخصوص، واشارات سلبية الى المالكي عبر الخصوم لتشويش الموقف، والهدف أساساً الوصول بالمالكي الى نقطة اللاعودة دوليا وتجريد حكومته من أي دعم أمريكي مستقبلي محتمل، بعد ان وقع في فخ التصنيف على انه قد تسبب مرتين في تعطيل الاتفاق الاستراتيجي وتفريغ البنود الاساسية من محتواتها مرتين، نعم هذا بالضبط ما يُحتمل أن يسفر عنه الجواب السعودي الذي نطق به د. أياد علاوي نتائج أو يكون بالفعل هو ما قد نتج .. وفي تقديري كان الامريكيون في حينه أكثر ثقة في قدرة المالكي على الوفاء في التزامات العراق ومن الممكن لهم استخدام نفوذهم السياسي لعرقلة سحب الثقة عنه في حال الموافقة.. على أية حال، وحتى مع صحة الافتراض، فالسيد المالكي يمتلك كامل الحق في الاعتزاز بوجوده الرسمي والسير بحذر شديد في حقول ألغام المحاصصة، حتى مع تسبب الحذر المبالغ به باتخاذ قرار لم يكن مناسبا.

بشكل عام، أثبتت الأحداث فيما بعد، وبما لا يقبل الشك بأن قرار رفض التواجد الرمزي للمدربين والمستشارين والاصرار على عدم منح الحصانة لهم ((لم يكن موفقاً))، وقد كتبت في حينه مقالا في الرابط اسفل المقال بعنوان ( منح الحصانة للأمريكيين خطوة لا بد منها) ولم يلتفت لمثل هذه الآراء سوى قصار النظر الذين ساقوا التهم جزافا لمن تبنى آراء من هذا النوع، وبما يؤكد ان القرار بالموافقة على الحصانة كان يتطلّب شجاعة استثنائية من قبل الحكومة العراقية ، مع ذلك فإن وجود بعض القوى السياسية الدافعة الى الخلف قصداً، او المرتهنة في قرارها الى الخارج، والهادفة وما زالت تهدف الى فك الارتباط بين النظام السياسي في العراق والدعم الأمريكي، والى جانب هؤلاء أيضا أطراف سياسية أخرى تسببت البلادة السياسية والنزعة الثأرية في تعطيل قدرتهم على تحديد حجم المخاطر وإدراك مستوى التحديات بدليل ما أطلقه السيد مقتدى بتأييد مطلق من السيد عمار في مؤتمر صحفي عُقد مؤخراً من وصف لما جرى من ازاحة عن الاستحقاق الدستوري بتسميتها (صولة تغيير المالكي)، تلميحاً لما أقدمت عليه الحكومة من صولة على الخارجين عن القانون.. أما السيد عمار الحكيم الذي يتباكى اليوم على مظلومية البعثيين التي تسبب بها المالكي، فقد كان هو ومن اتبعه من المجلسيين طوال الفترة الماضية والى ما قبل أسابيع، يعتمدون وبشكل أساسي في الحرب الاعلامية على الحكومة عبارة  (أن المالكي قد احتضن البعثيين بطريقة تهدد الوجود الشيعي، وأن مكتبه قد اصبح الملجأ الآمن لكبار البعثيين).. ألا يعكس الانتقال المفاجئ للخطاب الاعلامي الى خانة الضد، استخفافا بعقول العراقيين وتأكيداً على ان الغايات تبرر الوسائل مهما كانت درجة الخسة والدناءة التي تنطوي عليها الوسيلة المنتقاة، فما زالت عبارة ربط البعث بالمالكي للتجني وبشكل مفضوح تتصدر واجهة المواقع الاعلامية التابعة للمجلس بدءً بموقع براثا ومرورا في صفحة عزيز كاظم علوان وليس انتهاءً بـ (أحداث سوق الشيوخ).. لكنه الفهم المغلوط للسلطة، دون ادراك منهم الى ان السلطة في العراق تمر اليوم في مرحلة لا تضيف الى من يحظى بها أي شئ، بل هي بأمس الحاجة الى من يضيف اليها الكثير، وان الثقة بالقدرات التي يتمكن من خلالها المالكي الاضافة الى محيط المسؤولية الذي جُرّد منه هو من يضعنا اليوم في موقف الدفاع عن استحقاقه الانتخابي.

وقبل الختام، تجدر الاشارة الى أن تركيا الاردوغانية ومن يدور في فلكها اليوم، كانوا الأكثر استهدافا للحكومة العراقية والأدق تنسيقا للمواقف التضليلية والأكبر قدرة على التجييش والاستدارج للآخر نحو استعداء طائفة وتقريب أخرى وتشويه صورة حزب واعلاء شأن حزب آخر. ومن هذا المنطلق لم يكن حريّا بالديمقراطيات العريقة الانجراف خلف الجموح التركي الذي يعكس وبشكل واضح ما تستبطنه الاستراتيجية التركية من رغبة عميقة في تعويض النقص الذي أضحى ملازما لشخصية السياسي التركي نتيجة الرفض المطلق لتوسلات الترك بالانضمام الى الاتحاد الاوربي، وليس لائقا بعراقة هذه الأنظمة احتضان  الصلف السياسي التركي الذي يعتقد بأن جميع الوسائل مباحة لقطع ما يفصلهم من مسافات عن الهدف بما فيه التنصل التدريجي عن النظام الديمقراطي في الحكم والاتجاه نحو النظم السلطانية الاستبدادية. فمن بين مايمكن ان يشير اليه التحرك التركي الأخير تجاه العراق، هو ان استمرار (العراق الجديد) على ما هو عليه من نظام سياسي ديمقراطي قد يشكل حجر عثرة في طريق ما أطلق عليه الحزب الحاكم (تركيا الجديدة) وهو ما يشير اليه النزوع الاردوغاني نحو الفردية وبما لم يعد خافيا على أحد، فضلا عما هم عليه بعض الاطراف التي تعلن عن خشيتها من دكتاتورية محتملة في العراق، في الوقت التي أمضت فيه ذات الأطراف التي تعلن ذلك فترة زمنية في الحكم تصل الى 20 سنة وأكثر، ومثل هذه المؤشرات الواضحة وحدها كافية لإثبات بطلان الادعاء وفضح زيف النوايا، بل وأكثر من دالة على عدم امتلاك هذا النوع أية أهلية للوقوف في صفوف المدافعين عن الديمقراطية، وأكثر من ذلك، وهو الأهم، أن توفر الشروط الموضوعية التي اذا ما اقترنت يما يتمتع به المالكي من خبرة وجدية يشكل نقطة تحول مفصلية لمصلحة دولة العراق في حلقة الصراع مع مشاريع الهيمنة الاقليمية والمخططات الارهابية لدول الجوار، والاستهداف الأخير هو استهدافاً لمرحلة عراقية وليس للشخص نفسه طالما ان المستهدف هو الرجل الأكثر شرعية والأشد عزما والأنسب خبرة للمرحلة التي نحن بصددها اليوم، ومن ثم لايمكن ان يشكل الاصطفاف الغربي بشكل عام والأمريكي تحديدا مع السطو على الاستحقاق الانتخابي للسيد المالكي، إلا كونه استخفافاً بحاكمية الدستور وتفريط بالقيم الديمقراطية.. ولا يعني ذلك أن الغرب والادارة الامريكية لا تعي حقيقة من تتعامل معه من هؤلاء، أو حتى القول بإكتمال أبعاد مواقفهم السلبية في ذهنية صناع القرار، فتسعى جاهدة لتصحيح ما يمكن أن يصنّف في خانة الخطأ، كلا بالتأكيد، فالمكابرة والاصرار على المراوحة في خانة الفشل هي سمة مشتركة بين الادارات الامريكية الأخيرة التي تعاطت عن قرب مع الشأن العراقي.
 

مقال سابق ذو علاقة مباشرة بالموضوع : منح الحصانة للأمريكيين خطوة لابد منها

http://www.kurdistanpost.com/view.asp?id=93215644