في عام 2002 صدر نداء هاشمي في المملكة الأردنية لرفع شعار “الأردن أولا” كوسيلة ونهج يسعى لفتح الأبواب والسياسات في التنمية والتربية والثقافة للشعب الأردني وتحديدا الشباب منهم ، وقد يكون من دوافع هذا الشعار الذي أستخدم كوسيلة من وسائل العلاقات العامة للألتفاف حول الملك الجديد الشاب عبدالله بن الحسين ، والحفاظ على صور من الديمقراطية الدستورية في البلاد والحث على العمل بجميع المستويات لخدمة الاردن حاضرا ومستقبلا . هذا الموضوع لطالما توقفت عنده وأنا أرقب الوضع العراقي الذي شيدت على أطلال خرائب غزوه من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا مئات القصص والوعود الخاصة بالديمقراطية والزهو الوطني والرخاء الأقتصادي وانواع الحريات المسؤولة منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا ، ولعل النتيجة الأولية لهذه المتابعة الحثيثة كانت تشير دائما إلى شعار أختير بعناية أيضا من قبل الجميع ؛ قوات وإدارات الأحتلال ، رؤوساء الكتل السياسية المشتركة بالعملية السياسية ، حكومات هزيلة متعاقبة ، مليشيات ، وغيرهم ، لقد اختاروا جميعا شعارا واحدا مضمونه ن يكون العراق في ذيل اي قائمة !!
قد يقول قائل أن هذا الأمر ليس جديدا ، فجميع العراقيين يعلمون أن العراق ومصلحة العراق والعراقيين هي آخر ما يهتم به قادتهم السياسيين في وقتهم الحاضر ، وأقول نعم ، ولكن ما أفرزته الأحداث الأخيرة في موضوع تفجيرات الخميس المؤلم الدامي وقبلها أتهام المالكي لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بالأشتراك والتحريض والتنظيم لإعمال أرهابية ثم فراره إلى كردستان العراق وتداعيات ذلك على المشهد السياسي والأمني في العراق ، أبرز موضوعا لا لبس فيه بعد الآن ولا يمكن السكوت عنه لا من قبل المثقفين العراقيين والعرب ولا من قبل جميع المنظمات والجمعيات ووسائل الإعلام داخل العراق وخارجه ، هذا الموضوع هو تحديدا ما يمكن تسميته بالأنقلاب المنظم على شركاء العملية السياسية في العراق من قبل رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ، نعم ، ليس في هذا الكلام تجني على أحد وبالتحديد على السيد المالكي ، فهاهو نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن يقول لدى سماعه نبأ صدور مذكرة اعتقال بحق نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي: “فعلها المالكي، الله في عون العراق” !!. فالمالكي بحسب رؤية أمريكية “يتظاهر بالوطنية ونبذ الطائفية لكنه يزاول بكل طاقته وامكانياته المادية والحزبية والامنية التي وفرتها له السلطة اختراق وتمزيق الجسد العراقي الوطني لارضاء قادة إيران” .
المحلل بمعهد دراسات الحرب في واشنطن رمزي مارديني قال في حديث لصحيفة نيويورك تايمز :”هناك وجهتا نظر رئيستان عن المالكي في واشنطن، إذ يقول البعض إنه وطني، في حين يقول البعض الآخر إنه دمية بيد إيران” وقد أعتبر مارديني هذا التوصيف ” رؤية تبسيطية للغاية لأن الحقيقة هي أن عقيدة المالكي هي البقاء في السلطة”. وتستشهد الصحيفة بجملة من ممارسات المالكي في العراق منها ابقاء وزارتي الدفاع والداخلية من دون وزراء وقيادته الجيش والشرطة بصورة مباشرة اضافة لربط الهيئات المستقلة بسلطاته ، ولعل أظرف وأبلغ ما ذكرته الصحيفة في معرض خشيتها على الأوضاع في العراق قولها “انه وبعد كل شئ فان الشعب العراقي والجنود الاميركان(..) قدموا تضحيات وعليه فلا يجب ان يتم السماح لديمقراطية العراق بالتعثر بسبب طموحات السيد نوري المالكي “.
ولعل ما يحدث في العراق الآن يثير تساؤلا مهما : لصالح من يعمل المالكي ؟ فهاهو وبعد عودته من الولايات المتحدة يقدم على تصفية خصومه السياسيين مبتدءا بموضوع طارق الهاشمي ، حتى أن مسؤولا رفيعا في الادراة الأمريكية وصف لجريدة “الرأي” الكويتية رأي إدارته بالقول : “المشكلة ان تصرف المالكي برمته يحرجنا، لانه حليف وصديق لواشنطن”. ويتابع: “هناك مشكلة في ان ترى المالكي يطل في مؤتمر صحافي داعيا الى عدم تسييس قضية الهاشمي، ثم يطالب حكومة كردستان بتسليم الهاشمي ، ان رفض التسييس يعني ان تقوم المحكمة الاتحادية بالطلب من القضاء في اقليم كردستان بتسليم الهاشمي. ولكن عندما يقوم السياسي المالكي بتوجيه الطلب بتسليم الهاشمي، يكون هو من يسيس القضية لانه رئيس السلطة التنفيذية ويجب ان يبقى بعيدا عن عمل السلطة القضائية”.
لقد أوفد الرئيس الاميركي ، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) الجنرال ديفيد بيتريوس الى بغداد للوقوف على ما يجري حقيقة على الأرض هناك ، ولدى عودته إلى واشنطن قدم للرئيس أوباما الصورة القاتمة في العراق وتصوراته للخروج منها وأهمها تشكيل حكومة برئاسة الجعفري ومن دون مشاركة كتلة “دولة القانون” التي يرأسها المالكي ، وهو ما أعاد إلى أذهان الرئيس الأمريكي على ما يبدو ما ذهبت إليه صحيفة “واشنطن بوست” من انتقادات للمالكي اثر زيارته للعاصمة الاميركية واشنطن وانتقادات أخرى لتفاؤل أوباما المفرط بشأن عراق ما بعد الانسحاب الاميركي بـما أسمته ”الـزهرية اكثر من اللازم”، وقد يكون أكثر ما يشار إليه من أنتقادات في هذا الصدد هو دعم الرئيس الأمريكي غير المشروط للمالكي وكما وصفته الصحيفة بـ “غير مبرر”.
نعم ، رئيس وزراء العراق نوري المالكي يتجاوز مؤسسات الدولة العراقية وقوانينها مستغلا صفته كقائد أعلى للقوات المسلحة، وصحيح أنه يركز السلطة في يديه ويصفي خصومه بطريقة لم تقم بها حتى القاعدة وأكثر التنظيمات الأرهابية ممارسة من خلال الأساءة الى تاريخهم وسجلهم السياسي والمهني ،وواضح جدا نزوع المالكي إلى تثبيت حكم الرجل الواحد والحزب الواحد قولا وفعلا ( لا هم يستطيعون أخذها ولا نحن سنتركها) ، ولعل افعاله وليست أقواله تؤكد أن هذا الرجل يعيش عقلية وعقدة تمثيل الطائفة وليس الوطن ، ورغم أن العراق خسر ملايين البشر بين قتل وتدمير وتشريد ، ورغم ملايين المهجرين داخل وخارج العراق ، ورغم أكثر ملفات الفساد الإداري والمالي والقضائي سخرية في العالم ، ورغم حرمان العراقيين من أبسط الحقوق الأنسانية في الحياة الكريمة وافتقار بلادهم لإدنى أنواع الخدمات ، ورغم تخلف التعليم والصحة وانتشار البطالة ، رغم كل شيء يصر المالكي ، رئيس الوزراء العراقي وزعيم حزب الدعوة بدل أن يرفع شعار ” العراق أولا ” يسعى لتكريس شعار واحد ، ويريد من العراقيين ، كل العراقيين ، أن يترجموه إلى ممارسات وأسلوب حياة طوعا أو كرها ، هذا الشعار هو : ” المالكي أولا” !!.
[email protected]