لقد استبشر العراقيين ، قبل بضعة أيام ، حين أطل عليهم بطلعته البهية رئيس وزرائهم (الفذ) نوري المالكي ، ليشنف أسماعهم ويزف إليهم خبرا”طالما انتظروا سماعه بفارغ الصبر ، معلنا”انتفاء شكواهم وانتهاء معاناتهم مع أسطورة الكهرباء . حيث تعهد أمامهم ومن على شاشة التلفاز بأن أزمة الكهرباء الوطنية ، التي اندلعت اثر العدوان والاحتلال الأمريكيين الغاشم قد انتهت إلى غير رجعة ، ومنذ الآن فان المواطن العراقي بات قاب قوسين أو أدنى من التنعم بعصر من فائض الطاقة الكهربائية على مدى (24) ساعة . والحقيقة إن أغلب العراقيين لم يعهدوا بشخصية (المالكي) أنها من النمط الذي يتمتع بروح النكتة أو يمتلك روح الفكاهة أو يجيد الدعابة والمزاح ، بحيث يجازف لإطلاق مثل هذا الخبر الجرئ في (طوباويته) ، والمتهور في (دونكيشوتيته) . لاسيما وان طاقم وزرائه (المبجلين) المحيطين بعرشه والمنضوين تحت لوائه ، لم يتركوا له هامش الانصراف لممارسة فضيلة التأمل الذاتي بعيدا”عن هموم السياسة ومشاغل السلطة ، لكي يفبرك مثل تلك الترهات المضحكة والشطحات الصبيانية ، على خلفية ملفات فضائح الفساد المستشري في دواوين وزاراتهم وداخل أروقة مؤسساتهم ، دون رادع من قانون أو وازع من ضمير . ولهذا لم يأخذ الشعب العراقي على محمل الجد تأكيدات وتطمينات السيد المالكي بشأن استمرار الكهرباء الوطنية دون انقطاع ، وهو الأمر الذي سارعت ظاهرة الانقطاع الدوري للكهرباء الوطنية إلى تكذيبه . إذ لم تلبث الأيام اللاحقة على تصريحاته (العنترية) حتى عاودت عروسنا الكهرباء إلى إظهار نزقها وإشهار ألاعيبها ، وذلك بالاحتجاب والانقطاع ؛ إما بذريعة موسم الأمطار التي تزامن هطولها مع تلك التصريحات ، أو بحجة إفراط المواطنين في استهلاك الطاقة الكهربائية بمعدلات قياسية ، والبقية من الأعذار والتبريرات سوف تأتي مع كل يوم نمضي باتجاه فصل الشتاء ، كما تعود العراقيين على ذلك طيلة العقد الكالح المنصرم . والواقع إن اهتمام (المالكي) بمشكلة الكهرباء – ناهيك عن المشاكل الأخرى التي لا تقل عنها أهمية – لم يأتي من باب صحوة الضمير الأخلاقي والإحساس بالمسؤولية الوطنية والإنسانية ، تجاه شعب تأكلته الصراعات البينية واستنزفته المعاناة اليومية وعلى مختلف مناحي حياته ؛ الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية . بحيث أضحى يترحم – ويا للمفارقة – على أيام النظام السابق رغم ظلمها وقساوتها من جهة ، ويلعن اليوم الذي جاء بشذاذ الآفاق من كل شاكلة وطراز ، لينهبوا ثرواته ويتحكموا بمصيره ويستبيحوا حياته من جهة أخرى . نقول إن هذا الاهتمام المرائي لم يتمخض جراء تأنيب الضمير المفاجئ ، وإنما لتلميع صورته التي تراكم فوقها غبار الإهمال للواجبات والتقاعس عن تحمل المسؤوليات ، مثلما لتبييض صفحته التي اعتلاها عفن الأفعال المخجلة والممارسات الشائنة . وبالتالي الظهور بمظهر البطل القومي والزعيم الوطني ، الذي لا يشق له غبار في الحرص على مصالح شعبه والغيرة على حياض وطنه ، لاسيما وان موعد الانتخابات البرلمانية بات على الأبواب – بعد أن أوعز الأمريكان بعدم التسويف أو المماطلة بالنسبة لموعدها المقرر – دون أن يضع باعتباره انه وطيلة دورتين انتخابيتين كان يحتل خلالهما قمة الهرم في الدولة ويمثل عبرهما الحاكم الأوحد في السلطة ، لم يجلب للشعب العراقي في الداخل سوى الدمار ولم يحقق للوطن في الخارج سوى العار . وكأنه بذلك لازال يراهن على قدرته في التلاعب بعواطف العراقيين والاستخفاف بعقولهم ، حيال استمالتهم لانتخابه دورة ثالثة لسرقة ثرواتهم وامتصاص دمهم وانتهاك حقوقهم ، عبر التلويح بمحاربة الإرهاب والإرهابيين تارة ، ومطاردة الفساد والمفسدين تارة ثانية ، وحل مشاكل الكهرباء والخدمات تارة ثالثة ، وهكذا . ولأن كل شيء في العراق الجديد لا يجري دون أن يكون هناك ثمن يتكبده الخاسر لصالح الرابح ، سواء أكان على المستوى الاجتماعي / الشعبي أم على المستوى السياسي / الرسمي ، فقد أعطت التصريحات المتعجلة للسيد (المالكي) – باعتباره مصدر السلطات وصاحب القرارات – الضوء الأخضر للمسئولين عن المحروقات في وزارة النفط ، لاستغلال زعمه القائل بان تجهيز الكهرباء الوطنية لمؤسسات الدولة وقطاعات المجتمع ، سيستمر على مدار اليوم ودون انقطاع . وذلك من خلال التلاعب بالحصص والكميات المخصصة شهريا” للدوائر الحكومية ، والتي تراوحت ما بين تقليصها خلال الشهر الماضي (ت1) وصولا”إلى حجبها نهائيا” خلال هذا الشهر (ت2) ، لكي يصار بيعها لاحقا”لأصحاب الشركات الخاصة ، لقاء عمولات وصفقات مريبة لم تعد خافية على أحد ، حيث يجري احتكارها من قبلهم ومن ثم بيعها لدوائر الدولة والمواطنين بأسعار مضاعفة . وبالنهاية فان (المالكي) لم يستغفل فقط العراقيين ويضحك على ذقونهم فحسب ، وإنما منح غطاءا”شرعيا” للفاسدين والمفسدين لكي يمارسوا أنشطتهم التخريبية تحت علم الدولة وأمام سلطة القانون . وبقدر ما تدفعنا الرغبة لتهنئة العراقيين على مكرمة الكهرباء ، فإننا ندعوهم لممارسة حقهم الدستوري : انتخبوا المالكي !! .