23 ديسمبر، 2024 12:01 م

منذ الغزو الامريكي ظل الامن يشكل الهاجس الاكبر في العراق, فرغم المليارات الممليرة التي صرفت, ومئات الالاف من الجنود, وعسكرة المجتمع الا ان كل ذلك لم يمنع من سيارة تنفجر هنا, واغتيال بكاتم يحدث هناك, وبرئ يعتقل هنا , وفتاة تختطف هناك.

الاختطاف الفصل القديم الجديد في فصول التدهور الامني, لانعني به هنا اختطاف البلد وارادته, ولا اختطاف امواله ونهب ثرواته كما حدث ولازال يحدث, بل نعنيه بمعناه المجرد الذي يقصد به  تغييب شخص ما قسرا عن ذويه ونقله إلى مكان مجهول لتصفيته او لغرض الابتزاز المادي, وينتج ذلك مع انعدام الوازع والديني والأخلاقي، وكثرة وسائل المتعة والترف والمخدرات، التي تتطلب أمولا طائلة، تغري الشباب بالكسب غير المشروع، وهو امر شائع في عدد من بلدان العالم التي تعاني فوضى امنية, لكن ما يحدث اليوم في العراق يمثل نموذجا مطورا من عمليات الخطف, لان الكثير منها يجري بلباس رسمي وعلى مسمع ومشهد من السلطات التي اما تكون عاجزة او متواطئة, وهو ما ينذر بمصير قاتم, ويزرع بذور التشاؤم بامكانية اصلاح واقع الحال.

لقد كان للاحداث الاخيرة التي شهدها العراق بعد العاشر من حزيران دور كبير في عودة ظاهرة الاختطاف الى مسرح الاحداث من جديد, فبعد فتوى الحشد الشعبي لمواجهة الخطر الذي يمثله تنظيم ما يعرف بالدولة الاسلامية (داعش), تداعى الاكلة الى قصعتهم, وخرج لنا كم هائل من الفصائل الميليشياوية التي لم يكن المواطن يسمع بها,  فضلا عمن كان موجود في الساحة اصلا, ويعمل بتفويض حكومي ويستعرض قواته في وضح النهار تحت لافتة كبيرة هي (محاربة الارهاب), بل حتى العصابات الاجرامية ذات الطابع الجنائي وجدت مرتعا خصبا لعملياتها, ومما شجع تلك العصابات هو تقصير الحكومة واجهزتها الامنية وضعف قدراتها, فضلا تعقد المشهد الميداني وتداخله, وتردي او فساد المنظومة القضائية, ومن امن العقاب اساء الادب ..

لقد تواترت الحوادث عن الفظائع التي ارتكبتها الميليشيات الارهابية لاسيما في ديالى وبغداد, فحملات الاختطاف على الميسوريين والافراج عنهم مقابل مبالغ مالية ضخمة صار امرا يوميا تتناقله السنة الناس, هذا فضلا عن حوادث الاختطاف على الهوية التي زادت وتيرتها بشكل ملحوظ في ظل التنافس المسعور بين الميليشيات لاثبات سيطرتها وقدرتها على الفتك بمكون معين يمثل الضحية الاولى في تلك الحوادث, فالعوائل التي نكبت بابنائها لم تسلم على تعب السنين فباعت ما تملك حتى تفتدي الضحية الذي لن يعود لها الا جثة هامدة يلقى بها في قارعة الطريق.

الغريب في القضية هو تحول عمليات الاختطاف هذه الى عمل وطني, حيث تقوم الميليشيات بتمويل عناصرها من ما يتلقونه من مبالغ مالية, او بسلب سياراتهم (خاصة الحمل) واستخدامها في عملياتهم العسكرية, والاكثر غرابة ان تنصب السيطرات الوهمية التي تؤدي هذا الدور على بعد امتار من نقاط التفتيش الرسمية, الامر الذي يلقي بهيبة القانون ادراج الرياح ويصبح طالب النجدة من قوات الامن كالمستغيث من الرمضاء بالنار .

ان حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي مدعوة اليوم لاثبات جديتها في الاصلاح الذي حملت شعاره بعد فترة مظلمة خلفتها حكومة نوري المالكي, وذلك لن يتم الا من خلال وقوفها بوجه ميليشيات الخطف بنفس الدرجة التي وقفت بها ضد داعش, هذا اذا كانت صادقة برغبتها  باعادة تعيد ترميم الوضع في البلد وكسب ثقة الجميع, والا فان تكرار التجرية السابقة سيكون له انعكاسات كارثية اشد مما هو عليه اليوم.

ان ترك سياسية الكيل بمكيالين, وتوحيد الجهد الوطني تحت راية القانون ومظلة الدولة, وتجريم العناصر التي سفكت الدم العراقي, ينبغي ان تكون من اولويات العمل في الفترة المقبلة, وعلى المنظومة السياسية ان تفسح المجال لمجلس النواب لممارسة دوره لياخذ موقفا تاريخيا بسن قانون يقضي بحل الميليشيات بكل مسمياتها, على غرار قانون 4 ارهاب التعسفي .

 ويمكن لرئيس مجلس النواب السعي لاقناع الكتل السياسية بالعمل على تشريع هذا القانون, والا فان الخسارة ستطول الكل ان عاجلا او اجلا, وعلى الجميع ان يفهم ان انفراط عقد الوضع بهذا الشكل الذي رايناه خلال الاشهر الماضية ليس في مصلحة احد .

ووأد الفتنة في مهدها ايسر من اطفاء الحريق الكبير الذي ان وقع فانه سيأكل الاخضر واليابس… ولآت ساعة مندم.