نهر دجله القادم بمسيره التاريخي عبر الازمنة الغابرة عندما يدخل مدينة العمارة (350كم )جنوب شرق بغداد , وقبل ان يواصل جريانه باتجاه – محافظة البصره – يتفرع منه فرع اخر يذهب جنوبا وينقسم الى فرعين هما – نهر المشرح ونهر الكحلاء – ليشكلا محلة الماجديه الحالية , اذن هي مدينة صغيرة على شكل شبه جزيرة يحيط بها من ثلاث جهات نهرا المشرح والكحلاء , وهي اساسا منطقة زراعية تكثر فيها زراعة النخيل , طالما تعرضت للفيضان من نهر المشرح عندما ترتفع مناسيبه في فصل الشتاء ,حتى خمسينيات القرن الماضي بيعت الاراضي الزراعية القريبة من الجسرين الحديديين جسر المشرح وجسر الكحلاء اللذين بناهما الانكليز في اواسط الثلاثينيات من القرن الماضي ( 1936 ) , البستان المجاور لجسر المشرح مملوك للسيد لطيف السامرائي احد وجهاء المحافظة انذاك والبستان الاخر لبيت عزيز الزبير , حيث بنى الاول له بيتا كبيرا في بستانه المطل على الشارع الرئيسي مقابل دار الاستراحة الحكومية التي بنيت في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم , وكانت دار الاستراحة تلك عبارة عن حديقة جميلة , أجرها حسين بارد وحسين كيصون كمطعم ومكان لبيع المرطبات ومعاهما شخص مسيحي ارمني الاصل يسمى ( كربيت ) متخصص ببيع المشروبات الكحولية , وكانت تلك الدار محل استراحة للوفود الاجنبية والعربية المارة عبر ميسان الى البصره وبغداد وبالعكس وبقيت تلك الدار حتى ثمانينات القرن الماضي عندما حولها النظام السابق الى مستشفى عسكري وبعد سقوط النظام اصبحت مقرا لأحد الاحزاب الدينية ثم تحولت الى ثكنة عسكرية , وأخيرا هدمت وتحولت الى أنقاض 0
غالبيتنا عاش الطفولة والصبا والشباب بين بيوتها وشهد ذلك الحب العذري الذي ربطه ببنت الجيران صاحبة الضفائر الجميلة الطويلة الذي ربما انتهى بالفراق نتيجة عدم موافقة الاهل على الرغم ان الزواج بين اولاد وبنات المحلة سهل من حيث المستلزمات لان الفتاة آنذاك تتمنى الارتباط بشاب من دربونتها حتى تبقى قريبة من اهلها .
أن مدينة الماجدية مليئة بالحكايات والقصص من الزمن الجميل عندما شهدت ولادة الكثير من الشعراء والإعلاميين اضافة الى مجموعة من الاطباء والمهندسين والعسكريين الذين تبؤوا مناصب مهمة في الدولة العراقية سابقا وحاليا .
لا يوجد فيها شارع معبد انذاك سوى الشارع الرئيسي الرابط بين الجسرين , وبالقرب من جسر الكحلاء على ضفاف النهر شيدت دار رئيس البلدية (بهجت أفندي ) وهو تركي والده عبد القادر الكولمندي أول متصرف لمدينة العمارة , بالقرب منها محلات تجارية عامة , يقابلها في الطرف الثاني ( علوة الاسماك ) التي بنتاها – مديرية بلدية العمارة – وكان يديرها (جاسم مصلاوي ) وهو دلال سمك وهو من اهل الموصل وأول من ساهم في انشأ موكب حسيني في ميسان خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي بالمشاركة مع الحاج خليل بوكس الدايني وكنا نشاهد معه السيد (عاشور البخاتي ) صاحب المقام المشهور في نهاية مدينة الماجدية والرادود الحاج (ملا سهيل الزبير) , وفي منتصف الشارع الرابط بين الجسرين جزرة وسطية مزروعة بنخيل جوز الهند وعلى احد جوانبه شيدت مكائن طحن الحبوب لقربها من نهر المشرح والكحلاء حيث تأتي السفن محملة بالشلب والحنطة , مع وجود مكينة لصنع الثلج يملكها الحاج طارش الحميدي 0
كنا نقرأ ليلا على ضوء الفانوس كانت الكهرباء حلمنا الابدي الغائب الحاضر , ونقرأ نهارا في بساتينها المكتظة بالنخيل ,لان الكهرباء دخلتها عام 1955عندما قدم مجموعة من اهالي الماجديه شكوى الى رئيس البلدية انذاك ( بهجت افندي ) فاستجاب لطلبهم بعد موافقة الحكومة المحليه وتم تغذية الماجديه بالكهرباء بواسطة الديزلات بعد ان كانت الاضاءة في الشوارع الرئيسية بواسطة فوانيس زجاجية مربعة الشكل تملئ بالنفط الابيض وهي ملصقة على حيطان البيوت وتشتعل وتطفئ يوميا من قبل مسئولي البلدية او الحراس الليليين ( الباصوان ) المتواجدين ليلا في كل شارع وزقاق وهم يصفرون بصفارتهم وكل واحد منهم يحمل بندقية ( الموزر) , يومها لا توجد اجهزة تبريد , كنا نضع – نبات العاكول – وهو من النباتات الطبيعيه نضعه على شباك البيت بعد احاطته بإطار من جريد النخل ونركب عليه صوندة الماء لكي يمر منه الهواء فيصبح باردا وقت الصيف وخاصة في شهري تموز وأب .
كافة الاجهزة تعمل بالنفط الابيض( البريمز , الصوبة , اللاله , اللوكس ) وكان النفط الابيض يباع دون الرجوع للبطاقة التموينية وبدون حصص , بواسطة عربات صغيرة تجرها الحمير , و(عليوي ومجذاف) المع الباعة في المنطقة وفي كل عربة علبة صفيح تسمى شعبيا – تنكه – كوحدة قياس للنفط الابيض .
كانت المقاهي منتشرة على طول شارعها الرئيسي , وكان هذا الشارع مهم جدا انذاك او كما يطلق عليه اليوم شارع تجاري , حيث كان الحجاج الاتراك يأخذون قسط من الراحة في مطاعمه ومقاهيه عبر مسيرتهم البرية الى الكويت ثم السعوديه , كذلك اهل الكويت كانوا يمرون عند مسيرتهم الى بلدهم عبر محافظة البصره فأخذ اهل المنطقه يبيعون السمك الميساني الاصيل من البني والكطان على المارة والمسافرين بواسطة عربات خشبية تدفع باليد 0
ومن معالم المنطقة – فلكة الماجديه – التي شيدت في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم في منتصفها خزان ماء كبير يوصل الماء الى البيوت الواقعة في شارع الجامع وشارع الملعب , حيث كانت مصلحة نقل الركاب – الامانه – الالمانية الصنع ( مرسيدس ) تجوبهما ليلا ونهارا , لكل مكان موقف خاص بها يتوقف عنده السائق , وإذا أردت النزول في مكان مغاير تقول له – اختياري – فيتوقف فورا لتنزل من حافلة نقل الركاب , وكانت تلك الساحة متنفس لأبناء المنطقة كونها مزروعة بالورود والثيل وتباع فيها المأكولات السريعة من الكبه بأنواعها مساءَ وقيمر العرب صباحا , مع وجود كشك لبيع الالبان الحكومية شيد بعد تأسيس مصلحة الالبان الحكومية 0 وقبل وصول الماء الصافي من الاسالة الى المدينة , كانت النسوة يحملن الماء من نهري المشرح والكحلاء الى البيوت باليد بواسطة برميل صغير الحجم نسميه – بيب – وهن محزمات بحزام من القماش او تلف عباءتها على شكل حزام حول خصرها .ويتم وضع الماء في وعاء فخاري كبير اسمه – الحٌب – ليترشح ويصبح صالحا للشرب ثم نضع الثلج داخله حتى يبرد . اما غسل الملابس يومها فيتم على شاطئ النهر مباشرة وتنشف في الهواء الطلق ونلبسها بدون كوي , ومن يريد الكوي يذهب الى الآوتجي ( كاظم كنيص ) لكي يكوي ملابسه باستخدام مكوى يعمل على الفحم .
نصبت فيها ميليشيا – الحرس القومي – خيمة كبيرة عام 1963 ومارسوا فيها الرعب ضد الناس ومن خصومهم السياسيين , فاحتلوا دار الاستراحة ورفعوا الجسر الذي يفصل محلة الدبيسات عن محلة الماجديه حيث توجد هناك الحامية العسكرية ( الموقع ) من خلاله زحف الجيش عليهم وطهرها من شرورهم , بعدها اصبحت تلك الفلكه رمز لمقاومة الدكتاتورية البعثية عام 1991 عندما قاتل فيها رجال الانتفاضة الشعبانية الحرس الجمهوري البعثي فسقط من سقط شهيدا واعدم من اعدم على يد المجرم صباح هشام الفخري 0
ثم توسعت المدينة بعد ان تحولت معظم ارضها الزراعية الى أراض سكنية فنزحت اليها العشائر العربية من الطليبات / السراي والسواعد وبني لام والسادة وغيرهم من النواحي والاقضية القريبة , لا يوجد فيها سوق متكامل البناء سابقا , معظم البيع في الشارع القريب من علوة الطحن للحاج طارش الحميدي ويسمونه – المحط – بدل السوق , ثم انتقل المحط الى مكانه الحالي في شارع الملعب بعد ان بنته دائرة البلديه عام 1963 بواسطة المقاول محمود محبوبه , ولا زال ابناء المنطقة يسمونه – المحط – الى يومنا هذا 0
مستوصف الماجدية من الرموز القديمة في المنطقة بنَي في العهد الجمهوري الاول زمن عبد الكريم قاسم , على ضفاف النهر وعلى سياجه يقف الحلاقان فواد وجابر يحلقان الناس في الهواء الطلق بأدوات الحلاقة اليدوية البسيطة وبسعر بسيط لا يتجاوز ( 2 عانه ) تساوي 8 فلس عندما كان الدينار يساوي 1000 فلس 0
اما ختان الاطفال يفضل في فصل الصيف , فيحلق الطفل ويستحم ويلبس ثوبا ابيضا ثم يأتي ( الزعرتي ) عند الفجر ليقوم بالختان وهو تركي الاصل طويل القامه يرتدي سروال عريض , يأتون على شكل افراد يجوبون المنطقه وهم يحملون حقائب فيها ادوات الختان من شفرة وقطن ويود وشاش , ومعظم الصبية يذهبون الى شاطي نهر المشرح والكحلاء يدفنون اجسامهم بالرمل لغرض التعجيل بالشفاء والكثير منهم يضع البصل في رقبته على شكل قلائد لغرض الشفاء السريع كما يعتقدون , لكن بعد عام 1958 بادرت المستشفيات الحكومية الى اجراء الختان الجماعي وتقديم هدايا للأطفال وخاصة في شهر تموز باعتباره شهر الثوره على النظام الملكي وبداية الحكم الجمهوري بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم 0
مقابل مستوصف الماجديه يوجد محل تأجير الدراجات الهوائية لصاحبه مهاوي مطر ,و لكل الاعمار المتوسطة والكبيرة , ولكل ساعة تأجير مبلغها المقرر , لكن عندما تتأخر عن الموعد يرسل صاحب المحل احد ابنائه ليبحث عنك في الشوارع والأزقة فما عليك الا ان تنهزم منه لأنه سوف يعاقبك على التأخير او تدفع له مبلغ أضافي من المال ليسكت 0
اضافة لتأجير الدراجات لأغراض اللهو واللعب , هناك تأجير العربات الخشبية لأغراض الرزق وكسب العيش عندما قام – لفتة مهودر – بعمل كراج من القصب والبردي لتأجير تلك العربات المصنوعة من الخشب ذات اطارين من الربل قرب جسر المشرح في بستان سيد لطيف السامرائي مقابل مبلغ عشرة فلوس لليوم الواحد , لا زال البعض منها موجود لحد الان في الشوارع والأسواق 0
على ضفاف نهر الكحلاء من الجانب الغربي للماجدية يسكن الصابئة وهم من احفاد النبي يحيى المعمدان ( ع) ليمارسوا طقوسهم الدينية بكل حرية ومهنتهم الرئيسية صناعة الزوارق الخشبية ( البلام ) , الا ان الكثير منهم ترك تلك المهنة وخاصة بعد ان اسقطت المملكة العراقية الجنسية عن اليهود في العراق وتم تسفيرهم في عام 1950 الى فلسطين , حيث استلم الصابئة مهنة صياغة الذهب منهم في سوق العجم قبل انتقال سوق الصاغه الى مكانه الجديد في بداية شارع التربية حاليا 0
فيها ملعب كبير شيد خلال الخمسينيات من القرن الماضي يقع في اطرافها اقيمت فيه جميع العاب كرة القدم مع منتخبات بغداد وألوية العراق وكانت الشرطة تحميه وهي راكبة على الخيول بقيادة المفوض ( ابو زبير) وهم يرتدون الملابس العسكرية القصيرة , وتمنع دخول الاشخاص اليه دون شراء بطاقة – تكت – كما كانت تقام فيه العاب الساحة والميدان و التمارين السويدية لجميع مدارس لواء العمارة قبل ان يتغير اسمها الى محافظة حيث كان يحكم المتصرف ماجد بيك مؤسس منطقة الماجدية وهو من اصل كردي من محافظة السليمانية 0
من مدارسها العريقة مدرسة الماجدية الابتدائية للبنين في شارع الجامع فيها بئر ماء وسط المدرسة يشرب منه الطلاب , ومدرسة صلاح الدين الابتدائية للبنين بالقرب من نهر المشرح , ومدرسة غرناطة الابتدائية للبنات في شارع الملعب جميعها مبنية بالطابوق , كنا نرتدي الدشداشة ونحمل حقائب من القماش مخيطة باليد على شكل كيس وكل طالب يحمل كوبا من الفافون لغرض شرب الحليب بعد شمول الطلاب بالتغذية المدرسية في بداية عام 1958 , لكن اغلب بيوت منطقة الماجدية من القصب والبردي انذاك يسكنون الواحد قرب الاخر على شكل تجمعات قروية , عاشوا متجانسين متحابين تجمعهم القربى والمودة والإخاء , وإذا انتقل احدهم الى مكان اخر بكوا عليه , ثم شيدت فيها معامل الطابوق البدائية او ما تسمى شعبيا – الكور – في طرفها الجنوبي شيدها الحاج جميل , فتسنى للناس بناء بيوتهم بالطابوق بدل القصب والبردي وكان الطابوق ينقل للمشتري بواسطة الحمير لعدم توفر سيارات نقل انذاك 0
كان الصراع الفكري فيها على اشده بين شبابها المعتنقين للفكر الماركسي والفكر القومي والفكر الديني وكثير ما كان يتحول الى صراع مسلح بين ما يسمى بالقوميين والشيوعيين وخاصة بعد سقوط حكم الزعيم عبد الكريم قاسم واستلام السلطة من قبل عبد السلام محمد عارف الحكم في بغداد عام 1963 , عندما اصبح جامع الماجدية مركز فكر متقدم لحزب الدعوة الاسلاميه , وبساتيها شهدت اجتماعات الاحزاب الماركسية – اللينينية خوفا من بطش السلطة وجبروتها حتى عام 1968وما تلاها عندما قامت السلطة الفاشية بتصفية الاحزاب الدينية والماركسية في حملتها المحمومة فاعدم الكثير من ابنائها على ايدي الحكومة امثال هادي علوان حسن ورحيم فليح مطر وكاظم طماش وغيرهم وهرب من هرب خارج العراق من ابنائها المجاهدين او التجأ الى الاهوار لمقارعة الظلم والاستبداد البعثي حتى تحرير العراق عام 2003 عادت الماجدية مرة اخرى الى احضان ابنائها بعد ان كانت مسورة بأناشيد الحروب ودكتاتورية الحزب والفكر الواحد , فالثقافة اليوم ليست وقفا على أحد دون اخركما تصورها الجلادون انما هي ملك الجميع وينبوع ثر في متناول الكافة وهي بعد ذلك حصيلة مراس فكري وتجريبي طويل , وللإنسان ميراث ثقافي هائل يأخذه جيل عن جيل وهذا الارث الثقافي الهائل هو الذي يرثه المجتمع بعد ان دفع ابناؤه شلالات من الدماء على ايدي الفاشست الجدد 0