لا شك أن نشأة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هي نشأة إسلامية صافية. فالرجل حمل منذ فتوته، ومنذ أن كان رئيسا لبلدية إسطنبول قبل حوالي ثلاثين عاما هموما كبيرة كانت بمثابة الحلم بإزاحة جبل بأيادي عارية. فالدولة العثمانية التي كانت بمثابة الأرض التي تراكمت فوقها تراث ثلاثة عشر قرنا من نظام الحكم الإسلامي، جاء أتاتورك ليس لينقلب على النظام السياسي، بل وانقلب على كل شئ كان، حتى على الحرف العربي والأذان وكل ما يمت بصلة إلى الدين والتراث وعرى المجتمع. لقد قلب كل شيئ رأسا على عقب، وأسس على هذا المقلوب نمط حياة جديد، تكبد الشعب العثماني بكافة قومياته، في تركيا الوليدة، معاناة عظيمة وشاقة في مسايرة العهد الجديد الذي لا نظير له في غرابته الشديدة والشاذة.
ولكي يقوّم الكُرد هذا المسار المنحدر نحو غربة شديدة وشاذة، نهض العلماء القادة من أمثال الشيخ سعيد بيران، وشيوخ بارزان، وشيوخ نهري وبديع الزمان سعيد نورسي والآلاف من العلماء الكُرد بمقاومة هذا العهد الجديد المنبوذ بكافة الطرق المتاحة من الكلمة الى البندقية. قام النظام الأتاتوركي بنفي وإعدام وإغتيال معظم هؤلاء العلماء. فالشيخ سعيد بيران أعدم في الميدان الكبير بدياربكر عام 1926، مع ستين شخصا من قادة ثورته ومنهم علماء. كما أعدم الشيخ عبدالسلام بارزاني في عام 1914 على يد المنقلبين على العثمانية، وقضى بديع الزمان عمره في المنافي والسجون والعذاب حتى مات عام 1960. وهكذا كان حال معظم علماء وشيوخ الكُرد في تركيا ومعهم الألوف من الأتباع. وما كان هذا ليتم، لولا الدعم المباشر للإنجليز والفرنسيين والأوروبيين عموما لأتاتورك ضد الشعب الكُردي.
منذ عام 1923، حيث تسلم أتاتورك رئاسة الجمهورية التركية المستحدثة والمنبثقة من الإنهيار العثماني، بدأ إلغاء الهوية والثقافة الكُرديتين، بشكل منظم ومدروس، وبالإتكاء على صناعة القوانين الجديدة لذلك. وكجواب على هذه النبتة الجديدة في الجمهورية الوليدة، قام علماء الكُرد وقادتهم العظام، الذين كانوا أساسا علماء قادة للدولة العثمانية، بإعلان رفض قاطع لجميع السموم التي خرجت من هذه النبتة، فبدأت شرارة الثورات تلو الثورات تندلع من كل بقاع كُردستان. وكانت آخر ثورة بدأت شرارتها من هذا المنطلق الرافض هو الثورة التي قادها حزب العمال الكُردستاني بقيادة عبدالله أوجلان الذي أعتقل منذ عام 1999. في عام 1990، أعلن الرئيس التركي توركوت أوزال، بعد تسنمه رئاسة تركيا في عام 1989 عن بعض الإصلاحات البسيطة في ما يتعلق بحقوق الكُرد لم تتعد رفع الحظر عن الموسيقى الكُردية. وبعد أوزال توالى رؤساء آخرون على حكم تركيا، بما فيهم نجم الدين أربكان، لكن أي تغيير حقيقي لم يحدث باتجاه الشعب الكُردي إلا في عهد الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان. أردوغان اتخذ خطوات تجاوزت كل حد من حدود الشجاعة. فدخل في مفاوضات مباشرة سرّا مع حزب العمال الكُردستاني الذي يُعتبر في تركيا حزبا إرهابيا. ثم بدأ في رفع الحظر عن الهوية والثقافة الكُردية. والأكثر من ذلك أطلق إسم الشيخ سعيد بيران الذي قاد ثورة كُردية إسلامية ضد أتاتورك على الميدان الذي أعدم فيه بدياربكر. وأطلق إسم أحمدي خاني أمير شعراء الكُرد على مطار هكاري. وبدأ بفتح المطارات والمؤسسات والمشاريع في شمال كُردستان بتركيا و فتح قنوات العلاقة الرسمية مع إقليم كُردستان ورفع علم كُردستان داخل القصر الرئاسي لمرات كثيرة استقبل فيها رئيس الإقليم أو رئيس حكومة الإقليم، بل وتعدى الأمر إلى رفع علم كُردستان على طول الطريق بين المطار و مكان إقامة الضيف الكُردستاني. كما خصص قناة خاصة باللغة الكُردية داخل التلفزيون التركي (ت.ر.ت). لكن الرئيس أردوغان لم يقدر على إنجاز هدفه كما أراد. هناك أسباب عدة أدت إلى عرقلة مسير أردوغان نحو تحقيق الحل النهائي للقضية الكُردية في تركيا ومن أهمها:
أولا: إن حزب العمال الكُردستاني الذي تأسس على آلام وقضية الشعب الكُردي، فإن آخر همّ هذا الحزب هو الهوية الكُردية وحقوق الشعب الكُردي. وهذا الأمر ترسخ آكثر بعد إعتقال زعيمه أوجلان وإرتخاء قبضته على حزب العمال نهائيا. حزب العمال في الواقع حزب يساري متطرف جدا ويعتبر الدولة القومية الكُردية في أدبياته تخلفا ورجعية. ومع أنه لم يقدم شيئا جوهريا للهوية والثقافة الكُرديتين في تركيا، بل وفي سوريا أيضا منذ عام 1984، حيث كان للحزب سلطة واضحة في مناطق الكُرد بشمال سوريا، لكنه أصبح حجر عثرة أمام الشعب الكُردي في أن يطرح بديلا عنه، فآلته الإرهابية جاهزة للقضاء على أي محاولة جدية. وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الشعوب الديموقراطي الذي وضعوا له في السابق بعض الشخصيات الكُردية القومية المخدوعة في الواجهة، ظنا منهم أن حزب الشعوب هو حزب قومي كُردي. لكن في واقع الحال، فإن هذا الحزب يساري يُدار من قبل اليسار التركي والأقليات الدينية المسيحية وبعض العلويين، مع أيادي خفية طبعا للفاشية التركية التي ترسم الحدود التي يجب أن يتحرك فيها الحزبان، العمال والشعوب، ضمن الإستراتيجيات التي تخدم سياسات القومية التركية الأتاتوركية، وتُجهض التطلعات الكُردية المستحقة. بإختصار، يبدو كأنّ حزب العمال المسمى بكُردستاني وحزب الشعوب الديموقراطي، ليسا سوى أدوات في يد بعض الأذرع القومية التركية الفاشية، لضرب الروح الكُردية وتحطيمها من الداخل. في عام 2015، كانت أمام حزب الشعوب فرصة ذهبية تاريخية للتحالف مع حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة، وبالتالي دسترة الحل النهائي للقضية الكُردية. لكن الحزب قام يصرّح بكل وقاحة أن هدفه فقط هو إسقاط الرئيس أردوغان لأنه وفق زعمها “ديكتاتور”. بينما كان حزب العمال في المناطق النائية في جبال قنديل المتاخمة لحدود إيران، على بعد الآف الكيلومترات من أنقرة، يعلن عن تحالفه مع حوالي 20 حزبا يساريا تركيا لم يسمع بهم أحد، سوى ربما أن عدة أشخاص قد كتبوا بعض الشعارات بأسماء أحزاب وهمية على جدران المرافق الصحية العامة بتركيا، كما هو دأب الأحزاب اليسارية في بلادنا عموما. والأنكى أن حزب الشعوب الديموقراطي تحالف مع منظمات المثليين، وأوصل كبيرهم إلى قبة البرلمان، لأول مرة في تأريخ تركيا تحت مظلته، لولا أنه خسر مع ما خسر الحزب من مقاعد بعد إعادة الإنتخابات التي حصلت بسبب عدم تمكن حزب العدالة والتنمية تشكيل الحكومة خلال البرلمان. ولو كان حزب الشعوب حزبا كُرديا، لما دمّر هذه الفرصة التاريخية الذهبية، ولما دفع بأردوغان إلى التحالف مع حزب الحركة القومية التركي ذي العداء الشديد للشعب الكُردي، لكن دمرطاش دمّر هذه الفرصة التي لن تعوض. وهذا يبين لنا أن هذا الشاب الذي تصرف بنزق سياسي، ورغم أنه كُردي من حيث القومية، لكنه والنواب الكُرد في هذا الحزب لا يشكلون حتى ربع مقاعد الحزب في البرلمان، لأن غالبية أعضاء البرلمان لحزب الشعوب تنتمي إلى اليسار التركي، العلويين الأتراك، الأقليات المسيحية وفئات تركية أخرى (عددهم حوالي خمسون ونيفا منهم ثلاثة عشر كُرديا). بينما يبلغ عدد نواب الكُرد في حزب العدالة والتنمية أكثر من سبعين نائبا، ولذلك يتندر المواطنون الأتراك، أن الحزب الكُردي في تركيا هو حزب العدالة والتنمية، لأنه يحوي على العدد الأكبر من النواب الكُرد. ومن هنا نلاحظ، أن قضية كبيرة ومديدة مثل قضية الشعب الكُردي في تركيا تدنت عند حزب الشعوب الديموقراطي إلى مستوى أقل من حقوق المثليين التي انبرى لها هذا الحزب وجعلها في أولويات أعماله!
ثانيا: إن المشروع القومي الكُردي الحقيقي هو ذلك الذي يقوده الزعيم مسعود بارزاني بكل جدارة. فهو في الواقع سليل عائلة نبيلة من العلماء الزعماء. هو إبن الزعيم التأريخي ملا مصطفى إبن الشيخ محمد إبن الشيخ عبدالسلام الأول. فأجداده كانوا علماء ومشايخ الطريقة النقشبندية، وزعماء سياسيين وعسكريين في نفس الوقت. هذا الزعيم، الذي أراه شخصيا آخر زعيم من وزن الزعماء التأريخيين بين الشعب الكُردي، يواجه منذ عام 1991 محاربة شعواء من قبل دول عالمية وإقليمية وبعض الذيول المتماهية مع هذين الإتجاهين في داخل كُردستان والعراق. وهذه الذيول تتوزع بين الأحزاب والجماعات والأفراد التي تطبل وتزمر ضد هذا القائد الشجاع الذي قام العالم كله في عام 2017 يبتغي كسر إرادته فلم يستطع، واقتحم لوحده ومعه المخلصون من أبناء شعبه ميدان التحدي شامخاً يرفض كل الإملاءات، ونفّذ ما وعد وحقق الإستفتاء الذي سال كالسم في حلقوم المعادين للشعب الكُردي. ورغم أن التحدي كان خيالا مستحيلا، لكن مسعود بارزاني جعله واقعا، ووقف في نفس الوقت ضد الأضداد الذين جمعهم رفضهم لحق الشعب الكُردي في الإفصاح عن رغبته ورأيه. فأمريكا وبريطانيا ومعهما معظم أوروبا، إلى جانب إيران وتركيا وسوريا والعراق ومعظم الدول العربية، وإلى جانب الصين واليابان والكوريتين وتقريبا معظم الدول التي لها شأن ما في العالم، قمن جميعا وبصوت واحد يطلبن من الرئيس مسعود بارزاني أن يكف عن الإستمرار في تحقيق الإستفتاء. لكن بارزاني بعنفوان كُردي معهود موروث، وبشجاعة خيالية، تحمل كل العقابيل وقطع صوت هذه الدول كلها بـ ‘لا‘ مدوية يوم الإستفتاء، حين أدلى بصوته لكُردستان، ليقدم أقوى درس في السياسة والعلاقات الدولية في هذا العصر سيكون له شأن عظيم في المستقبل. في الواقع، وتحت وطأة الضغوطات الكبيرة من قبل حزب العمال الكُردستاني وظله حزب الشعوب، وضغوظات اليسار والفاشية التركية معا، وفوقها ضغوظات عالمية وإقليمية، اتخذ الرئيس أروغان موقفا ربما لم يكن يعكس المسار الذي بدأ به نحو تحقيق الحل الشامل للقضية الكُردية، فأصبح هو ضحية كبيرة لموقف غير مراد بل مفروض عليه من قبل قوى أكبر من طاقاته.
ثالثا: إن مشروع الرئيس مسعود بارزاني يواجه عدوانا شرسا من قبل جهات عدة، عالمية وإقليمية، وهي نفسها تلك الجهات التي عرقلت مساعي الرئيس أردوغان نحو تحقيق الحل النهائي للقضية الكُردية. ومن أبرز هذه الجهات ما عدا بعض الدول العالمية والإقليمية، يأتي حزب العمال وحزب الشعوب الديموقراطي في المقدمة. ثم هناك التيارات القومية واليسارية التركية، واليسار الكُردي، وجماعات موالية لإيران، وكلهن يشتركن في عرقلة سير مسعود بارزاني الذي هو بحق زعيم الكُرد عالميا. وهذه الجهات تشترك أيضا في إفشال محاولات الرئيس أردوغان التي أرادت حل قضية الشعب الكُردي في تركيا. حري بالرئيس أردوغان أن يصحح هذا المسار ويتعاون مع الرئيس بارزاني لبناء مستقبل واعد للشعبين الكُردي والتركي في المنطقة، وللحيلولة دون ترك الفرصة لأعداء السلام بين الشعبين، فيحققوا مآربهم في صب الزيت على نار العداوة بينهما!