18 ديسمبر، 2024 9:12 م

المؤسسة العسكرية والثقافة

المؤسسة العسكرية والثقافة

عرف عن الضباط العراقيين في الثلثين الأولين من القرن العشرين ميلهم للأدب، وتعاطيهم للشعر، واهتمامهم بالكتابة. وكان انغماس قادة كبار، يتولون مناصب مهمة، ويكلفون بإدارات عليا، في ملفات فكرية وثقافية أمراً مألوفاً إلى وقت قريب. كانت هناك على الدوام فسحة من الوقت للتأمل والقراءة والتفكير في أصعب الظروف وأشدها حلكة. وكان هناك ميل من الآخرين للاستماع والإنصات وإبداء الرأي. حتى أن شهرة البعض الأدبية طغت على شهرته العسكرية. وربما دفعت به إلى الواجهة ومنحته فرصاً لا يحلم بها سواه.
وفي بادئ الأمر كان قادة الفرق وأمراء الألوية يقومون بتدوين تجاربهم العسكرية، بشكل منهجي صارم، ويؤرخون للمعارك التي خاضوها بأسلوب أكاديمي بحت. وكانت هذه المذكرات توزع في الوحدات العسكرية بموافقة من وزارة الدفاع. وقد أتيح لي الاطلاع على البعض منها – وأخص بالذكر منها مذكرات آمر اللواء سعيد حمو – فلم أجد فيها ما يدعو لحجبها عن التداول خارج المؤسسة العسكرية. وكنت أرى أن اطلاع الرأي العام عليها يدحض ما لايحصى من الشائعات، ويجعل منها مراجع تاريخية مهمة، ينتفع بها، ويحتكم إليها.
إن المذكرات الشخصية لقادة الجيوش تقليد عالمي لا يقتصر على المنتصرين الذين يؤرخون لما أصابوه من مجد، بل يتجاوزه إلى المهزومين أيضاً. فقد كتب طونزند مثلاً عن استسلامه في معركة الكوت عام 1916، وهي مذكرات جميلة وممتعة. قام بترجمتها إلى العربية عبد المسيح وزير حوالي عام 1924، ثم أعاد نشرها أحد القادة العراقيين في منتصف الثمانينات غفلاً عن اسم مترجمها، وبيعت على نطاق واسع في الوحدات العسكرية. كما نشر قادة عسكريون ألمان مذكراتهم بعد انهيار ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية ونقل بعضها للعربية أيضاً.
ومن أشهر الضباط العراقيين الذين وضعوا مؤلفات مهمة العميد طه الهاشمي رئيس أركان الجيش ورئيس الوزراء في ما بعد. واللواء الركن محمود شيت خطاب صاحب الفتوحات الإسلامية، واللواء الركن محمد أمين زكي الذي كتب وترجم عن حروب العراق، والعميد الركن شكري محمود نديم الذي أرخ لمعارك احتلال العراق في الحرب الأولى، وسواهم كثير.
وفي البلاد العربية كان هناك العديد من الضباط الذين كتبوا في التاريخ والأدب والفن والتراث. ومن أشهرهم على الإطلاق يوسف السباعي وزير الثقافة المصري الذي اغتاله فلسطينيون في قبرص عام 1978 وكان روائياً وقاصاً غزير الإنتاج. والدكتور ثروت عكاشة الذي استوزر في الستينات في مصر. وحسن فتح الباب الشاعر الحداثوي المعروف، والقائمة تطول.
وقد أردت من هذا الكلام القول أن المؤسسة العسكرية التي تحتضن نخباً ثقافية مهمة وكثيرة، إنما تسمح بتغلغل القيم الإنسانية والأخلاقية الرفيعة داخل الجيش، وتؤسس لتقاليد مهنية رصينة فيه. وللأسف فإن كل ما اكتسبه العراقيون من هذه الظاهرة تداعى خلال الحروب العبثية التي خاضها النظام السابق ضد جيرانه. ولم يتبق منها إلا أصوات شعراء أم المعارك، ومنظري القادسية، ومعيدي كتابة التاريخ، وغير ذلك من المسميات.
ربما لا تكون من مهمات الضابط الشجاع الكتابة والتأليف والتدوين، ولكن وجود أشخاص من هذا الطراز يشكل إضافة مهمة للمؤسسة العسكرية، ويرفع أرصدتها من الرصانة والعقلانية، ويحميها من خطر التفكك والفساد. وهي أمور أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في تعزيز دعائم القوة، وتحقيق أسباب الانتصار!