تتمسك وتهتم الدول في العالم المتقدم والمتحضر بالحفاظ على مؤسساتها التربوية والتعليمية وتجتهد في تطويرها وتحديثها، وعدم جعلها خليطا او حالة ازدواجية تتخللها مناهج وافكار ليس بمقدورها ارساء قواعد بناء الانسان والعلم والمعرفه والتنوير التي تصب في بناء الدولة القوية ، ما يلزم الدولة بضرورة الحرص على صياغة واعداد المناهج بالشكل الذي يبعدها عن الانقسامات والتصدع والتشتت والتمايز الطبقي والبيئي،وينصب تركيز مؤسسات الدولة التربوية والتعلمية والثقافية على الاهتمام بالتعليم الوطني وإبعاده عن اي تجاذبات تخلق او تؤدي الى بيئة اجتماعية ضعيفة قابلة للاختراق او الانحراف؛ ما يؤدي الى مجتمع متفكك وشخصية ضعيفة غير متكاملة الهوية، وكل هذه المسميات هي عوامل سلبية تشكل خطورة كبيرة على بناء الدولة والمجتمع ويدخلها في ازمات تظهر وتحدث بسببها اعمال العنف وترتفع نسبة الجرائم عندما يضعف ويتراجع اداء ومهنية المؤسسات التربوية والتعليمية، ما يشكل خطرا كبيرا على المجتمعات التي تقوم وتُبنى على فكرة الامة الواحدة، وهذا ما نشهده في دول العالم الغربي التي تنبع شعوبها من روافد انسانية وبشرية متعددة مختلفة الاصول والجذور والاعراق، ومن هذا المنطلق وعلى هذا الاساس يبنى ويبرز دور منظومة المؤسسات التربوية والتعلمية العلمية المهنية الصحيحة في غرس المهام المنوطة بها وتعزيز قيم الوحدة الوطنية بين هذه الاصول المتعددة وصهرها في البوتقة الوطنية للدولة، وهذا بالضبط ما نحتاجه في العراق لخلق وبناء مجتمع واحد تتحقق فيه كل مستلزمات البناء المجتمعي والامن والسلام الذي يؤدي بالنتيجة الى العيش المشترك في ظل منظومة موحدة هي منظومة الاهداف القومية للبلاد, وكل ما حدث في العراق من تشرذم وخلافات طائفية عنصرية مذهبية ادت الى ضياع الهوية الوطنية كان بسبب تردي وتراجع دور العملية التربوية والتعليمية بعد ان فقدت سماتها ورؤاها الواضحة والمطلوبة في بناء المجتمع والحفاظ عليه متماسكا، ومنع وقوع الخلافات والتمايز وشيوع الارهاب الفكري الذي انتشر في المجتمع، ناهيك عن الانتشار العشوائي للمؤسسات والجمعيات والمدارس الدينية بهيكليات ومنظومات تكون احيانا بعيده عن سيطرة الدولة ووزارتي التربية والتعليم ولاتتبع لها، والتي غذت(وللاسف) بشكل وباخر افكار التطرف والغلو في الدين ونبذت روح المواطنة والانتماء للوطن؛ ما عمق التفكك الاجتماعي وصدع العلاقات الانسانية فيه وبالتالي اصبحت المنظومة القيمية والامنية والهوية الوطنية في خطر كبير لم يكن في يوما من الايام بذات المستوى.
مفاهيم عصرية
اصبح من الضروري القيام بعمليات اصلاح شامل لمؤسساتنا وعملياتنا التربوية والتعلمية بإدخال مواد ومفاهيم جديدة وعصرية بمقدورها تعزيز وبناء تربية المواطن والاهتمام بالمفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان وادخالها في مناهج وكتب التربية والتعليم بشكلها الهادف والمدروس الذي يتلاءم وطبيعة المرحلة وما افرزه الاحتلال الامريكي للعراق، وبطريقة تحقق قفزة نوعية في خطط الاصلاح لخلق واقع ثقافي سياسي علمي يرتقي لبناء مجتمع و مواطنين مبدعين يؤمنون بالدفاع عن الحريات والدمقراطية والعيش المشترك ضمن الأنظمة والقوانين، وهذا يلزم الدولة القيام بخطوات عملية لتجسيد المفاهيم والبرامج والاهداف بشكل علمي على ارض الواقع لإعداد الشباب بشكل خاص والمواطنين بشكل عام لمواجهة التحديات والتحولات وتحمل المسؤولية، وهذا بحاجة ماسة الى تصاعد قوة الدولة، وهنا تبرز الحاجة لفك الاشتباكات والتناقضات الموجودة في مناهج التربية والتعليم والمقرارات الاخرى، فضلا عن تشجيع الاساليب والممارسات والمهارات والمشاركات اللازمة للمواطنة العصرية بدلا من الممارسات البالية كالتلقين والحفظ المجرد على ظهر القلب، من دون فهم او استيعاب.
اهم ركائز الدولة
تعتبر منظومة التربية والتعليم احد اهم ركائز بناء الدولة والمجتمع والحفاظ على السلم الاهلي والمنظومة القيمية والهوية الوطنية الواحدة خاصة عندما تكون هناك اسس وقواعد ومؤشرات تعبر عن افكار ورؤى متماسكة قوية، يكون بمقدورها بناء الدولة بكل سلطاتها ومؤسساتها ومفاصلها وبناء المجتمع وافراده بناء ايجابيا، كون التربية والتعليم المسلك والطريق الصحيح للتنشئة في جميع جوانبها وبكل ابعادها وعلى جميع المستويات، وهيالمسؤول الاول عن بناء المنظومة القيمية وبلورة الشخصية الوطنية وتحقيق التقدم والابداع، ومجموع هذه الفعاليات والنشاطات والعمليات تشكل بدورها العوامل الاساسية في بناء الاقتصاد الرصين وارساء قواعد عملية سياسية بامكانها بناء دولة عصريه تحافظ على تحقيق العدل والانصاف وتحقيق تكافؤ الفرص لمواطنيها محققةً الدعم والحماية للامنوالاستقرار العام في البلاد، ولكن تكمن المخاطر ويقع المحضور عندما ينحسر ويتأخر ويضعف ويتراجع دور المؤسسات التربوية والتعلمية يحدث العكس، بمعنى يحدث الخلل في بناء الشخصية والهوية الوطنية الواحدة وتتعرض الدولة والمجتمع والامن الوطني لجملة من التحديات والمخاطر الكبرى، و يحدث الانفصام والانفصال بين الناس واجهزة الدولة، ومن هذا المنطلق جاءت الحاجة للنهوض بواقع مؤسساتنا التربوية والتعلمية من خلال تغير منهجي شامل يشارك فيه الجميع في مقدمتهم الخبراء التربويون والاكادميون والتدرسيون واولياء الامور لتشخيص الاسباب والعوامل التي ادت الى الضعف والانحسار والتردي في اداء مؤسساتنا التربوية والتعليمية، ومن اجل التوصل الى قرارات نتمكن من خلالها بناء مؤسساتنا التربوية والتعلمية ووضع المناهج التي تتوافق وتتماشى مع متطلباتنا الحياتية العصرية التي تمكننا من السير في ركاب الدولة والمجتمعات العصرية وبناء جيل مقتدر بإمكانه الدفاع عن الوطن والاسهام في تنمية البلاد ، وما نقصد هنا بالدفاع عن الوطن هو ليس الحفاظ على حدود وامن البلاد من الجوانب العسكرية والامنية فقط انما المعني اعداد جيل مؤمن بالعيش المشترك وثقافة التسامح وتقبل الاخر من خلال بناء عقول نيرة بمقدورها قيادة مسيرة البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفي كافة المجالات بالشكل الذي يتناغم مع عصر العلم والمعرفة، وكل هذا يعني العمل والاجتهاد في بناء الانسان من خلال سياسات تربوية وتعليمية استراتجية واضحه نابعة من المصالح الوطنية والشعبية المعتمدة على الموارد البشرية وليس على عوائد النفط والمعادن في البلاد فقط ، لان التربية والتعليم الطريق والمسلك الوحيد الذي يؤدي الى التقدم والازدهار والنهوض بكل قطاعات الدولة ويحقق الامن والسلام واسعاد المجتمع و يصب نتائجها في بناء الانسان وحماية السيادة الوطنية والامن الوطني من خلال الاهتمام بالنشء واشباع عقولهم بضرورة تحمل المسؤولية والاسهام الفاعل في بناء الدولة والمجتمع وربطهم بقضايا الوطن عبر توسيع دائرة انتمائهم الوطني بدلا من دائرة الاتساع القبلي العنصري المذهبي الطائفي الطارئ.
تأهيل واعداد القيادات
تتحمل وزارتا التربية والتعليم، وبدعم من الدولة، اعادة تأهيل واعداد القيادات التي تمسك بزمام ادارة المنظومة التربوية والتعلمية وتفعيل مراكز الدولة المعنية بالإبداع والابتكار والثقافة والآداب والفنون والعلوم والتكنلوجيا والحداثة ومراكز التدريس الاكاديمي ان وجدت، كما هو مطلوب ايضا اخراج غير الكفوئين والمتلونين والمنتفعين من البقاء في مواقعهم وهم غير قادرين على القيادة والتغير، بل نرى البعض من هؤلاء اصبحوا عوامل اعاقة للتقدم والابداع ونماذج سلبية في تعويق الطاقات العلمية والفنية والثقافية، وعوامل طرد لأصحاب المواهب والكفاءات التي بمقدورها تطوير عمليات واداء مؤسساتنا التربية والتعليم وبناء المواطن الفاعل لتتمكن الدولة بعدها ومن خلال مؤسساتها التربوية والتعلمية تحقيق قفزات وتطور نوعي في عمليات التنمية والنمو والاستثمار في جميع القطاعاتوكل هذا منوط بتأهيل وتعزيز دور المؤسسات التربوية والتعلمية، وما تحتاجه من مختبرات ومناهج ومواد علمية ترتبط بحاجة المجتمع والافراد.
التعددية الفكرية
تتحمل مؤسساتنا التربوية والتعلمية الدور التربوي والتعليمي في تعزيز التعددية الفكرية واحترام وحماية الديمقراطية وتحقيق العدل والانصاف في المجتمع وتكافؤ الفرص واحترام الحريات العامة،هي في الحقيقة بأمسّ الحاجة الى منظومة تربوية كفوءة تقترن بالبرامج والمناهج والتخطيط العلمي المهني العصري ليكون بمقدورها الارتقاء الى اعادة صياغة الانسان العراقي والاهتمام بتعميق شعوره الوطني وتنوير شبابه من خلال اشاعة المفاهيم التي تؤدي الى تكريس التعددية الفكرية، خاصة وان العراق يواجه تحديات ومتغيرات كبيرة على ساحته الوطنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية، وهو بامسّ الحاجة اليوم الى حفظ واحترام وحماية ديمقراطيته وتعدديته الفكرية، لانها تعني الامن الشامل للدولة والمجتمع كونه الاساس لتحقيق الحياة الامنة المستقرة، وهي تعد ايضا فيما تمثله، ابرز الحاجات في حياتنا المعاصرة لان اكثر السلبيات والجرائم التي تقع وتحدث سببها الانحراف في الفكر والتصرف والتصورات والقناعات الخاطئة، اضف لذلك التطورات الكبيرة في التكنلوجيا الحديثة التي ساعدت المنحرفين والمجرمين على ارتكاب جرائمهم .
جودة التعليم
لا يدلل الانفاق الحكومي ومعدلات الالتحاق بالمدارس على جودة التعليم، بل هناك مقاسات مهنية تقاس بها هذه الجودة، منها كفاءة الاساتذه المدرسين والمعلمين وقدراتهم على التوصيل والعطاء ورغبتهم الحقيقية في العمل مضافا لها نوع البيئة المدرسية التي يعيشها الطلبة والتلاميذ وقدرات وكفاءة الطلبة في الاستيعاب، والاهم من ذلك دور قادة المؤسسات التربوية واشراف الحكومة المباشر على هذه المؤسسات وادارتها والاهتمام بالمدارس والجامعات وإبعاد الفساد عنها، وجعلها على سلم اولوياتها لتنجح في تجذير قيم تربية المواطنة في نفوس وعقول الطلبة والتلاميذ لخلق جيل جديد يحترم الأنظمة والقوانين، فجودة التعليم تقاس من خلال مدى قدرة وزارتي التربية والتعليم في ايصال البرامج والمناهج والتطبيقات العملية بشكل مهني علمي.
الادارة السلطوية
اصبح من الضروري في عصرنا الراهن الابتعاد عن الادارة السلطوية الشديدة المركزية، بحيث لاتتقاطع مع الأنشطة الخاصة في جميع جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا لكي لا تصبح مردوداتها سلبية لذلك تحتاج الادارات والقيادات التربوية والتعلمية الى وحدات اشرافية متميزة في اختصاصها وخبراتها وتجاربها، بالإضافة الى ممارسة الاعمال والنشاطات الميدانية العملية للتعرف على مكامن الضعف من اجل التغير والاصلاح، ومن نجاح هذه الاساليب بالإمكان التعرف على جودة التعليم والتعرف كذلك على الاساليب التي تتبع في التدريس خاصة دروس التربية البدنية والفنون والآداب التي ما زالت تدرس على شكل ارشادات تقدم من قبل المدرسين والمعلمين للطلبة والتلاميذ مع قلة الحوارات والنشاطات المفتوحة وهي اساليب تقلل وتأثر على نوعية التعليم وجودته. اصبحت الحاجة ماسة الى نظم تعليمية قوية لبناء الشخصية الوطنية التي تمثل البوابة القيمة والأخلاقية التي تحترم النماذج والقدرات الوطنية العلمية والأدبية في المجتمع، خاصة بعد الزلزالالذي احدثته فوضى الاحتلال في مؤسسات التربية والتعليم والمجتمع العراقي والذي افقد المدارس والهيئات التعلمية والتدرسية هيبتها واثر على العمليات التربوية.. ولهذه الظروف واسبابها اصبحنا بأمس الحاجة الى نظم تعليمية وتدريسية وتربوية اكثر تأثيراوفاعلية لتستعيد المدارس والمعاهد والجامعات هيبتها الحقيقية التي كانت عليها في السابق، وهو ما يدعو الدولة الى الاهتمام بالتعليم الرسمي الذي تراجع امام التعليم الخاص، ومنع تحويل التعليم في العراق الى سلعة تباع وتشترى وتقاس بقدرة من يدفع اكثر.