10 أبريل، 2024 4:22 ص
Search
Close this search box.

المؤامرة وراء نظرية المؤامرة…

Facebook
Twitter
LinkedIn

قل لي من يتآمر عليك أقول لك من أنت، من اي بلد واية قومية واي مذهب. بل وماهي باقي الخرافات التي تؤمن بها الى جانب نظرية المؤامرة، فالايمان بواحدة يستوجب الخضوع لاخرى. وعلى العكس من الخرافة الدينية التي يروج لها مهرجون فنطازيون، فان نظرية المؤامرة تقدم عادة ببدلة ورباط. وجمهورها اوسع من المتدينين. يؤمن بها الظالم والمظلوم بنفس الوقت وبقناعة خادعة حقيقية ويروج لها متحذلقون بمواصفات واساليب سهلة التشخيص. وهي منتشرة بالعالم الغربي وخاصة امريكا ربما اكثر او بقدر انتشارها بعالمنا الشرقي الاقل تحضرا واكثر خرافية وتدليسا.

ان تؤمن بنظرية المؤامرة هي ان تنسب الاحداث الفاجعة وربما الغريبة المفاجئة الكبرى وخاصة السياسية التي تعجز عن استيعابها او تفسيرها، او التي تناقض طموحاتك وتوجهاتك واعتقاداتك المسبقة المتهلوسة عادة، الى مخطط بشري مدروس وتامري ومجرم يتحكم بالاحداث والادوار بما يستهدفك انت بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وان تصل لهذه التعليلات بقليل من التفكير السطحي المهووس وليس التلقائي، لان ظاهر الحدث واضح للاخرين، ولكنك تشعر انه يهددك وعليك استنهاض الاخرين ليدافعوا عنك بدلا منك. فخطاب اصحاب نظرية المؤامرة مغلف بالعقلانية والاستنباط والتحليل الفكري الجنائي بادلة صحيحة ومتناقضة من هنا وهناك، وموجه للجموع والرعاع لاستنفارهم على ارتكاب جريمة اكبر من الحدث نفسه. وهو خطاب فاشل حتميا ولم ينجح سابقا بالمرة.

فمثلا ان تقول في الشرق الاوسط هذه الايام: امريكا هي التي صنعت داعش وبن لادن من قبل ذلك وصدام (وهي التي ستقضي على داعش حينما ينتهي دورها كما قتلت/ او لم تقتل بن لادن وصدام حسب روايتين متناقضتين مضحكتين لنفس أصحاب المؤامرة. وقبل امريكا كان نفس اللوم لعقود يرمى على الاستعمار!) وهي التي تحرك رجال السياسة عندنا وتستبدلهم وتتخلص من بعضهم بطرق مريبة وتفرض بسرية شروطها على كل اللاعبين وفقا لمخطط وضعته بالتعاون مع اسرائيل وربما بريطانيا ايضا، وما الى ذلك من الهلوسات الفكرية، التي لاتقدم بل تؤخر. وياتوك بادلة مثل فيديو لالقاء طائرة لبعض المؤونة على داعش لانعرف من صورها واين، وبجملة مقتطعة من كتاب لهيلاري كلنتون، ومن تصريح لمدير مخابرات سابق، وما الى ذلك من اساليب حشر الحقائق المجتزأة للخروج باستنتاجات مزيفة.

مشكلة هذا الطرح ليس فقط في توهم عدو افتراضي واحد ليتحشد الجميع ضده وانما يقود حتميا الى تعدد وتضارب الاعداء. فمن يقول ان امريكا هي العدو الخارجي الذي يستهدفنا هو بالضرورة سيضيف لاحقا لها إسرائيل او ايران او تركيا او السعودية او حتى قطر. بل وعدو داخلي ايضا من الخونة العملاء لواحد من هؤلاء او اكثر. هذا العدو الداخلي هو ضمن النخبة السياسية الحاكمة والمتنفذة وقادة الكتل والمرجعيات الدينية. بل والاغرب ان الافتراض سيمتد حتميا ليشمل تخوين العوام بالمطلق ومن لا يد له باية مؤامرة ولاعقل. فكل من يبدأ بالعراق مثلا باتهام امريكا بقيادة مؤامرة تستهدف العرب او المسلمين سينتهي حتما باتهام كل او معظم الشيعة او السنة او الكرد او التركمان او المسيح العراقيين ممن لاحول لهم ولا قوة وليس قادتهم فقط، وفقا لتوجهات مطلق المؤامرة المسبقة. من هنا فان نظرية المؤامرة عبثية وتنتهي باتهام النفس او اخوة وزملاء ومواطنين ابرياء من نفس البلد.

كل ظالم في تاريخنا الحديث يتبنى مانسميه اليوم نظرية المؤامرة. وكل فكر شمولي غير ليبرالي سواء شيوعي او اسلامي او قومي شوفيني لايمكن ان ينتعش بغير المؤامرة. فالدكتاتور يقضي حياته تحت وهواس المؤامرة التي تحاك ضده وضد عهده وفكره النير وعبقريته، من الكل البعيدين والقريبين له، ومنهم ستالين وهتلر وصدام. والمظلوم يتبنى المؤامرة لانه عاجز وعديم القدرة ومقهور ومسجون ومتشبع بالخرافة. له احلام محطمة وازدواج بل نقص بالشخصية وخيالات هلامية وعقائد متناقضة ووضاعة نفس وجهل وطموحات لايستطيع تحقيقها، فيضفيها على اخرين يعتقدهم اذكى منه وانجح وربما اشر ليعوض نقصه باختلاق وتصديق المؤامرات المحبوكة بذكاء يفتقده هو.
 
اما مروجوا نظرية المؤامرة في ايامنا فهم المتحذلقون من انصاف المتعلمين الذين يمطرونا بتحليلاتهم السياسية والاجتماعية صباح مساء بالقنوات التلفزيونية والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي التي ضاعفت جمهورهم كثيرا. وبعد تمهيد تاريخي مشبع بالحقائق غير المترابطة والتلميحات غير البريئة التي تقود دائما لسؤال يبدو عفويا وهو “من المستفيد اذن؟” وهنا يبدا صاحب البدلة والاناقة باستخلاصاته العبقرية التامرية والتي يتحفنا بها كانه اول مكتشف لها. والتي هي متوقعة ومعروفة مسبقا من اسم او قومية او طائفة او حزب المحلل الهمام او القناة او المقدم… والقاعدة الثابتة التي يتفق عليها علماء النفس وتؤكدها كل الشواهد هي ان كل متحذلق بنظرية المؤامرة يتهم طرفا بعينه بالتامر الذكي المخطط المعد وفقا لخطة اجرامية سرية يكون هو اول الساعين ان سنحت له الفرصة للعمالة لهذا الطرف. فمن مقتضيات الايمان بنظرية المؤامرة الاعجاب غير المعلن بالمتامرين، وامكانية تبرير العمل معهم تحت مسميات التحالف التكتيكي ومقتضيات المرحلة ومصلحة شعبي وناسي!!! فمروج المؤامرة ساعي دائم للوقوع بحبائلها.

لكل بلد وشعب بالعالم متامروه المعروفون. ولايخلو بلد من المؤمنين والمروجين لنظرية المؤامرة. وقد يتعجب القارئ العربي اذا عرف ان الامريكان هم من اخترعوا هذه النظرية اولا (والبعض يقول انهم السوفيت) وهم من اوسع واشهر المؤمنين بها. وبدلا من داعش والقاعدة وإسرائيل عندنا, فان المؤامرات التي يشكون منها وينظرون حولها باسلوب المؤامرة هي من وزن اغتيال جون كندي وفضيحة ووترغيت والصعود او تلفيق الصعود للقمر وانتشار مرض الايدز ليصيب السود والشاذين والصحون الطائرة التي يتم حجبها عنهم وسقوط مبنيي مركز التجارة وتزوير نتائج انتخابات فلوريدا وغير ذلك من الاحداث المشابهة. المتهم بالتامر عندهم متعدد ومتنوع ايضا. منهم ال CIA والبنتاغون واليهود والماسونية ومليارديرية النفط والاعلام والاسهم ووكالة ناسا الفضائية ..الخ من المشتبهين المكررين ويضاف لهم حديثا السعودية والمسلمين عموما كمتامرين جدد على الساحة الامريكية! اما في بريطانيا فان اغتيال الاميرة ديانا او وفاتها طبيعيا بحادثة نفق باريس عام 1997 هو على قمة المؤامرات التي اصابت الانكليز بمقتل ولازال هناك من ينظر حولها ويؤشر باصبع الاتهام حولها وحول غيرها من احداث مشابهة علنا للمخابرات الخارجية MI6 وللمحفل الماسوني او اليهود او الامير فيليب زوج الملكة او للمهاجرين اليها من امثالي او حتى لامريكا نفسها!!!

ويذهب المهووسون بنظرية المؤامرة الى حد القول بان إنكار المؤامرة هو بحد ذاته مؤامرة، وتستهدف وجودنا ومصالحنا وحياتنا، اي ان ما تقرأه الان قد كتبته بالواقع اجهزة سرية من وراء ستار وبتواطؤ دولي ومحلي خفي!!! اما المعتدلون منهم فيقولون علينا ان نقبل ببعضها، ممن لاجدال حولها؟! وان نرفض الباقي. وهنا نقع بمطب الخرافات الأزلي وهو الإيمان بواحدة يقود بالضرورة لأخرى، ولا معايير متفق عليها لما يمكن ان تشمله او تستبعده. في حين يرى العقلانيون ان نظرية المؤامرة هي دخان الفحم الأسود عديم الفائدة بل الخانق والمتصاعد من قطار عصر المعلوماتية والحريّة وانتشار الأخبار بسهولة ويسر، والذي لن يثني مسيره اصحاب البقع السوداء والعمياء بعقولهم صغرت ام كبرت والذين فاتهم القطار ولكنهم يتغزلون بدخانه.

كبائع للطماطة يحتكر السوق ولايبيع بضاعته الا باسعار مرتفعة. قمت انا ومجموعة اخرين من التجار بتحذيره اولا من مخاطر سلوكه فرفض الانصياع. فقمنا باستيراد طماطة من مصدر اخر وبعناه باسعار ارخص حتى تسببنا بافلاسه. فخرج ينادي انها مؤامرة ويتهم الجميع وبضمنهم المشترين بانهم شركاء بها, بدلا من ان يندب غبائه! وصاحب نظرية المؤامرة يهمه اولا كيف ولماذا اتفق التجار, بينما الناكر لها يهمه اخراج الفاشل من السوق وفائدة المستهلكين عموما.. وهكذا هي السياسة مصالح متغيرة وتحالفات ولايهم ما يتحذلق به الخاسرون الفاشلون للتعبير عن عجزهم.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب