18 ديسمبر، 2024 9:02 م

المؤامرة – تلك المعشوقة القبيحة – عن الأمّة والغزو، وما ملكت أيماننا..

المؤامرة – تلك المعشوقة القبيحة – عن الأمّة والغزو، وما ملكت أيماننا..

منذ أن وعينا الدنيا أطفالاً، مروراً بكلّ مراحل العمر التي وصلناها وربطنا بها وعينا وإدراكنا ، لم تفارق كلمة المؤامرة أسماعنا منقولة، أو أنظارنا مكتوبة بأحرف لاهثة، نتعثر بها حيثما ذهبنا.
 الهواء متآمر علينا فيأتي لاهباً مغبّراً، والماء ينضح بالمؤامرة فيجري خابطاً في أنهارنا المهددة بالجفاف، وفي عقولنا القاحلة إلا من شجرة زّقوم أسمها المؤامرة، ملأت كل حقولنا ولم تترك بقعة يمكن أن ينبت فيها اخضرار وإن شحيحاً.
لكن المؤامرة فاتنة مثيرة على قبحها وبشاعة فعلها، فهي تجنبنا عبء إجهاد الفكر والسعي وراء الحقيقة، وتريحنا من تحمّل نتائج أفعالنا وما صنعته غرائزنا.
نضع المؤامرة قبل الخبز وقبل الكرامة، بل ونضعها قبل الإنسان ذاته، نستهلك ما وهبنا الله من قدرة على صوغ الكلمات، لا في الوقوف إلى جانب الحرية والبحث عن حقيقة ضاعت وسط ركام الترّهات والفجاجات، بل في تدبيج مقالات وقصائد وبحوث مطّولة تتحدث كلها عن المؤامرة، فتُقتل الحقيقة في اللغة لتصبح (جيشا متحركا من الاستعارات والكنايات والتشبيهات المجسمة، إنها خلاصة عمّقتْ ونقلتْ وزخرفتْ بلاغياً وصارت بعد الاستخدام الطويل تبدو شرائعية وملزمة) كما يقول نيتشه.
المؤامرة دائماً يأتي بها الآخر، فلابد من آخر كي نتمكن من إيجاد المؤامرة، أو تكمل حضورها بحضوره، لقد أصبح ذلك بمثابة معادل سايكولوجي يدخل في بنائنا الداخلي ويؤثر بشكل مباشر على أنماط تفكيرنا ورؤيتنا للأمور.
لكن خارطة الآخر تتسع كثيراً، فهو المختلف قبلياً أو إثنياً أو طائفياً أو دينياً أو فكرياً أو سياسياً، وهو المنافس في المهنة والمزاحم في المكان والشريك في الزمان، بل حتى لو ابتعد مكاناً وأرسل إنجازاته الحضارية هائلة التطور التي نقلتنا من عصر الظلام إلى عصر يشعّ بالأنوار، لكنه لايرسلها صافية، بل يعجنها بالمؤامرات، وان فكرّنا بمثلها أو مايقاربها، فنحن قد دخلنا حقول المؤامرة وصرنا جزءاً منها، وعندها فلتحقّ علينا اللعنة، حتى لو كانت دعوانا مجرد رأي فكري أو ثقافة نصيّة في قضية عامة مستمدة من موروثنا الديني وتاريخنا السياسي على السواء.
مذ بدأت حضارة القوّة تتمركز في بقع جغرافية وسكّانية معينة، بدأ الغزو في سبيل توسيع السيطرة على الأرض والهيمنة على سكانها للحصول على المزيد من مصادر القوة.
حضارات الشرق هي التي ابتدأت الغزو منذ عصور ما قبل الميلاد، وكان موجهاً حيث الخصوبة بالاتجاهات الأربع، فأطلق أكبر غاز عرفته العصور القديمة (سرجون الأكدي ) على نفسه، لقب ملك الجهات الأربع كناية عن امتداد سيطرته بكلّ الجهات.
ثم جاءنا الغزو من الشرق (قورش) وبعدها من الغرب (الإسكندر المقدوني) وأباطرة روما، ثم غزونا روما في هانيبعل ولاحقونا إلى قرطاجة ليسقطوها، بعدها انعكست الآية في العصور الإسلامية، فذهبت الغزوات من الجنوب نحو الشمال والشرق، ثم باتجاه الغرب واحتللنا الأندلس ثم جاء المغول والتتار من الشرق والعثمانيون من الشمال، وهكذا.
القصد في هذا العرض، أن عقلية الغزو لا تختصّ بأمّة دون أخرى، ولا بغرب دون شرق، بل تبادلت كافة الحضارات القديمة والحديثة أعمال الغزو، وأُطلق على الحروب التي خاضها المسلمون الأوائل لنشر الدعوة، مصطلح الغزوات قبل أن تعدّل لاحقاتها إلى (فتوحات) والفارق بين المصطلحين لا يتعلق بالحرب ذاتها، بل في معطياتها ونتائجها، ففيما يطلق مصطلح الغزو بصفة عامّة ،على دخول أراض تابعة لأقوام أخرى، تختصّ تسمية الفتوحات بالاستيلاء على المدن ، حيث معظمها كانت تحاط بأسوار متينة وبوابات ضخمة ،وبالتالي فالفتوحات تكون جزءاً من الغزو وإحدى نتائجه الرئيسة في حالة الإنتصار.
لقد غزونا شعوب الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، ابتداءً من الأقربين، وذلك من أجل نشر الرسالة الإسلامية، وبعدها غزتنا جيوش الغرب من أجل نشر الرسالة الحضارية، وكلّ غاز اتخذ لغزوه شعاراً.
الشرق الذي صدّر إلى الغرب معتقداته الإيمانية الرئيسة (اليهودية والمسيحية) واصطدم بالإسلام واكتشف البوذية والهندوسية وغيرها من المعتقدات الكبرى، مرفقة بما وصله من أساطير وملاحم مدهشة وحكايات عجيبة، بدءاً من ملحمة جلجامش، إلى حكايات ألف ليلة وليلة، مروراً بالشاهنامة والمهابهاراتا وكليلة ودمنة وسواها، كان لابد لكلّ ذلك أن يلهب خيال الباحثين عن المعرفة أو المتشوقين للمغامرة أو المتلهفين لرؤية هذه الأمكنة التي سار عليها الرُسل والأنبياء وحدث فيها أول أفعال التدمير الإلهي للبشر( الطوفان – سادوم وعامورة – عاد وثمود) كما هبط عليها أول جدّ للإنسان بعد طرده من الجنة وارتكبت أولى  الجرائم في الأرض.
لكن ما يؤخذ على أولئك القادمين، أنهم لم يأتوا فرادى وحسب، بل جماعات ترافقت مع مجيء الجيوش بأساطيلها ومدافعها لتحتل الشرق بعد أن تحللت إمبراطورياتنا وأصبحت سهلة السقوط بأيديهم، كما تحللت إمبراطوريتهم من قبل وسقطت بأيدينا.
يومها لم يندفع علماؤنا في قلب الغرب الذي لم يكن فيه ما يغري بذلك كما هو الحال عندنا، لذا اقتصر وجود معظم علمائنا على الممالك الإسلامية في الأندلس أو الولايات العثمانية في بعض أقطار شرق أوروبا.
جاء المستشرقون كلّ إلى ما يسعى إليه، فبحثوا ونقّبوا، وخرج كلّ بما وجد أو رأى، لكنهم بخلاصة جهودهم كشفوا عن حضارة هائلة الجمال مدفونة بين الأتربة والرمال منذ قرون طويلة، من دون أن يفكر أحد من خلفائنا أو علمائنا بالكشف عن تلك الكنوز التي لم نكن نعرف بوجودها أصلاً، بل إن بعضها كان وبالاً على المؤسسات الدينية في الشرق كما في الغرب، بعد أن تبيّن أن ما جاءت به الأديان الثلاثة، كان متداولاً بين الشعوب منذ آلاف السنين.
وهكذا عرفت البشرية معنى وأصّلاً في بلدان الشرق، تدين له الحضارة عبر سيرورتها وتطورها التاريخيين، واظهروا إن في هذه المنطقة التي تسمى الشرق، سكنت أقوام كانت متفوقة في الكثير من أوجه الحضارة   .
لاشك أن لكلّ من هؤلاء المكتشفين ميوله وأهواءه، إن كان في مجال بحثه العلمي أو معتقداته الدينية أو فكره الفلسفي، وبالتالي فلا غرابة أنهم كتبوا بأشكال مختلفة تماماً كما فعل علماؤنا وفقهاؤنا حينما فسّروا النصوص القرآنية كلّ على حسب رؤيته واجتهاده، ما خلق تلك المذاهب والطوائف المتصارعة في الدين الواحد.
لكننا لم ننظر إلى الأمر من هذه الناحية، بل ولأننا أمة سكنتها المؤامرة منذ هزائمها المتواصلة أمام نفسها و أمام الآخرين، لذا استحضرت المؤامرة لتقذفها بوجه الغرب باعتبار كلّ ما فعله إنما يتعلق بتلك المفردة.
(الفكر الفلسفي في الغرب – كشف الغطاء عما هو واه في وعيهم الآيديلوجي الرامي إلى عصبية الشعوب الغربية تعصباً لحقائق إيمانها العقائدي بأشياء خيالية وليست واقعية ) د. نديم نجدي – اثر الاستشراق في الفكر العربي – ص34
إذاً فجميع فلاسفة الغرب، ينطلقون من عقد نفسية تجاه جبروت الشرق وعظمته، وبالتالي فكل ما كتبوه هو مجرد هراء لا قيمة علمية أو فكرية له، خاصة وهو يعبّر عن تعصب (الشعوب) الغربية لإيمانها العقائدي بأشياء اختلقها خيالهم كي يشوهوا هذا الشرق العظيم – المقصود بالشرق هنا، هو الإسلام بصورة خاصة – حيث (مازلنا نجد في قعر العقلية السياسية عند الغربيين شيئاً من رواسب الحروب الصليبية الموجودة في لاوعي انقلب بوعيه على تزمتها وتعصبها) المصدر السابق – ص35.
لقد تمكّنا من تشريح جماجم أولئك العلماء والفلاسفة الغربيين، فوجدنا في لاوعيهم كمّاً هائلاً من رواسب الصليبيين انقلب وعياً متزمتاً ومتعصباً، لم يكن هناك جوار وغلمان تعجّ بهم قصور السلاطين ومجالس الأمراء وأغنياء التجار، تلك هي الإساءة البالغة التي وصم بها المستشرقون تاريخنا، وليس في كوننا عقول تسكنها الخرافة وأمة تم اكتشافها وهي في ذروة الإنهيار.
لكن مؤامرة المستشرقين لم تكن مسؤولة عن استباحة المدينة المنورة في يوم الحرّة، ولا قصف مكة بالمنجنيق، كذلك ليست معنية بخليفة سادي لم يكتف بقتل خصمه وقريبه في موقعة كربلاء، بل كان على جنوده أن يحضروا رأس الخصم على رمح كي ينالوا الجائزة، كما لم يصلب أحد الصحابة الثائرين على أبواب الكعبة تشفياً وانتقاماً، ولم يمتلئ كل تاريخنا بأبشع المجازر وأكثرها هولاً، لولا مؤامرات الغرب، الذين لم يكن لهم حضور يذكر في عصورنا سالفة الذكر.
انطلاقاً من المسلّمة المؤامراتية، انهمك الكثير من كتّابنا ومفكرينا وفلاسفتنا المحدثين، في الردّ على مؤامرات المستشرقين وكلّ من تلبس باستخدام شيء من قول قابل للخطأ والصواب، لذا جرد بعضهم قلمه للعنة كاتبة خليجية (1) طالبت بإعادة العمل بنظام الجواري لتحدّ من غلواء الرجل في التهتك والفساد.
يمتلئ تاريخنا وموروثنا المقدس بحديث الجواري، فجدتنا هاجر هي جارية، و إسماعيل ابنها تحدرنا من صلبه، وبعض أهمّ خلفائنا هم من أبناء الجواري – المأمون ومستنصريته وبيت حكمته، والمعتصم وصرخة وامعتصماه التي مازلنا نفخر بها – وغيرهما مما لا يتسعه المجال.
إن ظاهرة الجواري مشرّعة في نصوصنا المقدسة (وما ملكت أيمانكم) كما شغلت فصولاً كاملة على امتداد حقب طويلة من تاريخنا حينما كنّا (أسياد العالم) حتى ليمكن القول: إن الكثير من تاريخنا صنع في مخادع الجواري والكثير كُتب من شرفاتهن، لكنه ظلّ يفترسنا في كلّ حين، نذهب إلى الانتحار ونقتل عشرات الأبرياء من أجل فتوى قالها التاريخ، ثم ننتظر دخول جنة وعُدنا بها بإسم التاريخ، أما غدنا، فسيكون أفضل إذا عدنا للماضي وتقيدنا بما قاله السلف الصالح، كلّ منابرنا تستشهد بالماضي، وكلّ حياتنا: حاضرها ماض ومستقبلها كذلك، فلماذا ننتقي منه أشياء ونعيب أخرى في الوقت عينه، ثم نستبدل هذه بتلك حسب أهوائنا ؟.
ماذا يفعل رجل كثرت أمواله وقلّت أشغاله؟
(الجنس والقنيص) تلك هي الهوايات المفضلة كما قيل عن أمير خليجي في ردّه على سؤال مذيعة غربية، ومعظم الرجال في الخليج – خصوصاً – يبطرون لكثرة المال وقلّة العمل حيث مقابل كلّ خليجي، هناك ثلاثة أو أربعة عمال أجانب في خدمته، وهم في الواقع من شيّد مدن الخليج وجعلها على هذه الشاكلة.
ألم تتناقل الصحف خبر ذلك الأمير الذي خسر ملايين الدولارات على طاولة (الروليت) ثم خرج وهو يوزع الإكراميات على العاملين؟ وتاجر السلاح السعودي الذي تزوج راقصة تعرّ لأسابيع قليلة ثم دفع لها تعويضا خيالياً؟ وذلك الذي أهدى سائقه البريطاني سيارته (الروز رايس) لأنه أحسن خدمته بجلب الحسناوات (الجواري)؟
تلك بعض أمثلة معلنة ناهيك بالمستتر منها، و في وقت يحرّم على المرأة الخليجية الخروج بغير حراسة أو قيادة سيارة أو حتى تعليم طفل عمره ست سنوات خوف الاختلاط – كما حدث في السعودية – يتمتع الرجل بكامل حريته في أن يفعل ما يشاء وفي الوقت الذي يشاء.
حياة (الجواري) في مجتمعاتنا لم تنقطع يوما – وإن اتخذت أشكالاً أخرى- فمادام الزواج لا يشترط سوى عرض وقبول، وقد يحدد زمنه مسبقاً كما في المتعة، أو الكتمان في العرفي، أو مجرد (الونسة) في المسيار، إذاً فهل من مؤامرة فيما طالبت به أحداهن ذات مرّة (1) في طرح ينضح بالمرارة والسخرية؟ على الأقل كي تنصف بنات جنسها من ذوات اللحم السائب من العاملات الأجنبيات في الخليج – وغيره – اللواتي يتعرضن للانتهاك، من دون أن يجرؤن على المطالبة بحقوقهن حيث لا قانون يحميهن ولا شرعة تنصفهن.
كانت الجارية – على ذمّة تاريخنا – تتمتع باعتدال القدّ وملاحة الوجه وحسن الأدب وعذوبة الحديث، على علم وفير وإجادة الموسيقى والغناء والشعر حفظاً ونظماً وإلقاءً، ما جعلهن يتغلبن على فطاحل الرجال في تلك الأزمنة وينجبن العظماء من القادة والأنبياء – كما أسلفنا – فمن نصدّق؟حاضرنا الزائف؟ أم تاريخنا المزيف؟
إذا استعدنا بعض عقولنا، فسنكتشف أن هناك مقولتان صاغها الطغاة وروّجها وعّاظهم، فتلقفناها من بعدهم طائعين: حكاية المؤامرة – ومقولة السيادة الوطنية، فالأولى وضعها الطغاة من أجل أن يستمروا بالحصول على طاعتنا وحقّ استعبادنا، لتصبح المطالبة بالحرية ضرباً من الكفر يستوجب الموت – وهو ما يمارسه الطغاة اليوم، كما مارسوه بالأمس – أما السيادة، فهي المقولة التي يختفي وراءها هؤلاء من أجل أن يفتكوا بنا ما أن تتحرك لنا نأمة، فلا يرتفع صوت بالإدانة للحكّام ولا إشارة بالتعاطف معنا، رغم أنهم يعطون لأنفسهم كامل الحقّ في نسج المؤامرات والتفريط بالسيادة .
تلك حقائق تبزّ النظر في وضوحها، لكن المؤامرة هي (السيدة) على عقولنا والمتحكّمة فينا، تكبر كلّ يوم وتتضخم مفاعيلها فتكتسح في طريقها أية محاولة لأدراك الحقيقة.
أما الفكر ومتطلباته وما يستلزمه من جهد ويستخلصه من نتائج، فليته كان (جارية) في بلاط عقولنا، إذ لحظي بالاحترام والتقدير، كما حظيت الجواري في قصور الخلفاء- على ذمّة تاريخنا واسع الذّمة -.
(1) سلوى المطيري – صحيفة (السياسة)  الكويتية- السبت 4-6-2011