23 ديسمبر، 2024 9:11 ص

المأزق الدموي والوجه الخفي لحضارتنا

المأزق الدموي والوجه الخفي لحضارتنا

عوامل عدة تشترك في تغييب ما جرى على أرض الرافدين, عن مشهد البحث والاستقصاء، يتعلق الأول منها بموضوعية النقل التي تغاضى عنها المؤرخيون, الذين أنيطت بهم مهمة التأسيس, لمنهجية علمية تعتمدها المؤسسات التعليمية، فيما يتعلق الآخر بالروح الاتكالية التي اعتاد البعض بسببها, على تلقي ما يطرح دون بحث في حيثيات الشيء وأخذه اخذ المسلمات.
على الرغم من الزخم الحضاري المتوارث على أرض العراق, والذي يتطلب تصورا شاملا عن الجهود والامكانات التي ساهمت به, إلا أنه شهد احداثا غاية في الخطورة والدموية, لدرجة اصبح فيها نادرا ذكر العراق بمعزل عن ظاهرة العنف الدموي, التي اصبحت صنوا لا يمكن التعامل معه, بمعزل عن قصة حضارة هذا البلد.
الحديث عن العراق والتطرق لحالة العنف والقسوة في تاريخه لا تشكل منقصة, فما عاد الأمر مخجل بل يراه البعض سببا للمباهاة وعاملا من عوامل القوة، والخوض في هذا الشأن لا يقتصر على عوام الناس فقط, بل إن فضاعة المأزق الذي يسير عليه هذا البلد منذ القدم, لم تترك أثرها السلبي في قناعات النخب السياسية والثقافية, فلا نجد إلتفاته موضوعية لحجم الخسارات المادية والبشرية, وهذا ناشيء للمعايشة القهرية شبه الدائمة, لمنهج العنف منذ بدايات التأريخ ولهذا اليوم.
غزارة الدماء التي أريقت على أرض العراق لا نظير لها في أي بلد اخر, وهو ما ولد انطباعا في خواطر العراقيين حول حقيقة التصاق المشاهد الدموية بحياتهم, لذا نجد ان الفرد العراقي اعتاد التفاعل مع واقعية البلد المبحر نحو المواجهات الدموية, طالما كان للمنعطفات الخطرة أثرها في مسيرة هذا البلد, فأصبح تصور السلام الإجتماعي والواقع السياسي المتصالح مع نفسه, واستشعار حالة الوئام والمحبة, هي خزعبلات يتخيلها الفرد في أحلام اليقظة.
هذا الحال لا يعد مفخرة حين يتطرق المرء عن مظاهر العنف والدماء في بلده, كونها توحي للقاريء بأن الغاية من هذا الجهد هي الإساءة لماضيه وحضارته, فرغم عدم التطرق للانتصارات الحضارية التي شهدها_بقدر ما هي سعي صادق لتشخيص الدوافع الغريبة التي تشكل بروز مختلف أنماط العنف والتطرف, والمبالغة في القسوة والتفنن في أساليب فرض الموت منذ اقدم العصور.
ما يميز الكاتب الموضوعي عن غيره هو تحري الصدق, في نقل الأشياء وعدم إيهام الأجيال بوردية العصور الماضية, فمثلما تحسب لشعب الرافدين اسهاماته الخالدة في نشوء الحضارة, فإن جانبا آخرا شهد اشكاليات معقدة رافقت صنع تلك الحضارة تمثلت في مشاهد العنف التي وصفت في ماسبق.
وعليه فإن التغني والانشغال بالموروث الحضاري التأريخي والمدني, الذي احتضنته أرض العراق منذ الآف السنين يعد تعديا على كرامة الإنسان, الذي سحق ويسحق في الوقت الحاضر تحت وطأة نفس المنهج وذات السلوك, حيث تصادر الحريات وتنهب الأموال وتزهق الأرواح.. فما عاد العراقي مهتما بقليل ولا كثير للصروح الأثرية, رغم ضخامتها ولا لكثرة المنحوتات ولا للشواخص القابعة في قلب الصحراء, طالما هو نفسه اصبح ضحية للعنف والهمجية والاذى النفسي.. بل تعدى الامر ليصل الى مرحلة التشويه الفكري, تحت تهديد الرعب على طول الوقت.
ربما يواجه ما سبق بإعتراض من قبل البعض, كونها كتبت في عهد يمارس فيه الفرد العراقي حريته بأبهى صورها, بعد خلاصه من كابوس البعث الذي حكم البلاد بالحديد والنار, والذي يعد إمتدادا تاريخيا لعهود القهر والتسلط والاكراه, والذي على ما يبدو أنه قد ورث مختلف أساليب العنجهية التي يعتقد أنها قد تديم له البقاء في حكم البلاد, بل زاد على بعضها وحرص على تطبيقها حرفيا للدرجة التي يشعر بها اسلافه بالخجل من إخفاقهم في ممارسة اقسى انواع التنكيل التي مارسها حفيدهم, الذي اتخذ الحفرة ملجأ, بعد ان ضاقت به السبل وهذا هو ديدن الطواغيت على مر الزمان, إذ إن اللحظات الاخيرة كفيلة ببيان حقيقتهم وزيف دعواهمظو وتقمصهم لصفة الشجاعة التي ما عرفوها يوما في حياتهم.
للإجابة على هذا الإعتراض لابد من القول بشعار السلطات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية ولحد الآن, بعدم فصل حاضر العراق وما أنجز فيه عن ماضيه وحضارته المشرقه فما المانع تحري الجانب المظلم وربطه بماضيه طالما لا مانع من ذلك في الجوانب المشرقة؟ إضافة لذلك ان أهمية هذا الموضوع تتطلب, بذل الجهود العلمية والأبحاث المعمقة والمستفيضة لمعرفة الحقائق العلمية وما يتعلق بها تاريخيا من خلفيات, لوضعها على طاولة التحليل الجريء والواضح والصريح, شريطة ان يكون البناء الإيجابي هو الهدف من تلك الجهود, وليس جلد الذات والانتقاص, وصولا للنتائج العلمية الواقعية لوضع الحلول ومعالجة العلل الاجتماعية, وتأثيرها في البعد السياسي والاقتصادي, عسى ان تكون تلك الجهود سببا لخلاص اهل العراق, من دوامة المأزق الدموي المستمر منذ الآف السنين.