في مرحلة التحوّلات التاريخية الكبرى الجارية اليوم في البلاد العربية، المتتابعة بسيروراتٍ مختلفة، وباحتمالات وصيرورات متنوّعة، وإن كانت لا تزال في مراحل انتقالية تفاعلية، ولم تستقر على نتائج بعد، فإنها تتطلب دوراً مركزياً للمثقفين العرب.
إن غياب المثقفين العرب عن المشهد الحالي الذي يقوم فيه الكيان الصهيوني بارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في عدوانه على قطاع غزة، يعيد من جديد إثارة السؤال المتعلّق بأدوار المثقفين العرب في تاريخهم الراهن، في مجتمعات تتغيّر، ومخاطر مصيرية تتطلب مواقف واضحة، ومجابهة العدوان والقهر، والتصادم مع أنظمة الاستبداد، وقيادة نضال الجماهير لتحقيق أهدافها بالحرية، والعدالة، والكرامة، والمواطنة، والديمقراطية. وكذلك الوقوف إلى جانب الكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لتمكينه من انتزاع حريته وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
منذ القدم كان المثقف صوت المجتمع الصادق وضميره اليقظ، والكثيرون منهم سددوا أثماناً فادحة لمواقفهم بدءاً من سقراط الذي أعدم بسبب أفكاره، عبوراً بقتل الشاعر الشهير الضرير “بشار بن برد العقيلي” ببيتين من الشعر، وفي التاريخ الإسلامي شهدنا ابن الهيثم، وابن رشد، والكندي، وابن سينا، والفارابي، وابن حيان. وعربياً عبد الرحمن الكواكبي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، عبد الوهاب المسيري، عبد الله العروي، محمد أركون، جورج طرابيشي، وسواهم المئات من المثقفين عبر العصور بسبب انشغالهم في قضايا واقعهم.
مثلما أسهم المثقفون التنويريون الغربيون في نهضة أوروبا، وكما فعل روّاد عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر فيما أُطلق عليه حركة التنوير العربية، أو اليقظة العربية، لما تم فيها من مقاربات التجديد الديني، وإنقاذ كبير للهوية العربية، بعد أن كادت أن تتأثر بكل ما حل عليها من ثقافات خارجية. فإن الراهن العربي البائس بكافة أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، يفرض تحديات جسيمة، وأسئلة مركبة كبيرة ومعقدة، تتطلب مقاربات وإجابات علمية من عقول متخصصة ومتسلحة بالمعرفة والوعي والبحث العلمي، وهذا دور ومهمة المفكرين والمثقفين العرب الأصليين. ومن أبرز القضايا الكبرى التي تتطلب انخراط المثقفين العرب حالياً التحرك لمواجهة العدوان الإسرائيليّ الوحشي على قطاع غزّة، والذي اتخذ شكل الإبادة الجماعية بكل أشكالها.
صورة المثقف العربي
منذ أواسط القرن العشرين، المرحلة التي شهدت استقلال الدول العربية تم تحديد صورة المثقف العربي الذي رسمت ملامحه الأحداث والأفكار التحررية المناهضة للاستعمار التي كانت سائدة في تلك الفترة. حيث استلهم المثقف العربي مكانته من تجارب المثقف الغربي النقدي وما أفرزته هذه التجربة من معارف نقدية وافكار وعلوم تنتصر للإنسان في مواجهة السلطة القمعية. حيث قام المثقف العربي بتقليد ما قام به المثقف الغربي من مواجهة العسف وتقييد الحريات التي ما رسها الاستعمار بأنماط متعددة في طول البلاد العربية وعرضها. فتبلورت صورة المثقف العربي في خضم القضايا العربية الكبرى، بدءً من معركة التحرر من الاستعمار الغربي، مروراً بمعركة تحرير فلسطين، إلى مناهضة الامبريالية وبناء الأوطان. ثم انخرط هذا المثقف بمهام تشكيل الهوية والسيادة والوحدة الوطنية، ومهام الحريات العامة، فكان المثقف الملتزم والعضوي والثوري والمناضل هي تسميات عكست الطابع الثقافي لتلك الحقبة الزمنية.
نجد أن المثقف تحول حينها إلى حالة رمزية واكبت جميع الأحداث التي ألمت بمنطقتنا. في عهد الثورة الجزائرية ساهم المثقفين العرب في تحويل المزاج العام للشارع العربي إلى حالة مناهضة للاستعمار الفرنسي والوجه القبيح للغرب. في فترة الثورة الفلسطينية احتل المثقف العربي مكانته الريادية في العداء للصهيونية وابنتها إسرائيل. وفي المرحلة الناصرية أيضاً كان للمثقف العربي مساهمته في جعل هوى الشارع العربي قومياً وحدوياً مؤمناً بمستقبله.
إن المثقف العربي الذي آمن بثورات التحرر العربية، وانخرط بحماس في القضية الفلسطينية، وارتفع صوته لنصرة القومية العربية، وسحرته الثورات الاشتراكية، وحلم بالمدينة الأفلاطونية، وجد نفسه خارج الأطر التي شكلت صورته عبر سبعين عاماً، حيث انهارت الأيديولوجيات الكبيرة من الماركسية التي أبهرت المثقفين العرب وسواهم، إلى القومية التي التف حولها كل من آمن بفكرة الصحوة العربية ومناهضة الاستعمار، فانتهت إلى عصبية فكرية عنصرية الميول. عبوراً للناصرية التي أفسدتها النزعات العسكرية، وتراجع الانشغال بالقضية المركزية للعرب -فلسطين- إلى أدنى مستوياته.
المثقف كما عهدناه
المثقف العربي كما نعهده أصبح شيئاً من الماضي، تخطته الأحداث والتحولات التي تجري -وماتزال- في المنطقة العربية، خاصة خلال العقود الأخيرة. فقد انكفأ المثقفون اليساريون العرب عقب انهيار الاتحاد السوفيتي واعتبروا أن الأفكار التي تدعو إلى البناء كفراً بعد “البروسترويكا”. والمثقفون القوميون تمادوا في التطرف والعنصرية كلما تكشف أن نموذج الدولة القومية لا يخرج منه إلا التغول في القمع والاستبداد. أما نظرائهم المثقفون الإسلاميون فتبين أنهم عاجزون مثل الآخرين، وغير قادرين على تقديم نموذج أفضل، فكانت الطامة الكبرى أن تحول جزء منهم إلى حالة عدمية تكفيرية بذرائع متخيلة.
إن الأزمات العربية المتعددة والمتتالية أحدثت إرباكاً شديداً في إيقاع المثقف العربي، بصورة تشتت مكوناته وأدخلته في تجاذبات فكرية وأحداثاً لم يكن متهيئا لمقارباتها. وبدلاً من التوقف عن التقديس التراثي للالتفات عما هو حاضراً ومؤثراً، تجد العديد من المثقفين يحاولون إعادة إحياء العظام وهي رميم. أما المثقفين الحداثيين فقد اتبعوا منهاج النقل والاتباع لا الخلق والإبداع، فوقعوا في فخ التبعية للمذاهب الفكرية المتنوعة. هذا يفسر في مقاربته جزء من أسباب غياب الدراسات الفكرية والعلمية، والخطط الاستراتيجية الجيوسياسية في معظم الواقع العربي، والتي تقوم على مبادئ محلية تراعي في تشكلها الظروف والمكونات الوطنية.
بعد أن تقوضت الفكرة الاشتراكية بنموذجها السوفييتي، واضطربت الديمقراطية الغربية، وأخفق أتباع التيارات الليبرالية والقومية والدينية، وفشل اليمين واليسار والوسط جميعاً في إحداث أي اختراق بجدار الواقع العربي البغيض. أين سيقف المثقف العربي وما ذا سيفعل؟ وماهي خططه لمواجهة كل هذا التطرف والتشدد والعنصرية والطائفية المذهبية، والانقسامات العرقية التي ظهرت جلية صريحة واضحة في عموم المنطقة؟ وكيف سينهي حروب الإبادة، ويوقف ثقافة الاجتثاث والاستئصال؟
ماذا ظل للمثقف العربي المسكين في مرحلة الانهيارات المتتالية التي مسحت ملامحه، وتعيد الآن رسها من جديد، في ظل صعود الدولة الأمنية التي لا تقيم اعتباراً لكافة قيم الحريات العامة وسلطة القانون التي ينتمي لها المثقف. ماذا ظل من صورة المثقف العربي بعد التطورات المرعبة التي تتوالى في أماكن متعددة من الوطن العربي، والتي أحدثت تغيراً جذرياً على كل ما نعرفه، وكل ما هو مألوف لدينا في المشرق والمغرب.
كثيرة هي الأسئلة التي تتواتر من رحم الواقع العربي المتخم بالأزمات، ظلت دون إجابات واضحة. ومع بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، تحولت إلى أسئلة مصيرية وجودية، تعبر عن حالة الانسداد والاستعصاء الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ وجدت معظم الشعوب العربية نفسها في حالة من التيه تعاني من ضنك الحياة ومن غياب الرعاية الصحية، وانخفاض معدلات التنمية، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة، في حكم أنظمة استبدادية في معظمها تعتمد سياسة تكميم الأفواه. هنا أصبحت الأسئلة كبيرة عجز معها المثقفين العرب بصورتهم النمطية عن القيام بأية مقاربات موضوعية. وهذا يعود بظني إلى سببين، أولهما أن الاحداث التي وقعت في عدد ليس قليل من الدول العربية قد أسقطت الفكرة المألوفة عن المثقف العربي ودوره في الوعي الجمعي للشعوب، والثاني أن عدداً من المثقفين العرب قد وضعوا أنفسهم في مواجهة شعوب كانوا ذات يوم يتشدقون بالدفاع عنها وعن مصالحها وحقوقها، في حين جاء الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات هذه الشعوب ضد الاستبداد العربي، اختار بعض المثقفين أن يقف إلى جانب الطغاة العرب، فيما انحاز بعضهم للفكر العدمي التكفيري.
هذا الانقلاب من بعض المثقفين مرتبط بما هو شائع وتقليدي عن مفهوم المثقف، هذا المفهوم الذي يغيب عنه أن هناك إلى جانب المثقف العضوي والنقدي والتنويري، هناك مثقف متواطئ مع الأنظمة السياسية القائمة لأسباب متعددة، منها تحقيق المآرب الخاصة، أو خشية بعض المثقفين من صحوة الإسلام السياسي في المنطقة جعلهم يرتدون إلى حضن الأنظمة.
لغز المثقف العربي
أظهرت الثلاثة عقود الأخيرة أن معظم المثقفين المناضلين العرب الذين غصت بهم شوارع المدن العربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وهم يهتفون بشعارات العدل والحرية والمساواة، وضد الرجعيات والديكتاتوريات العربية، ليسوا أفضل حالاً من أولئك الذين يمتهنون الأديان ويتاجرون بعذابات الناس، فالثقافة عند بعض اليساريين والقوميين والليبراليين مهنة للترزق وكسب العيش، فهم لا يتورعون عن عرض مواقفهم وأفكارهم سلعاً في الأسواق الإعلامية، ولا يترددون في انخراطهم بالتجاذبات السياسية والطائفية والمذهبية والإقليمية، لمصلحة من يملأ جيوبهم بالمال ويضاعف رصيدهم في البنوك، وهم يعلمون علم اليقين أنهم بفعلهم هذا يساندون القوى التي خرجت من التاريخ، ويقفون في وجه المظلوم والمعتدى عليه والمقهور، إلى جانب الأنظمة الفاسدة والمستبدة.
أثبتت المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية المتسارعة، أن غالبية المثقفين العرب لا يمتلكون وعياً تاريخياً، يمكنهم من قراءة الراهن العربي، وإجراء مقاربات علمية تحليلية تستنهض المقدرات الكامنة التي من شأنها أن تكون مبشرة، في حال توظيفها لترميم الخراب وإعادة الانخراط بالإصلاح البنيوي العربي.
في هذا الشقاء انقسم المثقفين بين من انتقل من جادة اليسار الثوري إلى اليمين الرجعي، فهو الانتهازي الوصولي الذي وضع مصالحه الذاتية فوق مصالح الجماهير. ومن آثر الصمت والانكفاء نتيجة الشعور بالعجز والاغتراب، وهو فعل مدان في التحولات الكبرى وجريرة لن يغفرها التاريخ. والقلة اليسيرة من المثقفين اختارت مقاومة الشقاء والتخلف، ومواجهة بعض الأنظمة التي تسببت بفعل سياساتها، في كل هذه الانهيارات التي يلاحظها المراقب في كل مفصل من جسد العالم العربي.
لم يعد من مهام المثقفين العرب خض جذع المجتمعات، وتحريك المفاصل المتكلسة، عبر أفكارهم التنويرية، ولا من مهامهم الآن الالتحام مع القضايا المطلبية للفقراء، والأهداف المصيرية للناس، ولا الدفاع عن المضطهدين والمظلومين، عبر إعلان المواقف والنضال لتحقيقها، ولم تعد تعني كثيراً المثقفين اليساريين قضية مواجهة الرجعيات والديكتاتوريات في العالم العربي، ولا التصدي للاستبداد الذي تتخذه معظم الأنظمة العربية سياسية معتمدة في علاقتها مع المواطنين.
لقد ولّى الزمن الذي كان فيه المثقفين المناضلين العرب يشكلون الضمير الحي اليقظ، الذي يعكس واقع وهوية المجتمعات، حين لم يكن المثقفين فيه يخشون من الاصطدام بالسلطتين السياسية والدينية، وبكل من يكرس ثقافة التجهيل. عصر مضى كان فيه المثقفين ينحتون الحجر بهدف تطوير المجتمعات العربية وترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله، والقضاء على النظام الأبوي ومجتمع القبيلة والطائفة، وترسيخ قيم ومفاهيم الحداثة، وبناء دولة المؤسسات والمواطنة.
أضحى الكثير من المثقفين العرب اليساريين شركاء لبعض الأنظمة العربية في محاربة الأفكار التنويرية الليبرالية، وشركاء في فرض سيطرة السلطات السياسية على الناس، وشركاء في تطويع وتليين الأفراد وقيادتهم وتوجيههم مثل القطعان الأنيسة، وهو ما يعزز الاستبداد الذي تشهره تلك الأنظمة، مما يطيل عمرها وعمره.
في اشتباك المثقف
المثقف الحقيقي ليس هو الخطيب البارع، ولا المنظّر السياسي والفكري. إنما هو من يمثل الشرائح الشعبية والفئات الصامتة في المجتمع، لمقاومة قهر السلطة السياسية وتعسفها، هو صوت الناس في دفاعهم عن حقهم في الحياة والتعليم والعمل والرعاية الصحية، هو الإنسان الذي ينتصر للمثل الإنسانية، ولقيم العدالة والحرية والمساواة الاجتماعية، هو من يسعى لتحرير الإنسان من كافة أنواع القيود والوصاية التي تفرضها عليه السلطة. المثقف هو ذاك الذي يكون ملتزماً ومشتبكاً مع واقعه ويمتلك المقدرة على رؤية وتحليل الإشكاليات المجتمعية، وتحديد خصائص وملامح هذا الواقع، والسعي مع الشرائح المتضررة لتغييره.
المثقف الملتحم مع قضايا أمته، المنخرط في الاشتباك بمواجهة القوى التي تستهدف ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية، وتهدد هوية وفكر الإنسان العربي. نحتاج ذاك المثقف والكاتب والمفكر والفنان للتصدي لمخاطر هذه المرحلة التي يتم فيها تدمير أوطاننا، ويتعرض المواطن للقهر والتجهيل، وتفتك بنا الصراعات الطائفية والمذهبية، وتتضخم الأنا القطرية وينحسر الوعي الجمعي. أين هو المثقف الذي يعود ويلهب حماس الشعوب ويوقظ روحها من سبات الكبت والقمع؟ نحن في مرحلة سقطت فيها كافة الأسماء والألقاب، ولم تعد تعني شيئاً ذا قيمة ومعنى حقيقياً في عصر الأسئلة الكبرى، والمواجهات الكبرى، والاختيارات الكبرى. إما أن يكون المثقف حقيقياً ملتصق ثقافياً وفكرياً واجتماعياً التصاقاً فعلياً، أو يكون اسماً ولقباً أجوفاً وشيئاً براقاً يلمع دون قيمة تذكر.
المثقف العضوي هو من تُمتحن أفكاره ليس فقط في جدلية الوعي، إنما في اضطرابات الحياة الواقعية، في معارك الوجود، في المشاركة جنباً إلى جنب مع حراك الناس العاديين في الشارع، وليس الكتابة عنهم في غرف مكيفة. الثقافة والعمل، الوعي والحركة، متلازمات لا انفصام بينهما ولا تضاد.
معظم المثقفين العرب يعانون من متلازمة الوعظ والسلوك الانتقائي، ويعتمدون منهاج توبيخ الذات وتقريع الواقع، دون أية ممارسة ثقافية فكرية اشتباكية اعتراكية لمجابهة هذا الكم غير المسبوق من المخاطر السياسية والاقتصادية والأمنية، والأهوال الثقافية والاجتماعية التي تتوعد وجودنا.
مهما كان نوع المثقف وإلى أية مذهب فلسفي ينتمي، وبغض النظر عن تصنيفه الطبقي، إن كان مثقفاً غرامشياً قادماً من رحم الشريحة الاجتماعية التي ينتمي لها ويسعى لأجل تطوير وعيها الاجتماعي وهيمنتها السياسية، أو كان مثقفاً إدواردياً كونياً لا منتمياً يمارس النقد والتنوير، فإن مسؤوليته الفكرية والأخلاقية هي الالتحام مع القضايا الوضعية والمطالب الشعبية، والانخراط بالإصلاح الاجتماعي، ونقد البنى الهشّة، وامتلاكه رؤية للتغيير.
سقوط المثقف
إن هذا النكوص لبعض المثقفين العرب يظهر عجزهم وفشلهم في دورهم المجتمعي
ويبين قدراً كبيراً من الأنانية والانتهازية السياسية لديهم. إنه سقوط المثقف العربي في قعر السلطة التي تحدد له هامشاً لا يمكنه تجاوزه، وأصبح واحداً من الأدوات الخطيرة التي توظفها السلطة السياسية لتبرير استبداها وقمع شعوبها، وإلا كيف نفسر هذا الانحياز من قبل المثقف إلى سياسة الموت والقتل والحروب وإشاعة التفرقة والكراهية، عوضاً عن وقوفه إلى جانب النهضة والإصلاح والتحديث، ويساند الحياة، والسلام، ونشر المحبة، والتسامح.
وسقط المثقف العربي في شرك هويته -غير المتبلورة أصلاً- بمواجهة الآخر، وكأن الثقافة الغربية كلها شر مستطير، فنرى بعض المثقفين العربي يتبنون نظرية المؤامرة على الأمة لتبرير دفاعهم عن الأنظمة التي تقهر شعوبها، وهنا أنا لا أنفي بالمطلق وجود مؤامرات غربية هدفها السيطرة وتمزيق وحدة شعوب المنطقة، لكنني أعترض على توظيف هذه الفكرة لتثبيت دعائم الأنظمة، ووضع الشعوب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تقبلوا بهذه النظم العربية المستبدة، أو أن تكونوا عبيداً للغرب.
إنه سقوط للمثقف العربي في أحد جوانبه بمفارقات مرعبة، إنه جاهز دوماً لتوجيه رماح النقد لأي آخر لا يشاركه مفاهيمه، بينما لا يملك الشجاعة على النظر إلى فكره وسلوكه في أية مرآة. يستفيض بالحديث عن الديمقراطية أياماً دون انقطاع، ويدعم حججه بآلاف الأمثلة والتجارب التاريخية لشعوب متعددة، لكنه لا يجرؤ على إجراء اية مقاربة للاستبداد والقهر الذي يعيش فيه ويعاني من بؤسه يومياً. يحدثك عن الفقر والجوع ونسب البطالة في كل العالم، وهو لا يجد لقمة العيش في وطنه ويشقى للحصول عليها. يطالب بالحريات العامة ويمارس العنف والاستبداد. يؤمن بالحوار نظرياً، ويضيق صدره بالمخالفين. يريد من الآخرين أن يضحوا ويموتوا في سبيل الفكرة أو الزعيم أو الوطن ليصبحوا أبطالاً، فيما هو يتلذذ بالرفاهية. يثقل رأسك بالحديث عن الوطنية والانتماء والصناعة الوطنية، وكل ما يرتديه هو ويأكله صناعة غربية. يخطب لساعات ضد الاستعمار الغربي وأطماعه وثقافته، ولا يثق إلا بالدواء الغربي.
سقط المثقف العربي -ليس الجميع- في هاوية الواقع الذي أنكره، سقط في قاع جموده العقائدي ودوغمائيته الضريرة، سقط في فخ اغترابه عن محيطه، مما أنتج إشكالية أخلاقية ترتبط بدوره ومهامه وموقعه.
إن من أبرز مظاهر سقوط العديد من المثقفين العرب هو تلك السلبية الشنيعة التي أبدوها تجاه قضايا الشعوب، حيث سقطوا في فخ التكيّف مع محيطهم، مثل نبتة صحراوية تتكيف مع ظروف المناخ القاسية، هي لا تقاوم الجفاف ولا يمكنها تغيير واقعها، هي فقط تتكيّف معه. هذا حال بعض المثقفين الذين يتلونون فيرمون ثوباً ليرتدوا ثوباً آخر، كلما تغيرت الظروف والبيئة المحيطة، بسبب عجزهم وإخفاقهم. هذا الوضع يجعل المثقف في حالة من الغيبوبة والموت السريري.
المثقف الجوكر
ظل بعض المثقفين العرب ردحاً من الوقت يكابدون مقاربة الكثير من القضايا بمفاهيم أيديولوجية عمدت إلى بتر أطراف الواقع العربي كي تلائم مقاس سرير الأفكار الأيديولوجية التي آمن بها المثقفين، وغاب عنهم أن واقع المجتمعات تتداخل فيه الكثير من العناصر والعوامل الشائكة المتعددة المتداخلة، ولا يمكن بحال أن يتم تحديده بالأيديولوجيا.
إن مواقف معظم المثقفين العرب صعدت وهبطت وتبدلت يميناً ويساراً عبر العقود الماضية، فنجد بعض المثقفين من دعموا هذا الزعيم أو ذاك وساندوه ومدحوه، ثم قاموا بالهجوم عليه في فترة مختلفة، ومنهم من تبنى الأيديولوجية الدينية أو اليسارية ثم انقلب عليها، وآخرون كانوا من أشد دعاة التنوير والديمقراطية والدفاع عن حقوق البشر، فأصبحوا يدافعون عن الديكتاتوريات العربية ويبررون استبدادها.
إنهم المثقفون الذين يؤدون دور “الجوكر” المشهور في لعبة الورق، فهو يصلح لكل الأوضاع ويتكيف مع الظروف، وهذا حال بعض المثقفين العرب الزئبقيين الحربائيين، الذين يمتلكون المقدرة على لعب دور الجوكر في الحياة السياسية والثقافية
معلقون في الفراغ
لقد شهدت تسعينيات القرن العشرين مراجعات فكرية هامة لعدد من المفكرين العرب، الذين أجروا مقاربات ومراجعات تناولت مفهوم المثقف ونقده وأصالة دوره، وأهم هؤلاء المفكرين “إدوارد سعيد، عبد الرحمن منيف، محمد عابد الجابري، عبد الإله بلقزيز، علي أومليل”. وبالرغم من إيماني بأن عصر المثقف الأسطورة، المثقف الخارق القائد قد ولى بغير عودة، إلا أن الموضوعية في مقاربة الانتهازية الثقافية والأمانة المهنية، تفرض الذكر أن هناك القلة القليلة من المثقفين والمفكرين والنقّاد، الصابرين الأوفياء لأنفسهم وأوطانهم، المثقفين الملتصقين بالجماهير والمدافعين عن مصالحهم وحقوقهم، وما زالوا ملتزمين بقضايا الأمة وأهمها القضية الفلسطينية، وهم يستحقون منا كل احترام وتقدير.
ومن أبرز مهام هؤلاء المثقفين الملتزمين التصدي للمثقفين المزيفين، والتنبيه للمخاطر المترتبة عن أفعالهم التي تهدد بتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للأمة العربية. وبظني أن المثقف الحقيقي مطالب بالوضوح والشفافية في أفكاره ومواقفه وانحيازه، ورفض المواقف الملتبسة والتعابير الملتوية.
يقف ما ظل من المثقفين العرب اليوم بلا جدار أيديولوجي، يحصدون فشل المشروع القومي، وتشدد المشروع الإسلامي، وغياب المشروع الإصلاحي التنويري. يقفون دون أي حماية، معلقون في الفراغ، بدون خطاب موضوعي، بدون إطار مجتمعي موضوعي، مذمومون من السلطة السياسية، وهم موضع شك من السلطة الدينية، يشعرون بالاغتراب عن أنفسهم ومحيطهم، حائرون مربكون غير واثقون، يواجهون مجتمعاً مأزوماً مثقلاً بالخيبات، وسلطة منهزمة تسعى إما لتوظيفهم، أو تهميشهم، أو سجنهم، أو تصفيتهم.