18 ديسمبر، 2024 8:14 م

اللي مضيع وطن باع الوطن ولم يخجل

اللي مضيع وطن باع الوطن ولم يخجل

تسجل الذاكرة الوطنية لاغلب العراقيين تفردا متميزا، انهم كانوا من اكثر شعوب الارض تعلقا وارتباطا وجدانيا بالوطن العراقي؛ لذا فهم كانوا الاقل سفرا وترحالا طويلا خارج العراق، وهم الأقل اقامة وتجنسا وتأقلما في الغربة والميل الى تشكيل الجاليات الكبيرة في بلدان الغربة من بين اقرانهم من الشعوب كالعرب والاجانب ممن استوطنوا واقاموا وعاشوا وتأقلموا خارج اوطانهم منذ القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وخلاله.

ويتذكر العراقيون، من هم اكبر من جيلي سنا بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، كانت السفرة البعيدة ،السياحية، للعراقي الميسور، وحتى متوسط الدخل، الى خارج الوطن العراقي في اية سفرة عن بغداد او الموصل والبصرة وغيرها لا تتجاوز بضعة ايام او اسابيع ، وقد تمتد الى شهر يذهبون بها صيفا او شتاء الى بيروت او دمشق أو عمان، والأبعد منها أحيانا الى القاهرة، ليعود بعدها ذلك العراقي باكيا متشوقا الى وطنه، وكم من حالة رأيناه والدموع تملأ عينيه، وهو يكحل عينيه بمرأى بغداد او يعود الى مدينته وقريته وربوع صباه وحتى لحظة مغادرته العراق.

وعندما استطلع العراقيون بلدانا اخرى خارج الوطن العربي فان الذهاب والسفر الى اوربا لأي غرض كان، كالدراسة او التجارة او السياحة او حتى العلاج فان الشجن العراقي يتصاعد في ذروة حميميته المفرطة و يصل الى حالة الاكتئاب بعد بضعة أيام من السفر، نظرا لسمو وشدة الارتباط الوجداني للعراقي بالوطن والحنين الى الاهل والعودة الى المدينة التي عاش فيها وتربى في ربوعها.

وفي سنوات التجاذب السياسي الحادة في الستينيات والسبعينيات، وامتدادا الى الثمانينيات اضطر بعض العراقيين الى المغادرة عن اوطانهم، لاسباب تعددت، وخاصة في سنوات الحرب والحصار، بأمل الغياب القسري المؤقت عن الوطن ، ومنهم من استقروا مؤقتا في بلدان شتى أو أقاموا، لكن هاجسهم الوحيد ظل التفكير بالعودة يوما الى العراق مهما طالت سنوات الغربة.
وهكذا ظل الحنين والتفكير بالعودة أمر قائم لدى الكثيرين؛ بل والغالبية من العراقيين، وبات الغياب والغربة تقض مضاجعهم؛ بل وتؤرقهم، وهم ينتظرون ساعة بعد ساعة، فرصة العودة ثانية الى العراق ، مهما كانت ظروف الاقامة واغراءاتها في دول الغربة والشتات.

وقد وصل الامر بأن قوى سياسية معينة كانت تمنع مناضليها أو اتباعها حتى من الاستماع الى الاذاعة العراقية او التمتع بتسجيلات الاغاني العراقية المسجلة التي تصل اليهم ، ووصل الامر في حالات كنا شهود عليها ان تم منع المراسلة مع الاهل والاصدقاء ، خوفا عليهم من الاصابة بمرض الحنين الى الوطن home sick ولكي لا تضعف مقاومتهم ويعودون فجأة الى العراق ويتركون احزابهم وتنظيماتهم السياسية خارج العراق.

وكان لمجرد انتشار اغنية عراقية شجية جديدة بين اوساط الطلبة والمهاجرين يفسر أحيانا بمؤامرة خطيرة، تسعى بها الحكومة وسفاراتها لاستدراج البعض للعودة الى الوطن.

ومقابل مثل هذا الحال وتقلباته، أتذكر، حينها، وكنا طلابا نرفع باعتزاز شعار وحيد لاتحاداتنا وجمعياتنا الطلابية خارج الوطن هو: ( رفع المستوى العلمي والعودة الى الوطن) ، وكنا ننتظر ونحسب الايام لاكمال دراساتنا والتهيأ للعودة في حالة توفر الظرف السياسي المناسب.

وكثيرا ما كانت تغري البعض منا وعود المكافئات والامتيازات التي تضمنها قانون الكفاءات العراقي، والبعض الاخر ظل ينتظر فرصا أخرى تناسبه حافظا بين دفتي وجدانه حلم العودة والمشاركة في بناء الوطن، بغض النظر عن من كان يحكم العراق، فردا ام حزبا سياسيا، نتفق معه او نختلف ضده، فكانت الاغنية والأكلة العراقية واللباس الشعبي وصور بطاقات البريد والطوابع والعملات العراقية، وتعليق الادوات واللوحات النحاسية والاثرية المجلوبة من سوق الصفافير وبقية مدن العراق حاضرة في غرفنا واقاماتنا، وكانت من أهم المقتنيات والوسائل لتحصين الذاكرة الوطنية، وتعزيز الارتباط باهلنا ووطننا العراق. وكان مجرد ظهور تلك الموجودات في غرفنا وبيوتنا تتحدد بها هوية وميراث وحضور وطن اسمه العراق في نفوسنا، وطن نحبه ونفتخر به حد العبادة والتقديس.

وفي السبعينيات من القرن الماضي وبعدها حلت سنوات الثمانينيات ازدادت هجرات أخرى من العراقيين لاغراض وأسباب شتى، وعديدة ، منها، سياسية او لطلب الدراسة، وقليلا لاجل العمل والاقامة او التجارة، ، حيث ظل زاد العراقي في رفع نسغ وطنيته وارتباطه بها الحصول على عدد من اشرطة الغناء العراقي الاصيل والحديث وتواصله مع اهله واقرانه ومرتع طفولته وصباه.

وفي منتصف السبعينيات انتشرت اغنية الفنان سعدون جابر الشهيرة التي كان مستهلها يقول؛

(اللي مضيع ذهب بسوگ الذهب یلگاه
واللی مضیع محب یمکن سنه ویلگاه
بس اللی مضیع وطن وین الوطن یلگاه
الله يا هالوطن شمسوي بيه الله….الخ.

وتنتهي الاغنية بمقطع شجني اشبه بصرخة تحسر وخوف على اضاعة ذلك الوطن ، وكأننا توقعنا هاجسا معذبا لانفسنا يمتزج بمرارات الاغتراب الطويل او الخوف من ضياع فردوسنا العراقي الحبيب، بفعل فاعل، فكان المقطع الاخير من تلك الاغنية نكرره ونذكره:

لو ضاع الوطن
مانلگه مثل عراگنه عراگ
مانلگه مثل هراگنه عراگ

وبتكرار خيبات الوطن، صار الخوف من ضياع العراق، متلازمة عراقية تؤرق ضمير عشرات الالوف من الوطنيين العراقيين، ولكنها في ذات الوقت ابعدت مجموعات أخرى من العراقيين ايضا باتجاه الاقتناع فعلا بضياع العراق نهائيا بالنسبة لهم ، فيعوا الى الاندماج في مجتمعات غريبة استوطنوا بلدانها .

وباستمرار تباعد مسافات الوجد واتساع الاغتراب واستطالة سنوات الاقامة في المنافي القسرية او الاختيارية وانقطاع وضعف التواصل لدى البعض من العراقيين مع وطنهم ، ضعفت تلك الصلات الوجدانية مع ذلك الوطن، وسادت حالة من اليأس لدى البعض في التفكير بمئاسي الوطن المتكررة.
ونتيجة لجملة من المتغيرات كان من الطبيعي تراجع تأثير تلك الاغنية الرائعة وغيرها من الاغاني على حصانة ووجدان ومقاومة بعض العراقيين، فصار قسم منهم، مثل ذلك المستعمل للمورفينات الوطنية المستهلكة، لتبرير المزيد من البقاء في عالم الاغتراب والابتعاد حتى بات البعض قليل الاحساس والتحسس بما يجري من احداث في العراق، ومنهم من نسي اغنية الفنان سعدون جابر ووصيتها والتحءير من مفردات الضياع المتدرج:
( اللي مضيع ذهب، واللي مضيع محب، وصولا الى …واللي مضيع وطن) ،
وكأنها صارت حكايات غرائبية منسية ، طواها وأجهز عليها زمن الاغتراب الموحش وصار التكيف مع اوطان جديدة، بديلا نهائيا ،لدى البعض، فابتعد حضور العراق تدريجيا عن اذهان البعض منهم، وأضحى في صورة من سراب ماضوي، وركام من رماد الذكريات البعيدة، التي أمست تشكل صورة شبحية متلاشية ومنسية؛ خاصة عند بعض تجار السياسة، فتسربت وترسبت ذكرياتهم وتساقطت من طيات ذاكرتهم المثقوبة وانفرطت كل كلمات الوجدان العراقي واشجانه التي تحمل معاني الوطنية والوفاء والحنين، وكانها أمست تركة ثقيلة عليهم، كَوِزْر حملوه من زمن غابر وحان نسيه فهم لايريدون استذكاره لهم ولاولادهم في المنافي وبلدان الشتات والاقامة، فكانت بداية الانحراف والسقوط في افخاخ الخيانة والتنكر للعراق.

ومن هؤلاء نعرف الكثيرين، خاصة ممن عادوا بعد غزو العراق واحتلاله 2003 وكانوا غرباء تماما عن الوطن وبعيدين حتى عن الوطنية، وقد تناسوا ما يتداوله الشجن العراقي المرتبط بوطن وثقافة وحضارة، و عن ذكريات الارتباط بالاهل والشعب والتحسس بالمواطنة معه، خاصة مع من اصبحوا ،بين ليلة وضحاها ، وبلعبة قذرة، من اقدار الزمن الموحش، محسوبين حكاما وسلطات على رعاياهم وتحت ظل حكوماتهم الاحتلالية …الخ. وحماية قوات الاحتلال نفسها لهم كرعايا لتلك البلدان.

نعم عادوا هؤلاء بحضانة ورعاية وحصانة امريكية وغربية وايرانية ، محتمين بجنسياتهم الاجنبية، شأنهم شأن أي فرد غازي من افراد قوات ووحدات المارينز الغرباء، تراه في ايامه الاولى للاحتلال يتجول في بغداد وغيرها من مدن العراق مشدوها ومندهشا . ومنهم من بدأ يراجع حساباته الظرفية للخيار بين البقاء او العودة من حيث أتى، ومنهم نظر بعين الطامع والتاجر والسمسار ، وحتى الأجير المكلف بمهمة قذرة في الانتقام من ذلك الوطن الذي ضاع منه يوما ولم يلقاه الا بعد 9 نيسان 2003.

ماذكرني بكل هذا السرد اعلاه هو : ان الوطن والوطنية والمواطنة التي حملها مثل هؤلاء اضحت مثل حديد هش أكله الصدأ فتفتت وتآكل وصار بلا صلابة، وبات في عمقه وجوهره لدى هؤلاء بانهم مجرد خردة وطنية كانت تنتسب يوما بالاسم فقط للعراق ؛ لكنها اضحت ترتبط بالمصالح والسرقات والنهب والحنين بشكل معكوس، للعودة في يوم ما مرة أخرى الى اوطان الاقامة والجنسية والاغتراب في المهجر الذي صار لهم وطنا بديلا، فهناك يقطن جزء من ابنائهم، وهناك تستقر عوائلهم، وهناك نقلوا ملايين الدولارات من اموال اللصوصية واشتروا بها القصور والفيلات والمؤسسات ومولوا الاستثمارات وهم يحملون هنا جنسيات الاغراب، وكأنها امتياز لهم بالمساواة مع ادوات الاحتلال وجنوده ، لكونهم من مواطني تلك الدول، وخاصة الدول الغازية المشاركة في احتلال العراق.

لقد انتصرت نوازع الانتماء لوطن آخر يقبع بعيدا خلف البحار والمحيطات ، والى هناك سوف ترسل كل المنهوبات من الاموال التي تسرق وتنهب من ثروات العراق، والى هناك سيشتد حنين آخر يحث هؤلاء على العودة في الاتجاه المعاكس، ومن هناك سيجري الاستهزاء باغنية سعدون جابر ومن ذلك الهاجس الذي كان يوما نخشاه حول ضياع الوطن.

وهم هنا قادمون لآجال معينة في العراق، وقد انقطعت صلاتهم تماما مع من تبقى من الاهل والاصدقاء وبجوار المنطقة الخضراء المحمية بحراب المحتلين، اضحت الارض التي خارجها ديار أخرى؛ حتى لو اضحت اطلال، فلم تعد مصدر حنين وعاطفة عند هؤلاء، وهي في انينها ومحنتها لا تحثهم على البقاء فيها او البناء والاعمار فيها او حتى محاولة ترميم بقايا وطن سحقته ذاكرة الحقد والانتقام منه من بعض أبنائه السابقين .

ولأن السفر الى مواضع كانت يوما اوطان الآباء والامهات قد تغيرت اهدافه، حين باتت مرتبطة بمصالح السياسة والعمالة والارتباطات الجديدة، التي خطط لها جزء من هؤلاء، باستعمال كل الوسائط المنحطة للانتقام من وطن حسبوا يوما عليه.

وهكذا اعيد تشكيل اللوحة المؤقتة لاقامة وعمل ووظيفة هؤلاء ؛ فمنهم من دخل وتورط في عمليات النهب والسلب والقتل والجريمة، ومنهم من ارتبط بدواليب العملية السياسية، وادار بضعة من دواليبها ، وكان المحك في كل ممارسة ووظيفة لهم، يتجلى في ممارسات باتت عند البعض منهم وجها من الاعيب القمار والرهان السياسي والفوز بكل الوسائل في مضمار سباق الخيول السياسية، حينما دخلها امثال هؤلاء باسم السياسة .

وهكذا صار من بين هؤلاء رجال اعمال سياسية “بزنز جديد”، فهم يديرون صفقات البيع والشراء والتوسط لدى الشركات الاجنبية والوزارات باحترافية عالية، فوجدوا ضالتهم الاخيرة المربحة في تجارة وادارة صندوق الانتخابات، والسمسرة في بيع وشراء الاصوات، والدعاية الانتخابية، والتكسب الانتخابي والتزوير لصالح من يدفع أكثر.
أضحت هذه الممارسات تجارة لها اساليبها والاعيبها وطرق التوظيف بها، وهي ذات مردود مالي كبير ، حين يسعى البعض الى الوصول الى مقاعد البرلمان والحكومة والمجالس المحلية والسفارات ومناصب الاعلام والوظائف المرموقة ذات المردود المالي .

وفي بازار السياسة العراقية اليوم يمارس هؤلاء العائدون من اوطانهم الجديدة البعيدة تجارة فاحشة تتجسد فيها عمليات بيع الوطن الأم كله، متناسين انهم انتسبوا اليه يوما وتاجروا سياسيا بعذاباته ، وها هم عادوا بدوافع الطمع والانتقام والحقد، فعملوا على بيع العراق، تجزئة، وبالمفرد، ومنهم من يستعجل بيع العراق بالجملة ايضا.

هل يعلم العراقيون كم هو سعر وقيمة العراق اليوم لديهم؟ وهل يعرفون كم هو عدد المتاجرون في بورصة ومزايدات بيع العراق . يقيني هم اليوم اكثر مما كنا نظن احصاءهم.

والجواب عندهم واحد بأن لا قيمة للعراق ولا ثمن عند من قبل يوما احتلال وطنه وبلده، وجاء لنهبه ، وعمل مسرعا على هدم كل شئ فيه؟

وها هو البازار السياسي لهؤلاء التجار الجشعين مزدهرا بسلع التزييف لكل ما هو عراقي ووطني، ويتجلى في اعلى درجات خستهم في بيع العراق يوما بعد يوم.

اليوم لدى هؤلاء كل شئ مقدر بثمن ورشوة مدفوعة بالمسبق، وهم صعودا في المساومات الجارية يبدأون من شراء وبيع الاصوات الانتخابية وتشكيل الكتل والاحزاب والمقايضة بها وبيعها، ومنهم من يبيع دينه وكتلته ومذهبه وحزبه لمن يدفع اكثر.
و لمن يقترب من كواليسهم اليوم سيعرف سعر الصوت الانتخابي وسعر تشكيل الكتلة وسعر المقعد في مجلس النواب وسعر الوزير ووكيل الوزارة الفلانية وسعر رئاسة الحكومة والبرلمان، وحتى سعر رئاسة الجمهورية ونوابها، ولا يهم تجار السياسة من هؤلاء، من باعة الاوطان، شكل العملة المدفوعة؛ ان كانت العمولات تدفع دينارا او تومانا او ليرة او دولار او يورو كما لا يهمهم الضيعة اوالمحافظة او الجهة؛ طالما ان وطنا اسمه العراق بات كله مباعا في مساومات من تباكوا يوما على وطن لهم، ولكنهم عندما وجدوه، فتشوا عن الشطر الاول من المتاهة باكتشاف “سوگ الذهب” و:حضن المحب” و “دفئ الولف” الاستعماري الاحتلالي؛ لانه قد فقد نهائيا الاحساس بقيمة ذلك الوطن، منذ ان اقدم يوما على قبول خيانته والتآمر عليه، والانخراط في الحرب عليه ، والقبول الطوعي في تشكيل فيالق غزو العراق، وخدمة التوظيف الاستعماري في مسامير العقب الحديدية والقبول بالتكليف المقرف لاصقا اسفل نعال المحتل.