17 نوفمبر، 2024 11:33 ص
Search
Close this search box.

الليبرالية المقنعة؟

تشكل تضاريس الوعي أعقد معالم جغرافيا الواقع البشري، عندما تتحول الحدود الى معتقدات ويتم حشد الرأي العام أو تجنيده فالحروب ستأخذ طابعا شموليّا أخطر بكثير من تأثير أسلحة الدمار الفتاكة. فأصبحت السياسة من وجهة نظر البعض علم معقد يستند إلى معادلات معقدة ومتغيرات وحسابات اختزال تاريخي وحتى فرضيات جبرية لا يفهمها اصحاب الأيديولوجية التوسعية ومطبلين الليبرالية. ربما هي الحسابات الاستعمارية وتبدل موازين القوى منذ سقوط الإتحاد السوفيتي وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم. من هنا شهد العالم تغيرات في هيكلية النظام السياسي الدولي.
هذا الصراع لا يمكن إدارته بالإفراط في استخدام القوة العسكريّة ومكر السياسة. والأدهى من ذلك أن تنقلب معادلة الحرب ليكون الغالب فيه مغلوبا إذا فقد صوابه. الحقيقة إننا لا نتفلسف، إنما نضع القارئ المثقّف أمام مرآة طبيعيّة تشبه من يقف على حافة بحيرة تسكن في ثناياها مياه صافية لكي يرى واقع صورته الذهنيّة، كل ما يجري في حياتنا صراع قوى تعبّر عن نفسها بأفكار، بعضها يترسّخ فيكون دينيّا يلتحف بألوان من ثياب طقوس وتعاليم يستر فيها عوراته عن بصيرة الوعي، وبعض الأفكار تمارس اللعب على أوتار غرائزنا ووحشيّة شهواتنا الحيوانية. والأخطر هو ما يستهدف وجودنا الثقافي وتاريخنا، أما أنواع الأسلحة المستخدمة في هذه الحروب فيجسدها بعض من يدعي كذبا بالليبرالية؟ فهي مسرحية أبطالها دول كبرى تدعي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وهذا هو فن التمثيل السياسي، وابطال هذه المسرحية لم يكتفون بالتعامل مع سيكولوجية المجتمع والتعامل مع مزاجه العام. فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك بتوظيفه سياسيا.
إن الذين يتشبثون بحماية الليبرالية إنما يخدعون أنفسهم، ولعلّ أهم إفرازات الليبرالية وتفرعاتها مثل النيوليبرالية، هو الفشل الذريع للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وأن الحرية والديمقراطية محاصرة فكريا وفقدت مقومات وجودها، بالتالي أنها لن تحمي من يحتمي بها. بلاشك فإن الليبرالية بمفهومها التوسعي لدى زعماء البيت الأبيض كانت وماتزال حلقة من الحلقات كخيار أنسب من التلاعب بمفاصل تطبيقها بالشكل الصحيح الذي أسست بموجبه. وهو بمثابة خداع الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية والليبرالية المقنعة.
إن هذا العبث بدواعي الليبرالية وما رافقه من تخبّط سياسي نتج عنه زلازل في عموم الشرق الأوسط، وأدت الى دمار هائل يعجز العالم عن معالجة اضراره أو خلق معادلة جديدة تضفي إلى استقرار بديل عنه كما شهدنا ما حصل في سوريا وليبيا واليمن، وما يحدث اليوم في غزة، وربما سيشمل دول أخرى إذا لم يتوقف أصحاب الأيديولوجية التوسعية، وعلى راسهم الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما يجب على زعماء البيت الأبيض اصحاب الليبرالية بمراجعة سياساتهم وأخطائهم وتصحيح مسارهم بإعادة التوازن وفق رؤيا تنطلق من تلبية مطالب الشعوب واحترام إرادتها وحريتها إسوة بشعوب العالم بعيدا عن شعارات الحرية والديمقراطية المزيفة.
وبناء على ما تقدم، فإن ما تمخض عن الليبرالية من حالات تدخل أمريكي روسي في شؤون بعض الدول ليس حالة منعزلة أو خاصة بظروف الشرق الاوسط وعلاقته بالنظام السياسي الدولي بشكل عام، لكن الحقيقة ان موضوع التدخلات الأمريكية محسوم سلفا ومؤجل بدوافع خلق واقع يسمح لها أن تعبث بمقدرات الشعوب، أما الكلام عن شرعية هذه التدخلات بموجب تلمود السياسة الأمريكية فهو قد يمثل أول رأس صاروخ يتفجر في ترسانة الغام الليبرالية.
لقد أخطأ الليبراليون في توقيت الإطلاق لليبراليتهم المزعومة حسب توقيتات أجنداتهم التوسعية ليس أكثر. بغض النظر عن دقة حسابات هذا الإجراء وما سينتج عنه. لاسيما أن الليبراليين الجدد أقحموا المنطقة كلها في أزمة خطيرة للغاية ستكون كلفة الخروج منها باهظة على السياسة الأمريكية أكبر من قضية فشلها في فيتنام. بيد أن الليبرالية الأمريكية المقنعة ليس أكثر من طبخه توسعية استيطانية تقدم ضد الشعوب كوجبة هامبرغر سياسي جاهزة على الطريقة الأمريكية في صنع القرار.
في السياق ذاته، أن الليبرالية التي جاءت بها أمريكا كان مخططا لها أن تتم كحلقة من حلقات تقسيم الشرق الاوسط والمنطقة بكاملها. لكن في الوقت نفسه أن المعادلة السياسية متغيرة بشكل مستمر ولهذا جرت الرياح بما لا تشتهي السفنُ، وماذا بعد؟
بسبب عامل اختلاف الضغط يجري تصريف الرياح ولا يبدو هنالك متنفس في أزمة الشرق الأوسط، لاسيما أن ميزان القوى السياسية في بعض مناطق الشرق الأوسط يستند بالأساس على صراع قوى مسلحة وضمن أطار عقائدي. هذه القوى المسلحة لها اليد الطولى على الساحة ميدانيا وسياسيا وأن قضية الحرية والليبرالية ليست أكثر من مهزلة سياسية.
أمام هذا المأزق نتساءل، مأزق الليبرالية المقنعة وهي بالأساس ليبرالية توسعية. ما هي خيارات السياسة الأمريكية للخروج من وحل مستنقع أزمة الشرق الأوسط؟
لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تأبى ان تعترف بفشلها وجملة الأخطاء التي ارتكبتها منذ غزو العراق حتى اليوم، وكلما تحاول أن تصحح خطأ ترتكب الأبشع منه بحق الشعوب العربية.
لكن الليبرالية الأمريكية تعالج قضاياها بسريّة تامة خصوصا عندما تتعلق بمخاطر حقيقيّة لا تسمح بلعب الصغار أو تتطلب تقديم أكباش فداء للتخلص من أخطاءها السياسية. وإن ما يحدث اليوم في غزة، سيشعل حرب لا محالة في المنطقة كلها، ولا نحتاج توضيح الكيفية فهي معلومة لكل عاقل يفهم أبجديات السياسة، هذا الخيار سيكون أعظم أخطاء أمريكا منذ تأسيسها الى اليوم لأن الضحايا ستكون كارثية مفزعة، ولكن بالمقابل، ما هو ثمن استمرار الحرب على أبناء الشعب الفلسطيني، سوى التشريد والتهجير، ذلك التهجير والتشريد الذي تحول الى عرس تاريخي بشهادة طبول الليبرالية المقنعة؟
حقا ستكون نكسة إنسانية بخذلان أمة كريمة لا تقل عن جميع الأمم على وجه الأرض شرفا وعزة وكرامة. وما بعد هذا الخذلان الذي يصعب تفاديه بوعود الكذب والتدليس السياسي ستخسر أمريكا جوكر أوراق ألاعيبها في الشرق الأوسط.
بقلم: استاذ الفكر السياسي
الدكتور: أنمار نزار الدروبي

أحدث المقالات