20 ديسمبر، 2024 12:35 ص

اللون … كشخصية رئيسة / أو…العزف على الألوان.. في دورق الشاعر شيركو بيكس

اللون … كشخصية رئيسة / أو…العزف على الألوان.. في دورق الشاعر شيركو بيكس

(*)
أدخل الى( دورق الألوان) المجموعة الشعرية للشاعر العراقي الكوردي شيركو بيكس،لا بالنسخة الاصل،بل بالنسخ المترجمة،إذن ادخل لصوت الشاعر شيركو، من خلال قدرات المترجم الدكتور شاهو سعيد/ أستاذ النقد الفلسفي والأدب العربي المساعد في جامعة السليمانية..
وبهذه الحالة،لن تصلني النسخة كاملة كما هي في الاصل الكردي،رغم القدرات العالية للمترجم..ربما لوكنت اتقن اللغة الكردية،لتذوقت الجانب الصوتي للكلمة ،وعرفتُ أجناسية النص الذي بين يديّ..وكم نسبة نزوع الشاعرللحداثة..وكذلك تموضعات الاستعمال الشعري للمفردة الكوردية…إذن أنا كقارىء لنص مترجم خسرتُ اللاتعوضه الترجمة..(أن لغة شيركو بيكس…لايقوى على تلقيها إلا من قرأها بلغتها الاصلية،وكان على دراية مسبقة بمفردات الريف الكردي ولهجات ساكنيه المختلفة /ص33 من مقدمة المترجم)..نحن امام الاشكال الاول مع نص الشاعر وهو اشكال لغوي،وهناك الاشكالية الترجمة..(..مترجم اشعاره لايجد بدا إلا أن يقرر أختيارا بين الأثنين :إما الترجمة الحرفية التي تجهض شعرية الشعر وتفرغ النص من قدرته على احداث الصدمة الجمالية،وإما الترجمة الشعرية التي تجهض حرفية النص،وتخون الشعر في بنائه المعجمي لتحتفظ بجانب من طاقته الجمالية بالنسبة لهذا الديوان/33)
سيميل المترجم الكريم الى الترجمة الشعرية..
(*)
هكذا هم الغاوون…يستوقفهم اللامرئي..الذي يصطاده  رامبو أو…شيركو بيكس..رامبو تعامل مع اللون صوتيا في تجربة ثيو صوفية، وسيتعامل بيكس بطريقة  ذات مذاق صوتي،يستفيد من رامبو ..دون أستنساخ الرؤى ذاتها.. آرثر رامبو أوصلته رؤاه الثيو صوفية الى مأسسة جغرافية ماورائية عبر الفعل الشعري،أكتشف الونا للحروف
فحرف A الفرنسي لونه أسود وحرف E لونه أبيض وI أحمر
و  Uأخضر و O أزرق…
(*)
لدى الشاعر العراقي شيركو بيكس يكون اللون جزئيات الكلية الشعرية..اللون يشخصن البشر(أعيش وحدي أرملة ً كوحدة خيمة سوداء/75)(يبدو لوني غامقا/ كلون حزن عكر) ويؤرخ المجزرة:(جاء بارق بطاقتيه العسكرية/ومسدسات على الخاصرة/ ودنسوا منزل الرحمن الاخضر/80)  بارق..هو (عميد ركن في الجيش العراقي السابق،قائد الحملة العسكرية الثالثة للأنفال..ومن مفارقات التاريخ انه أعدم بعد حملات الانفال من قبل صدام لأسباب مجهولة/ص252) وبالتوازي مع بارق هناك الضحية(كويستان) (أمرأة خيالية تمثل صورة من ضحايا الانفال الواقعيين وخصوصا من بين الاناث/252) إذن كويستان خلاصة واقعية للنساء الكرديات ضحايا النظام السابق..كويستان ابتسامتها ليست جرحا بل هي الجرح مجسدا..(أما ابتساماتي،إن وجدت/ فهي ليست إلا الجروح عند تفتح ثغرها/ 75) وهنا سيجترح النص حكايات ملونة بطعم الحنظل والرماد وعطر التفاح في حلبجة (ففي الساعة السابعة من صباح 24 نيسان 1988 أغارت 20 طائرة عراقية على المدينة وأريافها..مامن أحد عرف أن هذا الدخان الأصفر الذي خيم على المدينة هو الموت بعينه على شكل مزيج من السيانيد وغازات الخردل والأعصاب..خمسة آلاف قتيل خلال ساعات../ص182/ زهير الجزائري)..
وسيحضرن النسوة الكرديات المؤنفلات( حملات انفال صدام حسين)  التي بدأت هذه الحملات في شباط الى أيلول 1988 وأستمرت حتى مطلع 1989وتمرحلت بثمان مراحل ونسق الابادة رباعي الابعاد: تحديد أقامة- حجز – ابادة..سيحضرن مشخصات بالضحية (كويستان) ويتقمصها السارد العليم او تتماهى هي بضمير الشاعر شيركو من خلال أثنتي عشر لوحة شعرية / لونية ..
(*)
.. ومجازر الانفال محاولة في تزييف الوعي الدين و(حث مرضي على القتل يجعل القتل في مصاف الديانة /ص153/ زهير الجزائري) وفعل الأنفلة أدى الى إزالة..(أكثرمن 4500قرية وناحية ومدينة بينها 24 قضاء/ص202/ زهير الجزائري) وليس هذا فقط..علينا الأنتباه كيف انتقل خطاب السلطة الشمولية من التوجه القومي الى التقنع بقناع الدين جاعلا من سورة الانفال،اسما لحملاته في ابادة الاكراد وكان ذلك تحديد عام 1986..(صار استخدام آيات القرآن غطاء للعنف الدخلي والخارجي وكانت سورة الانفال الينبوع الذي يغرف منه صدام حسين بالذات مفردات الحرب منها،ومن مفردات الحروب القديمة أخذ عبارة (قطع البنان) التي أصبحت كناية لازمة عن القتل،وكانت الصحف الرسمية تتفن في ايجاد تشبيهات بين حجارة السجيل والقصف الجوي على المدن وجهنم الله وصواريخ أرض أرض وغارات الطيران وطير الابابيل.لم يأخذ النظام في خطابه من القرآن غير المفردات التي تتسم بالقسوة والعنف في سبيل إيجاد غطاء ديني لجرائمه/ص195/ زهير الجزائري)..
(*)
يواصل الشاعر العزف على الالوان..فتنبجس :تهجدات الروح..علم الثورة.. سنتذوق الطفولة من لونها..ويقضمنا الحزن من بهجة الانامل ..سنصاب بفقر اللون ونكون من كنّازين الثروة  اللونية..سيكون للعبقرية مزيجها اللوني..(مزجتُ لون الرواية بلون الفلسفة 
           ولون التصوّر الذهني ولون النبو ة
            في غرفة واحدة
     أسميته( اللون العبقري)/151)
وهكذا،يكون التجريد لونا في مخيال (غرفة ديستوفسكي ).وللسراب لونه(لماذا سبقني لون سرابي)..(أستسلمتُ لرحلة لون سرابي/118) . سيكون الأصفر تثاؤب الخريف(قد يكون الأصفر…لونا لتثاؤب الخريف/67).. وحين تتناحر الوان الطيف السياسي فأن الشاعر يأوي الى بياض يعصمه(كانت الوان الوطن تتقاتل وتتنابذ/ فبحثتُ عن الأبيض/ عن لون يريحني/118 ) ولايكتفي..بل سيعلن.. (مزجت لون الشعر بلون الشراب/ ولون المرأة ولون النغم/ في كأس واحدة /فولد لون جديد/ أسميته(اللون العشقي)/150)  والزمن يزواج بين وقتين (الزمن: ساعة الظهيرة البيضاء/ لكن أصيلا يجالسني على المائدة/ 117) وللألوان ارتياب الايادي( إن ألواني مرتابة / كأرتياب يديّ / إحداهما تصافح الحياة / والأخرى تسحبني صوب لون جهنمي طافح بالمنايا / ص121)وقبل كل هذا وذاك فأن القيمة العليا للون تكمن في انوثته،وكل لون لايؤنث لايعوّل عليه..(إنما اللون أمرأة، حين يحولنا الى اغنية قانية/ ويغطينا بالمحبة /50)
(*)
(صادقتني شجرة،حين صادقت لونا
            فأتسعت رؤياي بعدا)
نلاحظ ان صداقة الكائن النباتي مشروطة لونيا،وهذا الشرط سيمنح الكائن البشري/ الشعري،سعة إضافية في جغرافية الأستبصار،وعلى المستوى الثاني نلاحظ ان النباتي ازداد قربا من البشري من جراء التعايش السلمي بين البشري واحدى مكونات النباتي أعني اللون، اذن اللون وحده فاعلية
أتصالية بين الكائنين : النباتي/ البشري. وسنكون من خلال متواليات الصداقة، بين البشري وسواه أمام  اتصاليات ذات ذات منسوب ديالكتيك ضمن قانون: الكم/ الكيف..
ولنتابع متواليات رهف الشاعر
(دخل طائران في قصيدتي،حين صادقت لونين
  فأتسع أفقان حسرة ً لتحليقي)
هنا ينتقل الشاعر بالتوالي من مملكة النبات الى مملكة الحيوان..يمكن الاعتبار النسق الاول ولنطلق عليه نسق الشجرة،هو النسق/ السبب وبقية الانساق نتائج متأثلة منه
في النسق الاول يشتغل رقميا على الواحد
*لونا ——— شجرة  = كثرة/ رؤياي + الواحد/ بعدا
*لونين—–قصيدتي——- طائران = مثنى/أفقان + الواحد/ حسرة..
في النسق الثاني نلاحظ ان الطيرين ،هما نتاج صداقة الشاعر المثنوية للون..
في المتوالية اللونية الثالثة:
(وحين صادقت ثلاثة ألوان/ انفتحت ثلاثة شبابيك على  خيالي) ..نلاحظ ان الصداقات اللونية تنتج مايسميه توماس اليوت،معادلها الموضوعي وهكذا نحصل على توازنات اتصالية في النسق الثالث:
*ثلاث ألوان———-###
سأقطع بثت المتوالي..منتقلا الى مؤثريتها الاجمالية على الإنسان /الشاعر
(الألوان كلها
 عرفتني بحديقة برمتها
فأدخلت ُ الى عالم قصيدتي ألف طير
وصببتُ في أذني ألف لحن
حينها أصبحت الأرض كلها موكبا لرؤياي
ودورقا لألواني..فأتسع خيالي فضاءً) هذه السعة بقوتها الدافعة اللونية هي التي ستفعل اتصالا أمميا مع الجغرافيا،
(عندها حاورتُ من جانبي
 القارات،السوداء..والصفراء..فالبيضاء
ثم الحمراء…واحدة بعد أخرى)
لاتقف مؤثرية اللون عند هذا الحد،سيمأسس اللون صيرورة عذراء في كينونة الانسان / الشاعر
(صارت حكاية اللون حكاية بصري
 لقد صارت طفولة اللون طفولة كلماتي
لقد صار اللون بشجاعته وصيحته وثورته
 كأنه والدي
لقد صار اللون،بدموعه وثيابه
وكأنه والدتي)..
لاتكتفي قوة اللون بهذا المدى الشخصي، بل يبث  طراوة تنويعاته الاجتماعية
(إذ يصبح وردة في مزهرية متكسرة
 لأرملة متشحة بالسواد
يصبح يمامة ذات جناح أزرق
تحط بين غصنين متيبسين )..
وللألوان فاعلية التوقيع الشخصي(فالألوان الحمراء والخضراء والصفراء المشعبة
               أو ألوان الفن المشبع
تعود وتصبح جميعا ذكرى ل(حسن فلاح)/148)
ستكون(حسن فلاح) شفرة مقفولة، في نهاية الكتاب وتحديدا في ص255، ينتظرنا مفتاح الشفرة:(حسن فلاح،من المصورين الشعبيين في مدينة السليمانية،أشتهر في الثلاثييات والاربعينيات من القرن الماضي برسوماته الجدارية في الحمامات والمقاهي)..
(*)
علاماتيا للون تميزه ودلالالته وتأويلاته وتتضح تميزات اللون،في الزي ومنه تنبثق سيكلوجية الملابس،والتفارق الايدلوجي..وللون مؤثريته على النفس الانسانية..
من هذه الثريا المتعددة الانساق تتشكل ذاكرة اللون ..
في الأرشيف المجتمعي..فالجوع يمحق صفة اللون ويبقي على التسمية بشراستها..(إذا انتحب طفل بين ألوان الجوع/212) ربما لأن الجوع يتوزع في المتعدد اللوني،وكذا الحال مع تنويعات المظلمة..
(وإذا قُتل أحدهم بين ألوان المظالم
فأن حديقتي البيضاء ..
تشهق نَفَس التحسر
وتغمس قامتها في الاحمرار)
نلاحظ كيف يتكون الإندراج في اتصاليته اللونية..
أسود —-أبيض —– أحمر، ولنقّلب كعلماء الآثار هذالحجر النصي(لاتجعلني لونا يرثيك
   لأن الرثاء جف تماما في لوني/213) سأقرأ السطر الثاني من النص ذاته بالطريقة الآتية:(اللون جف تماما في الرثاء)..
وألوان شيركو لاتكتفي بصفة اللون المتعارف عليها..فالكثرة اللونية الخاصة بالشاعر،لها حركية قرص نيوتن الذي يحتوي الالوان الاساسية..فمن تدوير القرص وجعله في حركة دائرية سريعة  ستتماهى الالوان كافة بالأبيض
وهكذا أرى هذا المفصل الشيركوي (شيركو)
(تعالوا أدخلوا ألواني
فحين تتأملون عزلتي أمام الضياء
تجدون لونا ناصعا
صامتا وحزينا /ص122) ان المنادي يشترط ان يكون التأمل في ضاد الضياء لاظاء الظلام،لأن الحالة الثانية تمحق التميزات اللونية ،أما في الحالة الاولى فستتحول الكثرة/ ألواني الى واحد متعدد في نسق ثلاثي: ناصعا/ صامتا/ حزينا..هل  تعدد الواحد/ النسقي هو توحد واتحاد رسولي؟
(إن عظمة أي لون كامنة في انعكاس رسالته
 وإنني ذلك اللون الذي
أحمل في باصرتي ألوان الحق والإله الباري
وآخر رسالاته من السماء/ص180)
وتعدد الواحد يواصل عزفه اللوني في مداراتها المتفرعة تضاريسيا..وانسانيا
(تعالوا وأدخلو ألواني
 مايزال لوني ريحا صافرة
أنتم أدغالها وغاباتها
مازال لوني بحرا هادرا تتلاطم أمواجه
وأنتم قناديل ضفافه
لم يزل لوني شارعا أخضروأحمر للعشاق/ص215)
ولايكتفي الشاعر بهذا التعدد الباذخ للون بل يصيّر اللون
بوصلة المنادى ..
(بأمكانك أن تدركني
 حين تبصر لونا أرجوانيا مفتتا على التاريخ
وصيحة بنفسجية لجسد أمرأة
حين تبصر عزلة هذه القصيدة
وألوان الأطفال المنهكة
وألوان مرآي المشرد الولهان
وألوان نأمات البراعم والينابيع/ص 226-227)
ثم تنتقل القصيدة الى تحولات الذاتي في اللون وهي تحولات
جوانية:(كم هو مهموم لوني
         في هذه الرحلة الكدرة !/227)
  (كم هو قلق لوني
   في هذه الرحلة الكفيفة الظلماء)
(كم هو ظمآن لوني
 في سموم هذه الرحلة)
(كم هو وحيد لوني في هذه الرحلة الطويلة)

(كم هو حزين لون أعماقي..وحزين )
نلاحظ في هذا النسق اللوني السادسي،يعلن النص عن احتدامات جوانية في النفس،بسبب التضاد الاتصالي بين الذات / الموضوع لكن الذات تحاول الاستعانة بمدد اجتماعي
لتنال الغلبة:(تعالوا وادخلوا ألواني
              إنني الآن في عنفوان التساؤل والانبهار
           أدخلوا ألواني..ألوان مساءاتي
           تعالوا وانزلوا ضيوفا على الزرقة
           وفي رطوبة الألوان القانية
           أنزلوا ضيوفا على ألواني الرمادية
           وعلى الألوان البنفسجية../230)

شيركو ليس عازف الالوان فقط..(جئت هذا المساء / كي استحيل نايا / وأعزف الألوان../ص31
شيركو سارد الالوان (صارت حكاية الالوان حكاية بصري/41) (أنا راوي الألوان..أروي قصصها/52)

*شيركو بيكس/ دورق الألوان/ ترجمة وتقديم الدكتور شاهو سعيد/ دار سردم للطباعة والنشر/ السليمانية/ 2009
*رامبو حياته وشعره/ قصيدة أحرف صوتية/ ص106/ ترجمة خليل الخوري/مطبعة الشعب/ بغداد/ 1978
*زهير الجزائري/المستبد – صناعة قائد – صناعة شعب /منشورات/ معهد الدراسات الاستراتيجية/ بغداد – بيروت / ط1/ 2006

أحدث المقالات

أحدث المقالات