23 ديسمبر، 2024 3:32 ص

الله وروح الشاعر والرسام والموسيقي والصائغ..!

الله وروح الشاعر والرسام والموسيقي والصائغ..!

لايفعل الممثل شيئاً كبيرا على مستوى الروح لأنه يحترف الأيماءة والحركة والتعبير بفضل المِران الجيد ، ولكنه قد يرتقي الى مستوى الرائي في صنع معجزته الفنية ولكن بمساعدة المخرج ، وهنا يكون الأشراك في صناعة الموهبة من بعض أفرازها عن رؤى أعجاز أخرى كما عند الشاعر والرسام والموسيقي والصائغ.

يكمن الله كروح مانحةٍ وملهمة ومساعدة في التوصيفات الأربع بشكل مفضوح وميهمن حيث لايستطيع الشاعر أن ينطق هاجسه الموزون او الكلمة السارحة والمصورة بخيال لحظة ما أن يبث هذا الغيب الحروفي دون أن يشعر أن هناك الخفي الذي يدفعله ليكتب ويقول ويشعر، وبسبب هذا الخفي الماسك لروحانيات الذات في غموض من اخيلة غير مرئية ولكنها محسوسة يستطيع الشاعر أن يعيش اللحظة التي لايستطيع حسابها بزمن معلوم وأنما هي آتية عندما تأتي فجأة مشاعر الاستعداد للكتابة وصناعة النص.

تدخل روح الغيب هذه ( الله ) في مجمل الافعال الحياتية ، وتصبح صانعة للتحفيز والشراكة لهذا في الكتابة الشعرية لحظة العشق تكون هذه الروح موجودة كحافز وكذلك في الثورة والجوع والوصف والمديح والبعض قد يثوروا وقد يعشقوا وقد يجوعوا ولكن في غياب هذه الروح عن اعماقهم لايستطعون انتاج ردة الفعل بشكله الاعجازي كان يكتبوا قصيدة او يثوروا بشكل يحقق الاهداف الانسانية لهذه الثورة كما في غضب الرعاع والغوغاء والقراصنة في تمردهم. وكذا كثير من جياع العالم يشعرون انهم جائعون من خلال فراغ بطونهم ويعبرون عن هذا انهم جائعون ويحتاجون الى خبز.

مستوى العلاقة بين الروح ( الآلهية ) أي كانت اشكالها ومصادرها وأمكنتها وبين القصيدة تمثل العلاقة الأسمى للتكوين التأليفي للتراث الانساني وهي واحدة من اقدم العلائق البشرية بين الذات البعيدة والذات التي سكنت الارض وتطورت في مراحل تكوينها من انسان الكهوف العشبي الى انسان القرية المتطور حيث اكتشفت اللغة وتطور التعبير عن الموجود وتأثير هذا الاحساس البدائي الغامض ( الله ) والذي اصبح معلوما ومتطورا في التعامل معه من خلال التدويين والاساطير والانبياء والفلسفات واحلام القديسين وصلاة عامل الطين.

الحافز في الديمومة الشعرية هو الحافز الروحاني أولا ، لهذا يولد الشاعر وهو رحم أمه حيث يتنمى فيه الاحساس الذي يميزه عن الآخرين ولكن ايضا بمستويات تختلف في جودة تعابيرها ، بفضل الموهبة التي ايضا هي واحدة من تلك الهبات الغامضة القادمة بمنة وفضل من تلك الروح البعيدة.

عاش الشعر ليكون هكذا ، أنه القدرية الأكثر رسوخا في المشهد الحضاري والذي لن يؤثر عليه أي تقدم عولمي في الحياة الارضية والدليل تلك المطاوعة المدهشة بين اصابع الشاعر وإيحاءه مع أصابع الكيبورد ، إذ يستطيع الان كتابة قصيدته على شاشة الحاسوب ربما بذات اللذة او دونها قليلا مثلما كان يفعله على الورقة.

أن خيالات الشعر في شكلها ( الروحي والعولمي ) مثلت تجانسا عميقا في أعطاء الصورة الشعرية ذات الابعاد الرائعة في تخيل وجه المرأة التي نعشق على ألة الحاسوب أو خارطة الحنين للوطن البعيد او اي مشاعر اخرى وقد يساعد في ذلك إن بإمكانكَ الكتابة الشعرية على الحاسوب وفي الوقت ذاته يستطيع ذات الجهاز أن يمنحكَ لذة سماع أغنية لوردة أو داخل حسن أو مقطوعة موسيقية لموزارت أو يبهجك بلحظة استراحة بين مقطع ومقطع لتعيش نشوة رقص فيفي عبدة على اغنية ( أنا في انتظارك ) لأم كلثوم.!

في الرسم كما في الشعر ولكن رائية الرسم لها دهشة اخرى ومذاق يختلف بالرغم من أنك تستطيع ان تنظر الى اللوحة وتكتشف المساحات الشعرية في ملامحها وربما هي من بعض ملهمات الرؤية الشعرية لتكون كما في الموناليزا وحمامة السلام وجورنيكا لبيكاسو ، وقد كان السرياليون ومنهم اندريه بريتون يعتقدون أن القصيدة الشعرية دون حرفة رسام لن تصل الى قصدها ولن يفك غموضها ، لهذا كان اغلب من أنتموا الى السريالية هم الرسامون والشعراء.

أتخيل اللوحة ومساحة طيف الله فيها ، وبعيدا عن المحتوى والمذهب الفني والمعنى داخل الاطار أضع صورة التفكير الأول لدى الرسام حين بدأ ليرسمها ، اللحظة المحفزة ، الصدفة أو التأمل أو الايمان بفكرة ومشروع ، وكل هذه المسببات هي لحظات قدرية تسكن الرسام لينهض ويمسك الفرشاة لهذا يعتقد مبدع الريشة أن الشروع في الرسم لايأتِ من لحظة عادية يوقتها بعد انتهاء الفطور ، فبدون الدافع الخفي لايمكن أن يكون هناك صوت وروح في داخل الحركة وقد نستثني من هذا الرسامين التجاريين في الشوارع والبازارات ، لكن حتى هؤلاء بفضل الموهبة الغائبة في اعمق ما فيهم ، فهم لايرسمون دون أن تكون هناك رغبة وفعل آتِ من النداء الداخلي لتكون اللوحة المصور الجميل لحالة او مكان او نشوة رومانسية او أستشراقا لحياة مشرقية.

دائما كنت أرى في المونليزا تعبيرا عن هذه العلاقة بين الروح وموهبة الفنان ليكون الانبهار بالموجود الذي امامك ولتتخيل مع عيون الجيكوندا ذلك الخلق المميز في انوثة حواء وبسبب هذا الجمال الألهي يندفع الفعل في روح الرسام لتكون المونليزا بهذا الشكل الرائع.

هذا ينطبق على النحت ايضا وهو واحد من فنون الرسم على الحجر او الخشب ، لتكون العلاقة بين الرسام واللوحة تقترب من ذلك التفكير الايحائي فنسميها علاقة الريشة بالسماء ، ولنقرب الأمر بالقول أن الرسام بفضل الخيال والموهبة والايحاء يحول ريشته الى مشرط يقطع به قطعة من الفضاء ويضعها داخل لوحته بتعبير وملامح وموضوعة لها علاقة بما يسكن العالم ويشغله ولكن بمساعدة تلك الروح البعيدة.

الموسيقي هو الاكثر والاصعب في هذا التحفيز الذي يصنع العلاقة بين البعيد ( الخفي والمهيمن ) وبين الكائن الارضي ( الأنسان ) .

لهذا فأنا وما زلت اعتقد أن الموسيقى بصناعتها وصعوبة خلقها وقدرتها على صنع الهيام واللحظة الغارقة في الانصات وقدرتها على جعل استعادة الذكريات واللحظات الغائبة أنما هي واحدة من اكثر الملهمات الابداعية من تقرب وتجسد العلاقة بين الروح البعيدة والروح الارضية ، انها كما اتصورها الايحاءات العميقة والتي تجمع كل الحواس البشرية في لحظة الانتشاء والمتعة والسمو.

أنها موحدة للثقافة وللفكر والتعبير ، لهذا الموسيقى وحدها من لاتحتاج الى لغة وترجمان كما في الشعر والرسم ، فالموسيقى الاسبانية مثلا ( الفلامنكو ) تغريك بأحساس جمعي تخفي معه الحاجة للفهم والترجمان ، وهي وحدها من تقارب اعماقك الى النشوة الشرقية وخمرة سعادتها وتحولك أطياف ونغم القيثار الغجري الى مساحة من اللذة الممزوجة ببهجة السماع والفرح والرغبة في الرقص.وغير الفلامنكو هناك النغم المشرقي في عود الاغاني الصوفية والمقدمات الساحرة في اغنيات أم كلثوم وهناك السمفونيات الغربية صاحبة التحليق والدهشة وهناك الموسيقى التركية والارمنية والهندية كلها لقادرة على توحيد الذات بعيدا عن الجغرافية والانتماء والقومية وجوازات السفر.

ومنذ القدم كانت الموسيقى تقدم الوعي الخفي للأعماق البشرية يتوازن فيها الخلق والتأثير والأبداع وربما الموسيقى السومرية هي من بعض جوانب هذا الأثر .

لقد حددت الموسيقى السومرية في قوة تأثيرها الروحي والأخلاقي جانباً كبيراً من شخصية الفرد الذي عاش على هذا الأديم الذي رسم البدايات الواضحة في التاريخ، وكانت تعبر في مستواها التقني العالي عن قدرة عالية في التفكير لاسيما إنها كانت طقس شائع ولم تقتصر على فئة معينة من البشر أو طبقة اجتماعية. وقد أرتنا بقايا الحضارة السومرية أن الرعاة كانوا يحسنون مناداة عشتار بكلمات رقيقة فكانت تستسلم لخداعهم، وعندما تصحو من ثمالتها تثأر منهم بان ترسل إليهم الذئاب لتنهش أغنامهم. إذن حتى الفكر الأسطوري كان يعطي للموسيقى قوة التغلب على صمود إحساس الإله تجاه الشيء الأرضي. وكانت الموسيقى لصيقة لحياة الإنسان السومري وموته، وهذا ما قرأناه في مذكرات العلامة الاثاري ماكس مالون والذي شارك العلامة ليوناردو وولي في الكشف عن مخابئ وأسرار وكنوز المقبرة الملكية في أور عندما يقول في صفحة 52 من المذكرات (كان مشهد المقبرة الملكية رائعاً عندما كنا نعمل جميعاً. وأذكر أن أحد القبور الملكية ضم ما لا يقل عن 74 شخصاً دفنوا أحياء في قاع المهوى الملكي العميق. بدأ عندما كشفنا سجادة ذهبية اللون مزينة بأغطية الرأس لسيدات البلاط، متخذة أوراق شجرة الزان، وعليها آلات القيثارة والقيثارات (Harps and lyres) التي عزفت الترنيمة الجنائزية إلى النهاية).

تلك هي الموسيقى وكما تسمى دائما غذاء الروح ورغبتها الحميمة في التخلص من كل ضغوطات هذا العالم المُصنع بالأسلاك والخلايا وأيقونات الحاسوب وموبايل الأيفون.

الرؤيا الروحانية الثالثة والتي ظلت ملازمة لتفكيري منذ طفولته هي مراقبة ( الصائغ المندائي ) في مهارته بتجميل شكل الذهب ووتطويعه وصياغته على شكل خواتم وأساور وقلائد وخلاخيل.

رؤية الصائغ المندائي الى مهنته لم تأت من عوامل الحياة العملية ومتلطبات العيش كما عند النجار وعامل الطين والنداف والحداد وسائس العربة وغيرهم ، أنما هي محسوس روحي مرتبط بالتفكير العميق لقدرة الذات على التعامل مع الثمين وتطوير جماليته التي يتقنها بفضل بريقه والضوء والمنبعث منه ، وتلك الروحانيات انعكست على الذات في رغبتها لجعل هذا المعدن القرين الازلي بأقتران آدم وحواء وكذلك تنصيب الملوك الذي اعتقد فيهم الانسان أشباه آلهة وانصافها كما في جلجامش والفرعون وآخرين.

لهذا أدركت لماذا الصائغ أنحصرت شهرته في بلاد الرافدين في أولئك الذين كانوا في البدء جوالين وقارئي الغيب ومفسري مصائر وهم يتجولون بين قرى الجنوب ومدنه المائية مرتدين ثيابهم البيضاء التي صنعت نقاء ارواحهم ، ومن هذا النقاء تحول التجوال عندهم الى تعامل روحي آخر ليتمازجوا بسحر الخيال والزخرفة مع أناملهم واختاروا الحديد في البدء ثم ذهبوا الى الذهب لان بريقه يغري الروح في صناعة الابداع وتشكيل البهجة التي تمنح المرأة قناعة بأغراء انوثتها والملك بلمعان تاجه وربما المصوغات التي حرصت على جلبهن معها اميرات سومر اثناء الرحلة السرمدية الى عالم الاقبية والقبور في مقبرة أور المقدسة والمجهول تمثلُ الحاجة والرغبة ان يكون التزين بالذهب رغبة تصاحب البشر حتى وهم في الفردوس الخالد الجنة ( دلمون ).

دائما كنت أرى في أصابع الصائغ مقاربة مع الاصابع التي تلعب على البيانو فتمنحنا القدرة على انتاج ذائقة جمالية ليس لبريق المعدن الغالي بل هي ذائقة الروح أولا ، الذائقة التي تمنحنا خيال الابحار مع تلك المرايا التي تعكس نقاء التفكير الروحاني الأول الذي ربما ابتدأه المندائيون منذ رحلة سفينة نوح والى اليوم.

لاأدري لماذا حين أتذكر تلك المهارة الحسية والابداعية في التعامل مع الذهب والتي يؤديها المندائي بالشكل المبتهج أتذكر تقييم عزرا باوند لقصيدة توماس اليوت ( الأرض اليباب ) عندما اطلق عليه لقب ( الصانع الأمهر ) حتى اني اتخيل العبارة والتي يقصدها باوند هي ( الصائغ الأمهر) عندما تكون الصياغة والتي اقترنت بالحرفة المندائية تمثل صناعة وللأبهار وممرا لجعل الاقتران بين البشر بقيمة عالية حتى لتحس الانثى في ليلة زفافها إن رنين الذهب على صدرها يذكرها بقيمتها وجمالها وربما تلك القلادة والخواتم من بعض محفزات ذهاب بعلها اليها ومن ثم الغور في اعماق الروح والجسد لينتشي يثبت رجولته ويقضي طوره.

روح الله والشاعر والرسام والموسيقي والصائغ متواليات أزلية مترابطة الايقاع والرغبة والمحصلة ، وهذا يجعل البشر وتحضرهم بعيدا عن هواجس السيوف والدبابات والمفخخات.

الروح الجامعة لتلك المنجزات الخالدة ستظل وطوال عمر البشرية  ووجودها المحفز الخفي والميتافيزقي والمادي لكل ما يتمناه الانسان ويود أن يمارسه.

روح الله ، هو الريشة والوتر وكلمة القصيدة ورعشة الصائغ ، هذا التمازك في شكله المتدين والسريالي والشيوعي والامبريالي يمثل المكون الحقيقي لبقاء الانسان كي يكون والى حد هذه اللحظة الصانع الأول للجمال في هذا الكون.
*القطار الواصل بين كولن وفرانكفورت ( 5 حزيران 2014)