5 نوفمبر، 2024 2:32 م
Search
Close this search box.

الله والدين ضدان لا يجتمعان

الله والدين ضدان لا يجتمعان

هذا إذا ثبت لنا كما سأبين أن الدين هو أحد مصاديق مفهوم الطاغوت، ولكون الله والطاغوت حسب إقرار القرآن ضدين لا يجتمعان. وليس المقصود بذلك التضادّ بين الذاتين لكل من الله والطاغوت، إنما المقصود به هو التضادّ بين الإيمان بالواحد والإيمان بالآخر منهما، فالإيمان بالله والإيمان بالطاغوت ضدّان لا يجتمعان، لكنهما يرتفعان، كما في التعريف المنطقي للضدَّين، ولنا عودة إلى توضيحه. لكني في البداية أحب أن أثبت بأني أتفق كليا مع القرآن في عدم إمكان الجمع بين الإيمانين، وذلك من حيث المفهوم، أما من حيث المصاديق، أي تطبيقات القرآن لمعنى الطاغوت، أو جعل الإيمان بالله مشروطا بالإيمان بالإسلام، أو جعل عدم الإيمان من مصاديق الطاغوت، فهذا من غير شك ما لا يمكنني موافقة القرآن على ما يذهب إليه، وهذا ما سنتناوله بإذن الله.

لكن قبل هذا أحب أن أبين لماذا اعتبرت الإيمان بالله من جهة، والإيمان بالطاغوت من جهة أخرى، ضدَّين، حسب مفهوم علم المنطق، ولم أعتبرهما نقيضين مثلا. من أجل الإجابة أورد تعريف المنطق للضدَّين، أو المتضادَّين، ألا هو «إنهما لا يجتمعان ويرتفعان»، بينما النقيضان أو المتناقضان فـ«إنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان». والمقصود بـ «لا يجتمعان ويرتفعان»، أي يستحيل ثبوتهما في شيء واحد مع وحدة الزمان والمكان وسائر الوحدات، لكن يمكن أن ينتفيا كلاهما، ومثال الضدَّين الأسود والأبيض، لا يجتمعان: أي لا يمكن لنفس الشيء أن يكون أبيض وأسود في آن واحد، ويرتفعان: أي يمكن لذلك الشيء غير الأسود وغير الأبيض أن يكون أحمر مثلا، أو رماديا أو عديم اللون. بينما المتناقضان فلا يمكن ثبوتهما كلاهما في شيء واحد، ولا يمكن انتفاءهما كلاهما في ذلك الشيء، لأن المقصود بالتناقض هو وجود وعدم شيء ما.

أما تطبيق تعريف الضدَّين على الإيمان بكل من الله والطاغوت، فلكون الإيمان بالله، إذا ما آمن الإنسان، وأعني حق الإيمان به، بحسب عقيدتي، دون دعوى احتكار الحقيقة، أو بلوغ غايتها القصوى، والإيمان بالطاغوت لا يجتمعان، ولكنهما يمكن أن يرتفعا، أي أن ينتفيا كلاهما، بحيث إننا نتصور أن هناك من الأشخاص ممن لا يؤمنون لا بالله ولا بالطاغوت. وهذا أحد موارد نقض القرآن لنفسه، وذلك إذا ما ثبت لنا، ولو من قبيل أن فرض المحال ليس بمحال، بالنسبة لمن يعتبر هذا الثبوت المفترض مني محالا، أن الدين عموما، والإسلام خصوصا، يمثل واحدا من أبرز مصاديق الطاغوت، كان لزاما أن يختار الإنسان بين ثلاثة خيارات، إما أن يؤمن بالله ويكفر بالدين، كونه طاغوتا، وإما أن يؤمن بالدين ويكفر بالله، وهذا محال، لأن الدين من غير الله يكون فاقدا لموضوعه، ويكون بالتالي منتفيا بنفسه، حسب قاعدة انتفاء المحمول بانتفاء موضوعه، وأما الخيار الثالث هو أن يكفر بكلاهما، والأصح أن نقول ألا يؤمن بأي منهما، أي بالله وبالطاغوت، كما هو الحال مع الملحد (اللاإلهي) الذي لا يدين بأيديولوجية طاغوتية.

فجميل قول القرآن «لا إِكراهَ فِي الدّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ؛ فَمَن يَّكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقدَ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى».

فهذه يمكن أن تفهم أنها دعوة من الإسلام بالكفر به كدين، ودعوة من القرآن بالكفر به ككتاب موحى من الله، ودعوة من نبي الإسلام، بوصفه المؤسس للإسلام والداعي له، والمؤلف للقرآن أو المبلغ له، بنفي الإيمان به كنبي مرسل، من خلال أن الآية تدعو للإيمان بالله، ولكنها تقرر في نفس الوقت أن هذا الإيمان لا يتحقق حق تحققه إلا بالكفر بكل ما ذكر، عبر الكفر بالطاغوت.

لأن الطاغوت كمفهوم ذهني، وعلى ضوء المعنى القرآني له، يتحقق خارج الذهن أي في الواقع كمصاديق في الإسلام نفسه، وما يتعلق به. وهذا يتضح لنا عندما نفهم معنى الطاغوت. الطاغوت مصدر على وزن (فَعَلوت)، ومثله لاهوت، كهنوت، ناسوت، تابوت، …، وهو مشتق من الفعل (طغى، يطغى). ومعناه اللغوي هو تعدي الشيء لحده المناسب لطبيعته، ويشتمل على معنى الاستبداد، فمنه اشتق (الطاغية)، و(الطغيان)، وقرآنيا هو كل ما يتجاوز حده، ويكون نِدّا لله. والندية لله، وحسب ما يستخدم المصطلح قرآنيا، هو كل ما يُعبَد من دون الله، ولا يقتصر هذا على العبادة بمعناها الأخص، بل يتعداه إلى العبادة بالمعنى الأعم، بمعنى كل ما وكل من يطاع في مقابل طاعة الله. فإذا ما ثبت لدينا أن أحكام الإسلام ليست أحكام الله، فتكون طاعة الدين هنا كمخلوق بشري، بمثابة طاعة للمخلوق في معصية الخالق، أو لا أقل فيما لا طاعة فيه للخالق، وإن كانت بعض أحكام الدين، مما يقرها الله عبر إقرار العقل الأخلاقي لها، ولكن هذا يشبه كون بعض القوانين المعمول بها في الدول الديكتاتورية، هي معمول بها أيضا في الدول الديمقراطية، دون أن يجعل تلك الدول ديمقراطية، لأن فيها من القوانين الجائرة والمنتهكة لحقوق الإنسان وللحريات العامة، مما يكون مرفوضا ومدانا في ظل الدولة الديمقراطية. وكما لا يمكن بناء نظام ديمقراطي في ظل الدولة الديكتاتورية، فإنه لا يمكن للإيمان بالله أن يتعايش مع الإيمان بالطاغوت، وبالتالي مع الإيمان بالدين، إذا ما ثبت أن الدين تحول إلى مصداق للطاغوت، وللصدّ عن سبيل الله وتحول إلى ندّ يُعبَد من دون الله.

أحدث المقالات

أحدث المقالات