لم يكن صدام حسين يوماً دكتاتوراً صنعته أميركا كما يحلو للبعض أن يدّعيه باستمرار حتّى سئمنا تكراره خاصّة تلك الأصوات الّتي أدمنت الإطلالة علينا من مواقع ووسائل إعلام مقروءة ومسموعة تحظى بإقبال جماهيري كبير .. والصحيح أنّ صدّام لم يكن بحاجة لظهر يستند عليه ليمارس دكتاتوريّته لو حسبنا ذلك جيّداً وبحياديّة عندها وأنا على يقين من ذلك سنكتشف بكلّ تأكيد أنّ صدّام مارس دكتاتوريّته وفق قراءة مسبقة صحيحة للفرد العراقي واستيعاب كامل لمزاجه ولطريقة تفكيره وهو نفس ما يحاول السيّد المالكي انتهاجه وإن بشكلٍ مشوّه بسبب طائفيّته المقيتة الملازمة له ولن يستطيع التخلًي عنها طالما بقي ينتظر ظهور “المهدي” .. فلربّما استفادت أميركا من وجود هذا “الدكتاتور” إنّما صنعته فلا , لأنّ تسلسل الأحداث منطقيّاً طيلة 35 عاماً تقول غير ذلك .. قد يكون في مراحل معيّنة هو من حاول التقرّب من أميركا “كرسالته للرئيس الأميركي ريغن” وهي حاولت توظيف ذلك لصالحها خلال فترات معيّنة من الزمن كان أبرزها خطأه الأكبر , بعد خطأه في حرب “تثبيت العكل على رؤوس شيوخ النفط” وتحالفه مع هذه الدول البهيميّة المتخلّفة في حربه الدفاعيّة ضدّ أطماع التوسّع الإيراني ؛ الخطأ القاتل كان في التوقيت الخاطئ لاستعادة الكويت .. وخطأه الّذي فاق كلّ أخطاءه السابقة هو عدم تقديره لحجم الالتفاف الدولي الكبير الّذي من الممكن أن تحشده أميركا ضدّ العراق فيما لو أقدم على ذلك الاندفاع الّذي ضيّع من بين أيدي العراقيين أفضل حقبة حكم وطني عاشها العراقيّون بغضّ لنظر عن المستحقّات الّتي دفعوها من أموالهم ومن دمائهم لأجل ذلك ..مع أنّ صدّام وكأنّه فاتت عن باله حقيقة لا تغيب عن أيّ فرد واعي أو عن سياسي عربي أو “إسلامي” أن الغرب وأميركا بالذات لن ولا .. ولا ولن يسمحا لبلد عربي أو إسلامي أن ينهض نهوضاً حضاريّاً ذاتيّاً إلاّ برضاهما وبشروطهما “وهذا ما يحاوله الغرب مع إيران الآن” وبعكسه فهي تترصّد الفرص لقنص واحدةً منها لتوظيفها بإحكام لهدم أيّة حالة نهوض .. مثل “هذه الأخبار” القادمة للغرب من العراق وهو يسارع الخطى لاجتياز حاجز الدول النامية بتفوّق كانت لا تسرّهم تلك الخطوات بطبيعة الحال بل تشكّل لهم باستمرار صدمات عنيفة وهم يراقبون عمليّة اختراق العراق العلمي لحواجز الاحتكار وأوقعتهم في حالات استنفار ورعب على مستقبل دولهم وفق اعتبارات أخرى غاية في الخطورة على الغرب لا مجال لتعدادها هنا .. حكى لي أحد الأصدقاء من الموظّفين العاملين في سفارة العراق ببرلين “الشرقيّة” قبل أن تتوحّد أنّه ولجنة السفارة بقيادة السفير تابعوا في العام 1978 برنامجاً حواريّاً سياسيّاً عبر التلفاز جرى بين عدّة ممثّلون لدول أوربيّة من على قناة تبثّ من داخل ألمانيا “الغربيّة” اتفقوا في نهاية حوارهم أنّ “الثور الهائج” ويقصدون العراق الناهض بخطوات سريعة , يراد له “ثوراً هائجاً آخراً” ويقصدون الخميني بطائفيّته الهائجة ؛ ليقتل أحدهما الآخر ! ..
لا أريد تبنّي إشاعة الإحباط بين من يتبنّون الدعوة لنهوض العراق وفضح ممارسات تراجع العمليّة العلميّة والتربويّة والّتي يُفترض أن يكون أفقها مفتوح لا مسدود ومحدّد من قبل الغرب كدعواتهم في تحسين ظروف التعليم والصحّة والعدالة مثلاً فهي من أكثر المزعجات الّتي لا يحبّذ الغرب سماعها إطلاقاً خاصّة مع الحالة العراقيّة أو السوريّة كذلك أو المصريّة فيما مضى .. فالغرب الأميركي قد يسمح بنهوض ولكنّه نهوض خاص يصبّ في مصالحه الاقتصاديّة والسياسيّة كتجارب اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبيّة .. لذا فكان الأولى بنا أن ننتظر ظهور دعوات من نمط آخر مبتكر بعد التجربة العراقيّة الّتي حوصرت 35 عاماً لم نجن منها إلاّ حصاداً إعلاميّاً غربيّاً كاذباً جعلوا من مادّة “صدّام” عنصر تخويف أشدّ خطراً من الاشعاعات النوويّة ومن انحرافات عناصر النانو تكنولوجي ! بل وأشدّ خطراً من نار جهنم وأغلط من “مالك” خازن النار ! ينقلها بدون قراءة صحيحة وواعية متفحّصة , وذلك ما أراده الغرب أن يستمرّ ؛ عناصر الغزو الاعلامي الغربي الناطقين بالعربيّة يوصلونها إلى جيل آخر لم يعايش عصر النهوض الذهبي العراقي وتأميم نفطه ولم يدرك إلاّ حقبة حصار العراق ومآسيه تشبّع بها إعلاميّو المعلومة المبتورة وأصبحوا يعكسون سلبيّات حقبة الحصار وكأنها تمثّل لديهم مسيرة 35 عاماً دون أنّ يبحثوا عن أسباب الحصار الحقيقيّة والمؤامرة الطائفيّة الكبرى بحرب الثمان سنوات رغم أنّ كان بالإمكان تفاديها ولتذهب “عكل” مشايخ العمالة والخسّة وادّعاء خدمة الحرمين إلى الجحيم وإلى صقر طالما نستطيع المحافظة على مسيرة النهوض الكبرى بدل أن نتيح للغرب الفرصة “الثالثة” بعد تجربتي مصر ونتيح له في النهاية أن يشبك الغرب يديه “ثالثةً” مرتاحاً يضعهما بارتياح خلف رأسه بينما يمدّد جسده على ساحل بلاج المشهد السياسي العراقي الحالي وهو مطمئنّ يرقب آلته الاعلاميّة كيف تعمل تلقائيّاً بفضل غياب العقل العراقي الناقد وضياعه بين إعلاميّون سطحيّون عراة عن الحقيقة يصرخون بالسباب وبالاتّهام العشوائي من دون تشخيص للعلل وللأسباب الحقيقيّة الّتي أخضعت العراق بخطوات “مبيّتة” حيكت منذ عقود طويلة مع بدايات تأسيس الدولة العراقيّة صدّتها ثورة 14 تمّوز ووجود الرعب السوفييتي وليس في زمن حكم البعث للعراق فقط ..
إنّ ابتعاد المحلّلون الإعلاميّون العراقيّون عن الموضوعيّة في نقد حقبة “حكم البعث الثانية” للعراق وانتهاجهم النهج الإعلامي الغربي الملفّق والّذي لا زالت تردّده الآلة الاعلاميّة العربيّة وتردّده ألسن محلّلوها “الفطاحل” وتردّدها أيضاً قنوات الجهل الحكومي الحاليّة للتشويش على أيّة بادرة حياديّة في التناول ؛ إن استمرّت هذه الحالة التدميريّة الإعلاميّة سيكون تأثيرها أشدّ خطراً على العراق في المدى القريب المنظور لا تقلّ ضرراً على العراق عن التوقيت الخاطئ في عمليّة استعادة الكويت ..
لا يوجد نهوض حقيقي يغيّر واقع العراق في ضلّ ظروف موضوعيّة وواقع دولي اقتصادي شبيه بالعصر الّذي أفرزت وحشيّته ظهور الإسلام “دين الحزب الواحد” إلاّ بحزب واحد آخر يحتاجه العراق كثيراً هذه الأيّام شرط أن يكون هذا الحزب وطنيّاً قبل كلّ شيء ذو أهداف نهضويّة ومتماسك يكون المواطن العراقي فيها فوق جميع الأولويّات يعاقب من يتحدّث أحد من أعضاءه بالطائفيّة أو يسعى فيها ويقصيه عن الحزب , حزباً منظّماً تنظيماً عالياً غير مموّل من أيّة جهة خارجيّة , مثل نزاهة “حزب” محمّد بالضبط , تكون حوادث ماضيّة فرّقت المسلمين وفق رؤياه بمثابة “تلك أمّةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون” , لا حزباً مشتّتاً كحزب الدعوة يشكو أفكاراً ماضويّة طائفيّة ينظر بعين واحدة لأهداف غير واقعيّة مع كامل احترامي لمن انتمى إليه وأعدم بسبب أهدافه الّتي تصبّ في خانة الاسلام السياسي ومنهم أصدقاء لي أعزّاء رحمهم الله انتموا للحزب في فترات المراهقة السياسيّة الدينيّة خاصّة مع حالة بلد نامٍ ونائم مثل العراق , حزب يستلم أمواله من خارج الحدود بحقائب “سامسونايت” مليئة بـ”دفاتر” الدولارات .. وهنا يمكننا أن نسلّط الضوء على ما ردّ به الرئيس الروسي “بوتن” على “ميركل” في زيارته الأخيرة لألمانيا بعدما وجّهت رئيسة الحكومة الألمانيّة “اللوم” لبوتن على حملات المداهمة الّتي قامت بها حكومته لمقار ما تسمّى بـ “منظّمات المجتمع المدني” وإيداعهم السجون ؛ قائلاً لها “أريد منك أن تعلميني بشكل مفصّل من دون مواربة وبالتفصيل عن من هي مصادر التمويل من خارج روسيا الّتي موّلت هذه التجمّعات المدنيّة بهذه الأموال” ! .. وليس بعيداً كثيراً سؤال ملحّ بحاجة لإجابة ملحّة لا شكّ جوابها سيقف في صالح بعض ما فعلته حكومة العراق الوطنيّة من قسوة بحقّ الفئات السياسيّة الّتي هرب غالبيّتها من العراق : كيف وحّد بسمارك ألمانيا ونقلها من فوضى الطائفيّة الدينيّة الّتي قضت في أوج ذروتها على ستّة ملايين ألماني خلال ثلاثين يوماً فقط ونقلها إلى بلد عظيم كان المصدر الحقيقي للعصر الصناعي والثقافي الجديد للعالم بأسره ومنها انطلق عصر “الشيوعيّة” وانطلقت منها جميع أفكار التنوير العالمي الحديث .. فهل وحّد بسمارك وعمل كلّ ذلك بـ “عمليّة سياسيّة” أو بمصالحة أو بديمقراطيّة زائفة .. يعني هل وحّدها “بالعيني وبالأغاتي” أم بالقوّة العسكريّة وبالتضحيات وبالدماء .. ثمّ لماذا نذهب بعيداً .. هل أنّ “محمّداً” وحّد العرب بسورة البقرة وحدها أو بدعاء كُميل مثلاً أو بفتاوى الجاهل العريفي أو بأطلسيّة المتخلّف القرضاوي ؛ أم بالحزب المنظّم الواحد وبالقوّة العسكريّة ( الذاتيّة ) المنضبطة ومن دون تدخّل خارجي ولو بمقدار شعرة من شعرات “البراذون” وبالتضحيات وبالدماء ( تصبح فيها كرامة المسلم هدم الكعبة فيها أهون على الله من سفك دم أيّ مسلم ولو قيد شعرة ) ؛ حتّى قامت ركائز دولة وإمبراطوريّة تولّدت منها دولاً عظيمة وامبراطوريّات عدّة استمرّت لألف وثلاثمائة عاماً ! ..
كلّ ما يجري الآن على الساحة العراقيّة السياسيّة وما يفرزه هذا الجريان من دمار وقرض للعراقي وللعراق معاً سيبقى كذلك .. وهي أصبحت عنصر “تسلية” وقضاء وقت وملهاة يتمتّع بمجرياتها سياسيّو الصدفة يستعرضون أمام عدسات الفضائيّات يوميّاً همساتهم فيما بينهم وقهقهاتم وجلساتهم وآخر أخبارهم وخلافاتهم الّتي تصب في مصلحة استمرار “ونستهم” هذه ..
لا توجد ديمقراطيّة في العالم مثلما لا يوجد إسلام حقيقي تتبنّاه أيّة جهة تدّعي ذلك .. فما نراه من “ديمقراطيّة” في أوروبّا مثلاً تختفي فجأةً عن الساحة ليظهر “حزب اليمين” وحده ليصطف مع أميركا ما أن تشرع هذه الأخيرة بالتحضير لعدوان يستهدف دولة عربيّة ..
الحالة الوحيدة المنقذة لأيّ بلد عربي من رذيلة التبعيّة والانكسار والقرار المصادر هو تنظيم الحزب الوطني الواحد .. والعراق لا يقيه من الخراب والدمار إلا دكتاتور على طريقة صدّام لا دكتاتور على طريقة المالكي أو مرسي أو الغنّوشي أو هيلاسي لاسي قرضاي أو الحسن السادس أو خادم الحرمين .. صحيح سيضحّي العراقيّون من جديد دماءً نازفة وأموال “مثلما صارح العراقيّين بذلك يوماً الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر” , ولكنّها تصبّ في عراق نقي من الفساد يعيش فيه المواطن بأمان وخالي من المداهمات “والإعدامات الغير مستوفية الشروط” .. كل هذه المتطلّبات وأكثر هي أهون بكثير ممّا يتّجه إليه العراق من ضياع ستكون فيه في نهاية تشظّيه لا سامح الله “أبو صخير” دولة قائمة بذاتها ..
العراق لا يوحدّه إلاّ حالة مثل هذه .. وهذه تحتاج تضحيات ووعي وبنية إنسانيّة وأخلاقيّة راكزة .. هذه هي ضريبة بلد مثل العراق يعجّ بالأعراق وبالطوائف وبتنوّع الأديان تحيطه دول عدّة قذرة لا تخاف الله ولا تعترف به وتضمر ذلك حتّى لا تفوح جيف انتمائها لما وراء البحار ؛ بدل أن نشتم ونلعن من يقوم بمثل هذه المهمّة .. محمّد كانت شروطه قاسية وأمرّ من شروط دكتاتور مثل صدّام , كان يتهرّب من شروط محمّد قبائل كثيرة حتّى انقلبت عليه في نهاية المطاف لولا معركة “القِرَبَة” الّتي أنقذت دولة يثرب من الفناء .. وإذا ما قيل أن الغرب يتمتّع بحياته مستقرّاً فذلك لأّنه يعتاش على مصائبنا وعلى تخلّفنا ولا أباليّتنا وعلى مفارقات إسلام اليوم العجيبة الغريبة تكون “التفلة” فيها ختام مباهج حفل ديني ! ..
لنكن واقعيّون في التحليل أكثر ومنطقيّون أكثر في تناول حقبة حكم نهض فيها العراق حتّى كاد يقف بمصاف الدول الثماني الكبرى في العالم وكاد يتخطّاها لو لم تنعكس الظروف الدوليّة ضدّه ثمّ لنوجّه بعد ذلك ما نشاء من السباب واللوم لصدّام أو لغيره المهم نكون ما نشخّصه عن دراية كافية لا اتّهامات متهافتة وغير واضحة وغير دقيقة تحمل أصحابها وتفضحهم بسوء الاطّلاع وبالجهل لأنّها لا تصدر إلاّ عن أبواق أصحابها يكشفون عن أنفسهم عن ضيق أفقهم وعن تبعيّتهم لجهات بعينها يسعون فقط لحجز مكاناً إعلاميّاً لهم حتّى لو كانت مادّة التقديم للامتحان مادّة مليئة بالنفاق وبالتلفيق وبالكذب وبالجهل وبالمعلومة المبتورة ستأخّر العراق وتسير به إلى الوراء بدل أن يسير إلى الأمام وستمنح السرّاق والفاسدون فرص استمرار النهب والمداهمات العشوائيّة والتزوير ونشر الطائفيّة والفتن وخرافات لا يصدّقها إلاّ مهزوزو الثقة ومغيّب وعي تقيّم أمورهم “تفلة” وتنتشي نفوسهم لضربة قبقاب رُميت قبل ألف عام “ليتحفّى” بعدها العراقيّون يتجهون بدون هدف مع بداية انزلاق العراق “الحافي” لعهود الظلام وانتشار فتن الطائفيّة الّتي فاقت انحراف قيم الدين قبل الإسلام وتجاوزته بمسافات ..