عندما تبدو جليا ان الرغبة في الحياد باتت غير مثيرة للإهتمام في أوساط القرار السياسي سواء على المستوى الدولي أو المحلي ومسألة ” حب لغيرك ماتحب لنفسك ” لم تعد محل أحترام بينهم , بل تواجه في كثير من الأحيان باللامبالاة أو الأزدراء ولا يتم تطبيقها على من تضررمن الضيق الأقتصادي والخنق الأجتماعي وفساد السلطة لعقود من الزمن وهذا ربما بسبب سوء إدارة الحكومة في هذا البلد القريب أو البعيد أو ان السلطة فيها منحلة تتعمد الرد على الفساد بالفساد او بالارهاب لإسكات الشعب , وربما هناك اسباب اخرى خارجة عن إرادة تلك الحكومات فيحرم هذا المتضررمن رفع الضرر عنه لتحسين حياته ومكان معيشته وبناء مستقبله .
عندما يرى المراقب مايجري من ازمات او حراك شعبي هنا وهناك ويتابع خطوات الحكومات يرى ان البعض من هذه الحكومات لا تتفاعل مع الحدث بشكل جدي , ولا تستمع لمطالب ذلك الحراك لكي ترد عليه بما يتناسب مع مبادئ نظامها السياسي والأقتصادي كأن تصدر قرارات مدروسة لتكون فاعلة على المدى البعيد ومعبرة عن ذلك الإستماع وخصائص المطالب .
قد لا تتجلى تداعيات اي حراك بوضوح أمام تلك الحكومات ما يجعلها تتجه الى إصدار قرارات على عجل تعتقد أنها ضرورة قصوى لأحتواء الحراك من ناحية وتصب في مصلحة النظام السياسي والحياة الأجتماعية من ناحية اخرى , ولكن هذا النمط العملي في معالجة الأزمة يعد عملآ خاطيء تمامآ .
فالقرارات المستعجلة وغير المدروسة تتيح مساحة أكبر لمطالب الحراك فضلآ عن الأعتراف بقوته بشكل ضمني مايسمح له أن يغيّر سيناريو المطالب وفقآ لحاجاته حتى تصل أحيانآ الى الأحتكاك مع قوى الأمن التي بدورها تنساق الى استخدام القوة لفرض هيبتها . يعد هذا العمل مغامرة لا توفر للحكومة الاجابة عن هذا الاسلوب القمعي المتولد بشكل مقنع امام الرأي العام الدولي مهما استخدمت من حجج تدافع بها عن حقها في الدفاع عن النفس . فهي لا تستطيع ان تبرر ذلك مهما كانت الوسائل المتبعة ضدها من قبل بعض الافراد بالحراك شديدة ومحرجة .
وعلى الرغم من ذلك نرى مايجري من حراك شعبي في العديد من الدول مثل هونك كونغ وأسبانيا وتشيلي ولبنان والعراق , ان بعض من هذه الحكومات تلجأ الى هذا الخيار او الأسلوب لفض الحراك حتى تصل احيانا الى منح قواتها الأمنية الخاصة الرخصة بأستخدام القوة ليتفاجأ بها المراقبون والهيئات الدولية لتمنحها لقب حكومة قمعية وأستبدادية .
وهنا نتسائل : هل تتوقع حكومة من هذا النوع القمعي والاستبدادي ان يقال عنها انها حكومة ذات بصيرة ورؤية سياسية سديدة لدى الشعب ؟ وهل تتوقع ايضآ ان نتائج خيارها القمعي الذي أتبعته يعطيها الاحترام بعد ذلك وهي لم تعط الحق لذلك الحراك المطالب بالحقوق وفق الدستور ؟
لا يمكن تخيّل اجابة مقنعة لدواعي القمع . والهيئات الدولية والمراقبون يرون الظاهر اكثر من الباطن ويتعاملون مع الحراك بواقعية المطالب ليس إلا ولا يطرأ في بالهم الخيار الذي أتبعته الحكومة في معالجة الأمر , بل الى خيار الأندماج والأصغاء اليه والتفاعل معه كما يفعل البعض من شخوص تلك الدول لتحقيق الرؤية الواضحة وصولآ الى الحل الجذري التام بشرط أن يكون ذلك الشخص مقبولآ بين الجميع ولا يتكلم عنه اثنان همسآ بكلام يرتبط بقضايا فساد . وهنا يتطلب شخصية قيادية ذات لمعان فكري مشهود لها في الاوساط السياسية والشعبية على حد سواء وإن كانت من خارج المنظومة الحاكمة بشرط ان تكلفها الحكومة بشكل رسمي لتلعب ذلك الدور .
يبدو ان هناك صعوبة في فهم حق الحراك السياسي السلمي المطالب بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي تصل احيانآ الى تحقيق الاستقلالية في اتخاذ القرارات السياسية التي تخص السيادة كما هو الحال في هونغ كونغ الذي يطالب باستقلال القضاء عن الصين الشعبية حسب الاتفاق الذي تم بين بريطانيا والصين عند تسليم الاقليم أو تحقيق الإنفصال وتقرير المصير .
إن فض الحراك (= التظاهر ) بالقوة المقترنة بدافع هيمنة السلطة الحاكمة بحجج مختلقة تؤدي الى فعل غاضب مرتد يؤدي الى خلق , إن لم يكن إيقاظ , لشرائح سياسية مختبئة خلف غطاء العملية السياسية نفسها تقوم بتحضير وسائلها الخاصة لخلق ذريعة يقصد من ورائها نقد العملية السياسية وأشخاصها بالإشارة الى أسلوبها القمعي لتحقيق مآربها عند الحاجة .
وهذا امر خطير جدآ , فمن يشتم أخاه أمام الملأ يُشتم عند الحاجة من أقرب المقربين له , ناهيك عمن يخوّن أخاه فإنه يكشف عن مرض في بنية عائلته , ومن يعزل اخاه بوصمة عار في جوهره فإنه لن يكون بمأمن عن وصفه بالوصف نفسه من اقرانه ولو بعد حين إذ قيادة الإنسان الجريح كقيادة الأسد السجين كلاهما يرغبان بالسائس الاليف للسير خلفه بخطوات هادئة .
إن أفضل صورة للتعامل مع الحراك الشعبي في بلد كالعراق , مثلآ , ذو التعدد العرقي والسمات الخَلقية المتميزة عن باقي الشعوب في منطقة الشرق الأوسط هي صورة التعاطف والتعامل السلس بعيدآ عن المراوغة والاستفزاز والأزدواجية واللامبالاة والترهيب والتخويف , وذلك بالاعتماد على رجاحة العقل في ايجاد الحلول الواقعية الناجعة التي تؤدي الى إسعاده .
لأن الإنسان العراقي الحالي كنتيجة لوطأة الفساد والظلم الطويل الذي عاناه , يحمل أعلى درجات الكبرياء ومهيأ نفسيآ للغضب والعنف لأسباب تتعلق بتأريخه الذي قضاه منذ الحكم الأموي حتى يومنا هذا سجينآ بالفقر والاحباط والتهميش والازدراء والتشرد والتخلف من قبل الحكومات التي هيمنت على بلاده حتى ولّدت فيه شخصيات متوالية مختلفة عبر قرون من الزمان الى ان وصلت شخصيته الى سماتها الحالية المطالبة بتغيير اسس العملية السياسية وحياته الأجتماعية التي يمكن رؤيتها الآن بوضوح . لذا ينبغي من اصحاب القرار ان يدركوا ذلك لتجنب الدخول في مسلسل الغضب المؤدي الى المواجهة مع قوى الامن أوالاحتكام الى السلاح .
والعراقي يستحق الاحترام وأن يكون موضع اهتمام ويعامل بهدوء وطيبة وصدق من قبل الجميع ويقابل برعاية معنوية كريمة من اي طرف كان ليُجرّد من انماط الغضب والهياج والسمات الاخرى التي اكتسبها بفعل تلك الحقب المظلمة لا ان يقابل بالازدراء والخطف والاغتيال واستهداف حقوقه بالرصاص بشكل سافر وتعريضه الى وسائل القمع المختلفة من قبل طبقة سياسية حاكمة أنشغلت باللهو عن الإصلاح بالفساد حقبة صنعت فيها جيل الحراك ( = التظاهر ) الحالي بكل مايملك من سلبيات وإيجابيات .