تحاول “تركيا” منذ الستينيات التعلّق بـ”الجماعة الأوروبية” إثر توقيعها إتفاقية إرتباط معها في (أيلول 1963)، ونراها تلهث للإنضمام إلى”الإتحاد الأوروبي” منذ الثمانينيات على الرغم من عدم إعارته إهتماماً حيالها، فارضاً عليها شروطاً بدت في البعض منها مُذلّة، يصاحبها شبه صمت أمريكي تظهر معه الولايات المتحدة وكأنها ليست راغبة في تحقيق هذا التوجّه التركي.
وقد يأتي في صدارة المعضلات التي تجابه هذه الرغبة التركية، أن شعب “جمهورية تركيا” في غالبيته العظمى وأقلياته الكردية والعربية وسواهما، لهو شعب مسلم بأكثرية مطلقة، وأنه على الرغم من إقتحام الثقافة الغربية لمجتمعات مدنه الكبرى، فإن أعراف هذا الدين متجذرة في أعماقهم، وإن كانوا خاضعين لواقع التحالف مع الـ(ناتو) ومتقبّلين لتمركز قواعده تحقيقاً لأمن دولتهم، فإن الغالبية العظمى منهم ربما لا بتقبّلون وحدة عضوية مع أناس غير مسلمين، ولا سيما أن الأتراك ما زالوا ينظرون حتى نحو مواطنيهم من غير المسلمين -المسيحيين منهم واليهود- بإستعلاء وعدم رضىً، إذْ يُضاف إلى ما أسلفناه كون “الوحدة الأوروبية” توجهاً مسيحياً أطلقها “بابا الفاتيكان” عام (1972) بغية توحيد “أوروبا” المسيحية… ولما كانت نسبة الأتراك المسلمين (97%) من عموم الشعب، فإنهم حين يسمعون من زعماء أوروبا تصريحات مهينة لا يتقبّلونها… وعلى عكس ذلك فإن الغالبية العظمى من الأوروبيين لا تستهضم أن يحلّ بين ظهرانيهم (ثمانين مليون) مسلم وسط “إتحاد” يستند على أسس مسيحية… ومن الناحية الجغرافية يتساءل البعض من الزعماء الأوروبيين بإزدراء عن حقيقة كون “تركيا” جزءاً من قارتهم… وإمعاناً في الإذلال فهم يملون رغباتهم على شكل (أوامر) لتحسين أوضاع الإنسان في “تركيا” ومنح أكرادها حقوقاً متتابعة، وضرورات إجراء تعديلات على الدستور التركي الأساس… ولكن ورغم تنفيذ جميع تلك (الأوامر)، فما زال هذا الإتحاد يماطل حتى في مجرد تحديد موعد للعودة إلى مفاوضات الإنضمام… ومن ناحية التحالف التركي مع “واشنطن” وإغداقها الضخم، والذي لولاه لما إقتدرت “تركيا” مواجهة “الإتحاد السوفييتي” و”حلف وارشو”، فإن “واشنطن” تبدو على غير رضىً عن إنضمام “آنقرة” إلى هذا الإتحاد، والذي قد يضعف عرى التحالف المضمون لتحقيق التوازنات في منطقة ظلت ساخنة لغاية يومنا هذا… لذلك فإن “آنقرة” ربما تقدّر بأن المجناة من إنضمامها للإتحاد الأوروبي لا يمكن أن تضاهي تمسّكها المضمون مع “واشنطن”، كما كان حالها منذ ما يقارب (70) سنة، وفي وقت ليس بإمكان الإتحاد الأوروبي أن يحققها لتركيا.
ويضاف إلى كل ذلك النظرة الأمريكية الخاصة حيال هذا الإتحاد السائر بخطىً بطيئة ولكنها متوازنة، والتي تراه أنه قد يرقى في قادم الأعوام إلى كتلة سياسية وإقتصادية تنافس
مكانتها القطبية، وإحتمالات تسبّبه في تـهرئة حلف (N.A.T.O)، والذي ظلت تتزعمه عسكرياً بلا منازع منذ تأسيسه عام(1949) معتبرة إياه خطاً متقدماً للدفاع عن وطنها الأم.
وهناك المعضلة القبرصية وتلك الدولة التركية اليتيمة في الشطر الشمالي للجزيرة، وقد إستثمرها الأوروبيون المناوئون للإنضمام ليواصلوا ضغوطهم على “تركيا” لإنشاء “دولة قبرصية موحدة”، في حين لم يأبهوا لمطالب تركية لحماية الأقلية التركية، وبالأخص بعد قبول “الإتحاد الأوروبي” لـ”نيقوسيا” -على علاتها- عضواً أصيلاً لديه منذ عام (2004)، مضيفاً إليها “اليونان” رغم مشكلاتها المشهودة وعلى عكس ما يطرحه الإتحاد نفسه من سلبيات أزاء “تركيا”، ولذلك فإن “آثينا” ستخلق مطبّات تحول دون ضمّ الجمهورية التركية إلى الصف الأوروبي… ويضاف لكل ذلك مضائـق “تركيا” الإستراتيجية ذات الأهمية العالمية والإقليمية القصوى، حيث في يومنا هذا نرى أن “آنقرة” لو إنضمت -بقدرة قادر- إلى “الإتحاد الأوروبي” فإن ذلك سيجعل تلك المضائق ذات إنتماء أوروبي بالضرورة، وبذلك لا تخسر “تركيا” رسوم الترانسيت بعشرات المليارات فحسب، بل أنها ربما تـُحرَم من تحكمها الإستراتيجي لأعظم الممرات البحرية في العالم.
لما أوردناه نرى أن إحتمالات إنضمام “تركيا” إلى “الإتحاد الأوروبي” ضئيل للغاية ويشوبها العديد من المعضلات والمفارقات، ولا يفيدها ذلك في العديد من المناحي… وأن جميع المفاوضات الباهتة التي تنعقد بين الطرفين كل عدة أعوام لم تـَجنِ منها الدولة التركية فائدة تـُذكَر، بل رضخت لشروطه وعدّلت بنوداً من الدستور وأصدرت قوانين عديدة لم يخطر على أذهان زعمائها يوماً ما أن يُقبِلوا عليها، وقد تسبّبت هذه الخطوات في إنبثاق مشكلات داخلية وأمنية أحرجت حكوماتها المتعاقبة، وكل ذلك بغية كسب رضا الأوروبيين ولكن من دون أن يكترثوا لمطالب “تركيا” التي إستشعرت بالمهانة والمذلة.