23 ديسمبر، 2024 7:34 م

اللفياثان : التأويل الدموي للتاريخ – 1

اللفياثان : التأويل الدموي للتاريخ – 1

” المعرفة البشرية والقدرة البشرية صنوان , لأن الجهل بالعلة يمنع المعلول.ذلك ان الطبيعة لايمكن قهرها الا بإطاعتها”
بيكون ” الارغانون الجديد”
في كتاب اللفياثان الصادر سنة 1651 كانت السايكلوجيا  وفهم الدوافع الفجة التي تحرك الانسان نقطة البدء التي انطلق منها توماس هوبز لتشييد العلم السياسي الذي يأخذ على عاتقه وضع حد للميول التدميرية التي تمور بها الطبيعة البشرية ما يمهد للأستقرار وإرساء السلم الاهلي ويفتح الطريق للانتقال بالانسان الى الطور الذي يتيح له الحفاظ على الحياة على الارض ودخول الى المرحلة المدنية وتشيد الحضارة. وفي تحليله لأهواء الانسان فأن هوبز يتبنى مقولة سقراط “اعرف نفسك” بعد ان يجعلها “اعرف ذاتك” مستهدفا التأكيد على التشابه الذي يصطبغ به سلوك وافكار الانسان مع الاهواء والاندفاعات التي تحرك اي انسان اخر. ” ان من ينظر الى داخل نفسه ويتأمل ما يفعله حين يفكر وحين يكًون رأياً ويستدل عقليا ويأمل ويخاف سوف يقرأ ويعرف ما قد تكون عليه افكار الاخرين واهوائهم في مناسبات متشابهة ” ص22, فهو يتكلم عن تشابه رغبات وآمال ومخاوف البشر الا انه يحذر بأن اكتشاف افعال البشر وخططهم لا بد ان يتم عبر مقارنتها مع خططنا وكذلك عبر تمييز كل الظروف التي تجعلها مختلفة لأن اي محاولة اخرى ستكون كمن يريد “حل الرموز بلا مفاتيح ”  وهذا ما سيقود الى خطأ في الفهم ناجم عن “الثقة المفرطة أو الارتياب المطلق”.
وفي التصور الهوبزي ان اهواء الانسان وميوله التدميرية ورغباته الضارية في تحصيل القوة هي التي تفسر لغز الانسان ,وثنائيات الحب والكراهية , الرغبة الالم هي العناصر الاولية التي تحكمه وفهمها هو المدخل لأحتواء ميوله التدميرية
“فالبشر يحبون ما يرغبون به ويكرهون الاشياء التي يتجنبونها.فالرغبة والحب هما شيء واحد . وفي الرغبة ندل على غياب الموضوع وبالحب ندل على وجوده . وبالتجنب نعني غياب الموضوع وبالكراهية نعني حضوره ” اللفياثان ص 61
وطبقا للمادية الميكانيكية التي يتبناها هوبز فأن حركة الاجسام تنتقل عبر الحواس الى النظام العصبي وتظهر كأحساسات تزيد من حيوية الانسان او تعرقلها والمظهر الاشد بدائية لهذه الاحاسيس هو الرغبة أو النفور , الاول سعي وراء ما يلائم العمليات الحيوية والثاني ارتداد عما يمكن ان يسفر عن الاثر المضاد . فالحركات المتأتية من الطبيعة هي التي تولد الاساس الذي يتسبب باللذة والالم . فعندما ينتقل فعل الموضوع على الاجزاء المختلفة لأعضاء الحس الانساني تكون الاستجابة على هيئة حركة ترغب بالموضوع او تتجنبه  ومظهر هذه الحركة أو الاحساس بها هو  اللذة أو الالم  قياسا على ما يترتب عليها من سرورا او تنغيصا ناجم عن تسارع حركة الدم او عرقلته وينتهي هوبز الى اعتبارذلك مظهرا للخير أو الاحساس به ,والالم او الانزعاج هو مظهر للشر, وكل ذلك قياسا على ما تتركه هذه الانفعالات من تعزيز للحركة الحيوية أو تعطيلا لها ,. الانسان اذن محكوم بثنائية التنبيه والاستجابة , الاولى تسسبب في الحب والرغبة والرضى وإرادة البقاء والثانية يترتب عليها الالم والنفور والخوف  , الاندفاع نحو الاشياء اوالاحجام  موقوف على ما تتركه من اثر في النفس  ,وانطلاقا من هذه المقاربة قدم هوبز وصفا شاملا لأنفعالات الانسان المختلفة  فالشهية مع الاعتقاد ببلوغها تسمى أملا وهي مع تعذر ذلك تسمى يأسا, والتجنب المصحوب بقناعة الاذى الذي يمكن ان يُلحق بنا يسمى خوفا لكنه ( التجنب ) مع إمكانية تفادي الاذى يسمى شجاعة , الامل المتواصل هو الثقة بالنفس في حين ان اليأس يؤشر الى فقدان  هذه الثقة , الرغبة بالثروة تسمى جشعا ونقيضها هو الطموح الذي يمثل رغبة في التمييز ونيل الاسبقية …الى اخره من  الانفعالات التي يفصلها هوبز في الفصل السادس ص59 وكذلك الفصل 11 ص 104 من اللفياثان
ثنائية اللذة والالم هذه قادت هوبز الى الاستنتاج بأن ارادة البقاء  وتحقيق السعادة هي المبدأ المفسر للسلوك البشري  ,والمحافظة على البقاء تسدعي بالضرورة الرغبة اللانهائية في الحصول على القوة هذه القوة هي وحدها الكفيلة بتهدئة قلق الانسان ومنحه الطمأنينة في سعية للحصول على السعادة غير ان هوبز يحذر من ان السعادة لاتعني راحة البال كما تصورها الفلاسفة الاغريق فهو ينفي وجود مثل هذه الغاية  ويفهم السعادة على انها استسلام دائم لمتحول الرغبة حيث يكون تحقيق رغبة ما هو طريقا مستمرا لرغبة اخرى فهدف الانسان لايقتصر على تحقيق الحياة السعيدة بل يستهدف ضمانها ايضا كتب يقول  ( فأني أضع في المرتبة الاولى , كميل عام لدى الجنس البشري , الرغبة الدائمة التي لا تهدأ باقتناء السلطة بعد السلطة وهي لا تنتهي الا بالموت  ص 106). وهذا الميل يفهم بوصفه رغبة بالامن تستبطن حاجة لانهائية الى القوة بمعناها المادي والرمزي معا فالانسان  لايكتفي بالثروة والسلطة وميوله نحو تحصيل الشرف والمجد والحضوة لاتقل ضراوة عن رغبته بالسلطة المادية , وهذا الفهم للسكلوجية البشرية يجعل من الانسان كائنا انانيا ميالا للتنافس والحرب والعدوان , والتزاحم الذي يسود الحياة يجعل كل انسان عدوا مفترضا للأخر “فألانسان ذئب الانسان”  ولا مكان للسلام والطمأنينة في عالم تسوده المنافسة الضارية  ( لأن سبيل المنافس الى تحقيق رغبته هو قتل الاخر أو إخضاعه أو هزيمته وطرده ص 106)
وتأسيسا على ذلك تكون الحرب هي الخيار الوحيد الذي يبقى امام الانسان في مجتمع تغييب فيه السلطة  حرب محركها تحقيق المكاسب  وتفادي الموت العنيف, ويخوضها الجميع ضد الجميع .واذا كان الانسان كائن سياسي طبقا لفرضية ارسطو فهو عند هوبز كائن اناني غير عادل يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو عدو للآخرين ويرغب في  استعبادهم ولما كانت الطبيعة جعلت من البشر متساوين في ملكات الفكر والجسد ما يستدعي بالضرورة مساواة في الامل بتحقيق الغايات  لذا فأن انعدام الثقة تشكل الملمح الابرز لحياة الناس في مرحلة ماقبل المجتمع  فإذا ( رغب شخصان في شيء واحد لا يقدران على الاستمتاع به كلاهما فأنهما يصبحان عدوَين يحاول كل منهما تدمير الاخر اواخضاعه ص132) ,  ذلك ان الطبيعة وفرت كل اسباب الصراع ( المنافسة , انعدام الثقة , المجد ) الاول يدفع البشر لخوض الحرب من اجل تحقيق المكاسب والثاني لضمان الامن اما المجد فهو العنصر المتعلق بالحضورالاجتماعي وهو محفز هام للحرب لما يترتب عليه من رأسمال رمزي يوسع من إمكانات الهيمنة التي يتوق لها الانسان .  وفي السبب الاول اي المنافسة( يستخدم الناس العنف ليجعلوا من أنفسهم سادة على الاخرين وانعدام الثقة  ليدافعوا عن أنفسهم وفي الثالث من اجل امور تافهة مثل كلمة أو ابتسامة أو اختلاف في الراي أو اي علامة أخرى على الحط من قيمتهم ص 134 ) . وهذه العوامل هي المحرك  للانسان تحفزه الى فرض هيمنته على الاخرين للقضاء على كل قوة تشكل تهديدا له الامر الذي يدفع الاخرين للسعي الى زيادة قوتهم عن طريق الغزو المضاد  فأذا ( زرع احدهم أو حصد أو بنى أو اقتنى مكانا ملائما فأنه من المتوقع أن يأتي آخرون, وهم مصممون وموحدون قواهم لأخذ ممتلكاته وحرمانه ليس ثمار عمله فقط بل ايضا حياته أوحريته. ويكون الغازي أيضا مهددا بالطريقة نفسها من قبل آخر ص 133) وهنا يجب التنبيه الى ان هوبز لا يقصد بالحرب المعركة فقط بل هي تستغرق كل الزمن الذي تكون إرادة التنازع معلومة لإطرافها ومايترتب على ذلك من بقاء الجميع منهمكين في التحضير للحرب التي قد تندلع في اي لحظة ( فطبيعة الحرب لا تقوم علىى القتال الفعلي , بل على الاستعداد المعلوم لهذا القتال , طالما لا يوجد ما يؤكد العكس ص 134 ) وبالتالي فأن كل مايترتب على الحرب ينتج ايضا عن الزمن الذي يعيش فيه الناس دون امان ففي الحالين تبقى حالة العداء قائمة فيما بينهم .
حالة الحرب المعممة التي يصفها هوبس في اللفياثان وإن كانت افتراض نظري لا وجود تاريخي له أراد منه التأسيس للدولة التي تفرض السلام فأننا يمكن لنا ان نلحظ صورها القوية في البلدان التي ينهار فيها حكم القانون مثلما نشهده في العراق وسوريا اليوم حيث يتفكك المجتمع وتنهار فرص بناء الحياة وما يصاحب ذلك من البؤس والخراب الروحي  الذي يعاني منه الانسان بسبب الخوف الدائم من الموت فألسلطة هي الضامن للأمن وقوة القانون هي الشرط الضروري للحيلولة دون الفوضى وعودة الناس للحياة وفق اشتراطات حالة الطبيعة وسوف نفصَل في الحلقة الثانية من هذا المقال الاسس النظرية والاخلاقية التي يحددها هوبز لبناء الدول والشروط التي تعمل بموجبها السلطة لتكون ممثلة للجميع بما يمنع التعسف الذي قد يتعرض له المواطن

[email protected]