18 ديسمبر، 2024 6:42 م

تسبب تفكك دولة العراق ونظامه السياسي المهلهل وطبقته السياسية الفاسدة بهزيمة مذلة للقوات المسلحة العراقية عام2014 عندما اجتاحت جحافل التكفيريين أربع محافظات وشارفت على أبواب بغداد مما فتح الباب لمرجعية دينية لا تتمتع بالجنسية العراقية أن تحل محل الدولة فتصدر فتوى بتشكيل مجاميع مسلحة من المتطوعين لصد الطاعون الظلامي بمساندة ممن بقي متماسكاً من تشكيلات القوات المسلحة لتبدأ ملحمة طاحنة أسفرت عن تطهير تلك المحافظات ودفع جحافل التكفيريين إلى عمق الصحراء و قمم الجبال الوعرة ، وقد أثارت هذه الصفحة الكئيبة من تاريخ العراق سؤالين يدور أولهما عن ماهية هذا الوطن الذي يتطلب الدفاع عن مصيره فتوى دينية ، ويتعلق السؤال الثاني بتقارير تتمتع بمصداقية أن رئيس الوزراء في تلك الأيام الكالحة – نوري المالكي – كان متواطئاً بالإهمال المتعمّد أو بإصرار مسبق على تسهيل المشروع التكفيري الظلامي وتلك قصة ليس هنا مكان تناولها .
والشاهد أن هذا الحشد الشعبي المسلح الذي خلقته رحم طائفية مانحة إياه القداسة ، قد أنجز بالتعاون مع القوات المسلحة مهمته و لم يعد من مبرر لاستمرار تعبئته خاصة وأن القوات المسلحة قد أعيد ترميمها بمعونة من الجيش الأميركي الذي استقدمه رئيس الوزراء البديل حيدر العبادي ؛ لكن في ظل دولة فاشلة و قيادة هزيلة لا تؤتمن على مزرعة دجاج فقد انجرفت الأحداث نحو مسارات خطرة هددت ولا تزال تهدد الكيان العراقي بوحدته الوطنية وهي آخر ما بقي شبه معافى في عراق ما بعد 2003 ، إذ فرّخت عباءة الحشد عشرات الفصائل المسلحة راحت تنتشر مثل نبات الفطر في كل بقعة عراقية ، وكذلك أصبح الحشد الشعبي حشوداً بلا شعبية تتنازعها ولاءات شتى ولا يربطها بالقوات المسلحة العراقية إلا مخصصاتها المالية المتحصلة من الميزانية العسكرية للدولة ، وبرغم ما يقال عن أن فالح الفياض هو رئيس هيئة الحشد الشعبي إلا أن الحقيقة الملموسة تقول أن الإيرانيين هم القادة الحقيقيون للحشد ، كذلك خرج من مظلة الحشد فصيل السرايا الذي يقوده مقتدى الصدر ليلقي بظله الثقيل على سامراء دون مهمة واضحة اللهم إلا ابتزاز و ترويع أهل المدينة التي احتضنت مراقد أئمة آل البيت بالإحترام اللائق بهم منذ قرون خلت ، و من عباءة مقتدى أيضاً خرجت عصائب أهل الحق التي يقودها قيس الخزعلي ، ولم تكتف إيران بذلك بل استخرجت من الحشد مجاميع مكلفة بمهام إيرانية بحتة حملت أسماء حزب الله العراق وكتائب الإمام علي وكتائب سيد الشهداء ، وبدورها أكملت حوزة النجف وكربلاء المهزلة فاجتذبت دون مبرر منطقي مجاميع تأتمر بها حصراً وقد حملت عناوين حشد ” العتبات ” و” كتائب الإمام العباس ” ولقد كان غريباً أن تنشيء الحوزة كتائب بهذا الإسم فالعباس بن الإمام علي ليس إماماً ذلك أن الأئمة بحسب عقيدة تلك الحوزة هم حصراً من أبناء السيدة فاطمة بنت رسول الله ؛ و بالمحصلة فقد كان الغنم لإيران و الغرم على العراق إذ انتزعت هيمنة الحرس الثوري الإيراني على الحشد الشعبي وجهه الوطني وحولت معظم فصائله إلى أداة تخوض بها إيران صراعاتها الدولية والإقليمية ، لكن الأسوأ من ذلك كله أنه بحقيقة ولادة الحشد من رحم طائفية فقد تحول إلى لغم يهدد مصير العراق شعباً وكياناً فهو دولة داخل الدولة بل له اليد العليا في الدولة ثم أنه تمترس في المحافظات المحررة والتي ينتمي أهلها لطائفة السنّة ، وبحقيقة أن الإحتلال الأميركي – الإيراني للعراق قد دأب منذ سنة 2003 على غسل دماغ أجياله الصاعدة عبر مسح هويتهم العربية ومسخ القيم الوطنية لديهم لحساب القيم والغرائز الطائفية ، وللأسف بات مفهوم المواطنة غريباً في البلد مما حوّل مجاميع الحشد إلى ما يشبه عصابات المافيا لم تترك إثماً إلا وارتكبته من لصوصية إلى ابتزاز إلى تجارة المخدرات إلى نهب ممتلكات العراقي المختلف طائفياً عنهم بل وتهجيره ومنعه من العودة إلى مدينته ، إلى محاولات تفجير الفتنة الطائفية وذلك كله بغطاء دولة الوليّ الفقيه المعلنة في إيران أو المستترة في العراق . ولا يسع المتابع المهتم هنا إلا أن يسترجع نقطة البداية حيث جرى عمداً و بتخطيط مسبق فرز فصائل الحشد طائفياً ، فالكتلة الكبرى فيه من الشيعة يقف إلى جانبهم فصيل مسيحي يحمل اسم الحشد الكلداني بقيادة مسيحية ، ثم فصيل سنّي يحمل اسم الحشد العشائري بقيادة سنّية ، و الأمر ذاته ينسحب على فصيل صابئي وكأن هناك إصرار على عدم إعطاء فرصة لمظهر من مظاهر الوحدة الوطنية العراقية أن يبرز على السطح .
و تدور اليوم في العراق وسوريا معارك بين فصائل من الحشد و الجيش الأميركي ، وإذا كان صحيحاً أن الولايات المتحدة واسرائيل هما العدو فإنه من الصحيح أيضاً أن إيران ليست هي الصديق ، ويبدو أن تلك الفصائل قاصرة عن إدراك أن ما تعتبره قتال إيراني – أميركي ليس في حقيقته إلا رسائل بالنار تتبادلها كلتا الدولتين كمقدمة للتفاهم ولتلاقي المصالح بينهما في آخر المطاف ، وأن هذه الفصائل الحاملة لرسائل النار الإيرانية ليست سوى ساعي بريد !
تقول وقائع التاريخ أنه عشية الحشد العربي لتحرير فلسطين عام 1948 طلب ملك عربي من شيخ ضرير أن يلقي كلمة حماسية في فيلق عربي كان يستعد للتوجه إلى ميدان الحرب ، فوقف الشيخ صامتاً لدقائق ثم هتف : أيها الجيش ليتك كنت لنا ؛ وقد تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع العرض العسكري للحشد الشعبي قبل أيام و هييء لي أن الضمير الوطني العراقي قد أطل على ساحة العرض هاتفاً : أيها الحشد ليتك كنت لنا !!