18 ديسمبر، 2024 6:20 م

اللغز مكمون في الكنز أسر حدّون المدفون

اللغز مكمون في الكنز أسر حدّون المدفون

لا شك ان العراق قد خسر أعداد كبيرة وثمينة من كنوزه الاثرية منذ الاحتلال الامريكي في عام 2003 ولحد الان , حيث تعرضت معظم المتاحف والمواقع الاثرية العراقية لعمليات تهريب وتخريب واسعة وممنهجة تناوب عليها تنظيم داعش الارهابي وعدد كبير من المافيات العالمية المنظمة والتي تقف خلفها دول وشخصيات سياسية عراقية واجنبية معروفة . رغم ان العراق نجح في استرداد كميات لا بئس بها من اثاره المهربة إلا انها لا تشكل سوى نسبة بسيطة مما خسره, والمئساة الاعظم اننا لا نستطيع جرد واحصاء القطع التي لا تزال مهربة لأن العديد منها تمسرقته من المواقع الاثارية وبالتالي هي غير مسجلة في مؤسسات الدولة المعنية بالتراث والاثار. كما ان الحكومات التي تعاقبت على العراق بعد السقوط لم تولي اهمية لموضوع متابعة الاثار المسروقة ومحاولة استردادها, بل انها لم تسعى لحمالية المتاحف والمواقع الاثرية وحتى وزارة السياحة والاثار لم تبذل اي جهود تذكر تنشيط وتطوير عمليات التنقيب او دعم الكفاءات العلمية الوطنية من علماء وباحثين وطلاب والاستعانة بهم لتسجل منجز يحسب للوزارة اولا وللحكومة ثانيا إن نظرنا للموضوع بمنظور المصالح الشخصية والفئوية الضيقة التي يعتمدها ساسة العراق الجديد.
رغم خسارتنا لجزء كبير من إرثنا الحضاري إلا ان فرصة تعويضها لا تزال سانحة , فالاثار التي لا تزال مطمورة تحت الأرض لا تقل قيمة واهمية مما خسرناه خصوصا وأن التنقيب في العراق منذ النصف الاول من القرن الثامن عشر ولحد الان كان فقيرا وبدائيا وتم على فتراة زمنية متباعدة لذا هي لم يشمل سوى مناطق جغرافية محدودة مقارنة بمساحة و تاريخ تلك الامبراطوريات العظيمة التي حكمت بلاد النهرين .

الآثار الآشورية نالت النصيب الأعظم من عمليات التنقيب حيث إستهلتها فرنسا عبر مندوبيها (فیکتور بلاس وباول إمیل بوتا) اللذان كانا قنصلين معتمدين لدى الدولة العثمانية في ولاية نينوى ثم تناوب بعدهم الإنگليز الذين إتستغلوا إنشغال الفرنسيين بثورتهم الشعبية الثالثة عام 1848, ورغم ما حققته البعثات الإنگليزية من إكتشافات مهمة حفزت الفرنسيين للعودة مجددا وبكامل ثقلهم لمواصلة ما شرعوا به, من خلال إرسال بعثة تنقيبية كبيرة رأسها كل من فرينال وجول أوبرت وتبعتهم عدة بعثات عالمية لكن مع ذلك بقت نينوى تحتفظ بالكثير من أسرارها خصوصا وإن أهدف تلك البعثات كان مقتصرا على نهب التحف والكنوز الثمينة وليس لدراسة تاريخ تلك الحضارات في تلك الفترة لذا كان إسلوب التنقيب يتسم في الغالب بالهمجية حسب وصف الباحثة الفرنسية مارغريت روتن الذي ثبتته في كتابها الموسوم ” تأريخ بابل” . الان قد تغيرت الأهداف وحصل تطور كبير في تكونلوجيا التنقيب وبات علم الآثار مفتاح لفهم الكثير من العلوم مثل الفيزياء والفلك والهندسة والأنثروبولوجيا بمخلف فروعها الخ.

آن الأوان لنستأنف عمليات التنقيب بهمة ونشاط وجدية وإحترافية عالية من خلال الاستعانة بالخبارات الاجنبية خصوصا بعدما طهرنا نينوى من دنس الدواعش واعدناها الى ربوع الوطن وأبسط تكريم لهذه المدينة التاريخية المنكوبة يكون بتكريم ملكها الملك الآشوري (أسرحدّون) ونفض غبار الحرب والانقاض من على قصره الذي خرج من جوف الارض ليقول للغزاة حطموا وانهبوا ما شئتم فخيرنا لا ينضب ومجدنا لا يمحى بمعاولكم الثمة الهدامة .
قصة ظهور قصر أسرحدون بحد ذاتها تعد لغزمحير أعاد فتح مواضيع جدلية قديمة حولة حقيقة (الأديان السماوية) وعلاقتها بأساطير بلاد النهرين, فأطلال القصر ظهرت تحت ضريح/مقام النبي يونس الذي فجره الدواعش والذي يفترض إن فترة نبوته كانت بين الاعوام 995 ـ825 ق.م حسب الكتب والروايات الدينية, في حين فترة حكم الملك أسرحدون كانت بين الاعوام 681 – 669 ق.م أي ان عهد النبي يونس سبق عهد الملك الاشوري بحوالي 144 عام. فكيف بني الضريح/المقام فوق القصر ؟ وإن كان هذا ليس ضريح او مقام النبي المذكور إذن لمن يعود هذا المعلم التاريخي وماذا عن باقي الاضرحة والمقامات التي منسوبة لأنبياء وأئمة وقساوسة ورهبان… هل يمكن ان تكون بعضها مجرد مقامات واضرحة وهمية ؟؟ وأين ضريح/مقام النبي يونس الحقيقي ولماذا لم يعثر العلماء على اي أثر له ولغيره من الانبياء والرسل في حين وجدوا شواهد وقبور لملوك أقدم منهم بمئات بل آلاف السنين. الغاية من اثارة هذه الاسئلة ليس للتشكيك او الطعن بالاديان وإنما للبحث بجدية عن حقيقتها ومصدرها وإعادة النظر في تقييم وتصحيح معلوماتنا السابقة .

هذا من الناحية العقائدية لكن هناك نواحي أخرى تدعون لكشف اسرار هذا المعلم التأريخي المهم .. فصاحب القصر يعد شخص استثنائي بكل المقاييس ولعب دور مهم في تأريخ الإمبراطورية الاشورية الحديثة .. فهو نجل الملك سنحاريب فاتح مملكة بابل و يهوذا ولكيش وصيدون ووصل بفتوحاته الى قلب اسيا الوسطى وشمال افريقيا وأقلق عروش الفراعنة في مصر والسودان (مملكة كوش), وحفيد سرجون الثاني الذي إمتدت إمبراطوريته من عيلام الى شمال افريقية وأسيا الوسطى ودول البحر المتوسط بالاضافة الى احكام سيطرته على عموم بلاد النهرين رغم كثرة الانقلابات والتآمرات والتحالفات التي واجهته إلا انه نجح في صدها والقضاء عليها .

أما أسرحدون صاحب القصر فسيرته لا تقل تشويق عن سيرة أبيه وجده فهو ولي العهد الذي تصدى بكل شجاعة وإقدام للإنقلاب العائلي قاده شقيقه آراد مبكات والذي أودى بحياة سنحاريب, ثم نصب نفسه ملكا على عرش آشور . ورغم الحروب الكثيرة التي قادها وتوسيعه لمساحة الدولة الآشورية من خلال إستيلائه على ممالك وولايات جديدة مثل دول بحر قزوين وأرمينيا وإيران والقفقاز وبعض أراضي سيناء الفرعونية بالإضافة الى سيطرته على عرب الصحراء في شبه الجزيرة العربية, إلا إنه كان يميل للدبلوماسية والتهدءة ولم يبادر بالاعتداء إلا إذا واجه تمرد او شعر بتهديد من خصومه .. حيث أبدى خطوات إيجابية تجاه العرب والبابليين الذين لقوا الذل والعذاب والدمار آبان حكم أبيه وجده, لذا فأن التنقيب في قصره قد يوصلنا الى كشف أسرار جديدة ومهمة حول دور وتاريخ العرب في تلك الفترة وكيفية تعاطيهم مع الإمبراطوريات العظيمة التي كانت تحيطهم, خصوصا وان المراجع العربية التأريخية لم تتناول وضع المملك العربية القديمة مثل قيدار وددان وتيماء ومعين إلا بمعلومات هامشية وشحيحة.

لا شك أن القصر يحوي على عدد كبير من التحف والتماثيل الحجرية كغيره من القصور الاشورية وهذا ما بدى واضحا من خلال الانفاق التي حفرها الدواعش حيث شاهدنا بعض المنحوتات ورسوم ملونة وتماثيل لثيران مجنحة وجداريات كبيرة تجسد حجم الوفود التي كانت تأتي الى القصر لتقدم طاعاتها وتجدد ولائها بالملك. وحتما هناك كنوز ومجوهرات ثمينة داخل القصر وربما تكون تلك الكنوز هي من دفعت الدواعش للحفر والتنقيب في هذا القصر. كل هذه الامور تدعونا لمناشدة كل المنظمات ومراكز الابحاث والمتاحف العالمية وكل المهتمين بالاركيولوجيا والتراث الانساني ان يساهموا في انتشال هذا المعلم الحضاري العظيم ونفض التراب عنه خصوصا وإنه لا يخص العراقيين وحدهم وإنما هو إرث إنساني يخص العالم كله.