لا أعرف لماذا يحضر التضاد والمبارزة بين البيدر والحقل عندما نتكلم عن دور المنجل .. فكأن الحقل نوايا والبيدر قطاف .. وما بينهما منجل .. يحمله شخص ربما لا علاقة له بالحقل والبيدر معا …
شخص كل مواصفاته أنه منجل .. حتى أنه يحيلني الى تعريف ” الساندويش” أو ” اللفه” عراقيا .. وفق إجتهاد المجمع العربي اللغوي لإقتراح عبارة ” الشاطر والمشطور وبينهما كامخ” !!
تخيلوا معي .. أنك في مدينة عربية وتريد أن تأكل شيئا سريعا وهو ما يدعي ب” الفاست ميل ” عند بلاد الإفرنجة ، ووفقا للسانك العربي الفصيح البليغ .. فأنت مطالب بتلاوة هذه الجنجلوتية ، والتي هي من إقتراح ” سدنة اللغة ” وكهنتها ..
مثل هذا التعقيد وليس التقعيد اللغوي .. لا يقف عند حدود اللغة بأبعادها النحوية والصرفية والبلاغية والإملائية .. . بل يتعداه وبزحف غير مقدس من اللغة ومدلولاتها وجهازها الإصطلاحي العتيد الى حقول أخرى إجتماعية وسياسية وأخلاقية وبطريقة تعسفية تماما ، لاتقل إحراجا لمستعمليها مثل التعريفات ” المُتحفية ” التي يقدمها المجمع اللغوي .. لمفردات أعجمية دخلت الى اللغة العربية . فالتلفزين يصبح المشواف ، والراديو ، المذياع ، والسينما .. السيما .. .. الخ
وكان من أخطر ما سمعت من شيخ سلفي يصف التلفزيون ب” المفسديون ” كناية على دور التلفزيون أو المشواف، في تخريب عقول الشباب .. ولو قيض لهذا الشيخ وبطانته وعامته أن يكون لهم الحكم فسوف لا يترددون بجعل مشاهدة التلفزيون في خانة الكبائر من الذنوب التي تستلزم القتل علانية .
فكلمة الدجال مثلا تخرج من ردائها اللغوي لتلبس لبوس مجتمعياُ مُقنعا يدل على الوقار والهيبة وربما القداسة عند البعض .. فنفس الكائن البشري يستطيع وفقا لمتطالبات السوق السياسية أن يتحول من دجال الى رجل سياسي لامع ..وكذا فأن البهلوان يخرج من رداء السيرك وأجوائه الى الحضور بشدة تحت الأضواء متلحّفاً قناعا آخر تمنحه اللغة مباركتها عبر مستخدميها ، وتطلق عليه وصفا آخر ..ليتحول الى ” قديس” أو شيخ عشيرة أو مرجع ما !!
………………………..
وللغة أيضا مستوى دلالي مهم يتعدى حدودها الإستعمالية اليومية ” التداولية” على رأي علماء الالسنية الحديثة . ومنها يقفز الينا شاعر يعمل برتبة منافق وبوق لحاكم سابق الى عضو برلمان نشيط بحجة تغيير الدلالة !! فالحاكم الجائر مضى زمانه ، وأصبح شرعا في عداد الموتى لذا لزاما أن يرث الشاعر السابق منجزات وخيرات كلّ المتحولين من زملائه في الحقل السياسي. انها لعبة المواريث ، والتي تدخل اللغة بفقّهها لتعطيل حدود القصاص من الشاعر المنافق لتدخله جزافا ومن ” سم الابرة ” الى حقل الورثة ، وربما سيصبح ناشطا في حقل حقوق الإنسان ، أو داعية لحقوق السجناء السياسيين !!
أليس تحول ” مجرم عرس الدجيل ” وجزارها هو علامة على خيانة اللغة للتوصيف .. فهذا القاتل كانت يحمل رتبة سياسي ، وناشط في حقوق الإنسان !!! يلتقي كبار ساسة العراق ، ويحمل شهادة أكاديمية في الحقوق .. !!
وهكذا يتحول الكائن وفقا لممكنات اللغة وسوفان مصطلحاتها وتبعيتها الذيلية الى مصدر القوة ورعب في نفس اللحظة التي كان يحمل فيها صفة ” إنسان” !.
……………………..
في باب الفحولة والتأنيث … دائما يحضر البطل المتّوج بالسلطة، فحلاً جهبذاً ، عازفا مقتصدا عن الحياة الأنثى ، اللعوب وملذاتها ، مناضلا دخل السجون .. ولكنه وفقا لمنطق الحياة الجديدة تراه راكبا هواه ، يعيش في ترف باذخ ، يخلط في تسمية الأشياء ، ويعتلي الكرسي مقصلة للآخرين الذي كانوا له عونا فأصبح صديق الأمس عدو اليوم .. وجزار البارحة ضحية اليوم … وهكذا ُتستدعى اللغة لتلعب لعبة العهر في تبديل وإحلال الصفات والمسميات ..
ولدينا من الامثلة ما يشيب لها الولدان .. اتذكر منها أن كلمة ” رفيق” عند ساسة العراق القدامي سوف تتبدل في أيّة لحظة الى كلمة ” خائن” ، ومثلما هو رفيق يعيش بحبوبة الممكن السياسي سيتحول الى ” خائن” بقوة لغوية لا تسويها في المقدار ولا تعاكسها في الاتجاة تماما أيّة شفاعة .. تنفلت اللغة من معيارها البشري في التوصيف لتصبح إشارة للجرم والتجريم والقتل .. وسبحان مغير الأحوال ، ومقلّب القلوب …
………………….
اللغة تظلم المنجل .. لإنها تحضره كأداة قطع لا علاقة له بالحقل والبيدر.. وكأن المنجل وشاية البيدر الى الحقل .. كأن المنجل جزار الحقل لصالح البيدر وأصحابه .. هذه العلاقة مصدرها اللغة بكون وظيفة المنجل ” قص” أو قطع وقطاف ، وليس جني وحصاد وخير … ومن مفردة قطاف إستعار الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته الشهيرة هذا التوصيف اللغوي للحصاد، حين دخل العراق واليا ، محذرا العراقيين من سوء العاقبة …”أرى أن رؤوساً قد أينعت وحان قطافها “
وهنا ساوى بين السيف والمنجل ورقاب العباد والحقل ، والإنتصار السياسي وبيدر الحصاد الإنساني ..
فالحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق وممثل أمير المؤمنين عند البعض ، وهو قاتل الشيعة عند الآخرين .. وهو سياسي محنك ورجل دولة من الطراز الأول في المفهوم الحديث لإدارة الدول ..
بهكذا طاغية وبغيره .. وبوجود كهنة تقليديين لحراسة اللغة من إنفلاتها الإنساني ودلالتها الواخزة .. ستكون اللغة مطية لمن يملك زمام قاموسها ..
هي دعوة للخروج من نفق اللغة حين ُتؤسر بين نفق قاموسها .. وتداعيات مستخدميها ..