لاريب في إن معيار نجاح وسائل الإعلام وشيوع سمعتها وتعاظم تأثيرها ، سواء أكان على مستوى الرأي العام الداخلي بكل قطاعاته الرسمية والشعبية ، أو على صعيد الرأي العام الخارجي بمختلف مستوياته الآقليمية والدولية . مرهون بالمهارة التقنية والقدرة المعرفية التي ينبغي أن يتحلى بها العاملين في مجال الصحافة ، لرصد وتمييز الحاجز الافتراضي الفاصل ما بين حدود اللغة السياسية من جهة ، وما بين تخوم الكتابة الصحفية من جهة أخرى ، بحيث لا يصار إلى الخلط بين الخصائص والمواقع والمسؤوليات . ذلك لأنه بقدر ما تهمل الفواصل وتختزل الحواجز بين هذه وتلك ، بقدر ما تتردى صدقية المطبوع الصحفي وتتدنى سمعته وتتهاوى مكانته . ولعل من أبرز العوامل التي تسهم في جعل الوسيلة الإعلامية عاجزة عن مجاراة جيشان الوقائع وفلتان الأحداث ، وفقدانها ، من ثم ، بوصلة الاتجاه الصحيح صوب مسالك التحليل الواقعي والتأويل الموضوعي . هي خضوعها السياسي واستتباعها الاقتصادي وارتهانها الإيديولوجي ، لاسيما حين تكون تابعة لسلطة من السلطات المهيمنة ، وناطقة بلسان مجموعة من الجماعات النافذة ، ومكلفة بتسويق خطاب من الخطابات الرائجة . والملاحظ إن هناك ثيمة سلبية رافقت صحافتنا المحلية كما الظل ، للحدّ الذي استمرأت الركون إليها واستعذبت التعاطي معها ، تمثلت ليس فقط بتسامحها إزاء مظاهر الخلط الحاصل بين (خصوصية) اللغة السياسية ، التي تعتمد التحليل لحث العقل على التنبّه وحمل الوعي على التيقّض ، عبر الصدمات تارة والاستفزازات تارة ثانية ، وبين (عمومية) الكتابة الصحفية التي تتوخى الانطباع الحسي لدغدغت العواطف ومداعبة الأخيلة فحسب ، إنما التساهل حيال استثمار وتوظيف رصيد الأولى لحساب الثانية ، وخصوصا”لجهة الكشف عن المضمر من العلاقات ، وإماطة اللثام عن المسكوت عنه من الفكريات . للحد الذي يبدو معه إن متطلبات الكتابة الصحفية تقود وتوجه غايات اللغة السياسية ، وليس العكس كما يفترض بالصحف الراقية والرصينة أن تنتهجه وتتبناه . ولأن الحدث السياسي أو الواقعة الاجتماعية تعالج بأسلوب الكتابة الصحفية الانطباعية ذات الإيقاع الآني والسريع ، فلا مناص من أن بفقد الأول زخمه وتتلاشى أهميته ، مثلما تتبدد ملامح الثانية وتضمحل قيمتها . وبدلا”من الشروع بتصحيح هذه الأخطاء الفادحة ومعالجة تلك الاختلالات المعيبة ، فان المشرفين على وسائل الإعلام المملوكة لأصحاب السيادة والسعادة والمعالي والمقام والنيافة ، ممن يحسنون تجنب إغضاب أربابها وإثارة حفيظتهم ، حيال ما تطرح من أفكار وتشيع من توجهات وتبث من تطلعات ، يعمدون إلى تشذيب اللغة السياسية وتهذيب مفرداتها ، عبر قمع حياديتها وردع صرامتها وانتزاع حدتها ، بحيث تبدو لغة مسالمة ، خجولة ، رخوة ، هلامية ، وان شأت فمخصية . والحال لو أتيح لنا الاطلاع عن كثب على كبرى المؤسسات الإعلامية والصحافية في العالم ؛ لجهة الآليات التي تعمل بموجبها ، والضوابط التي تسترشد بهديها ، والالتزامات التي تتصرف بمقتضاها ، لاعترانا العجب ولتملكتنا الدهشة حيال المفارقات التي يمكن رصدها ، بين هذا النمط من الصحافة ذات الطابع المهني / الاستقلالي ، وبين صحافتنا المزاجية والمستتبعة التي غالبا”ما تتعامل مع الحدث السياسي والواقعة الاجتماعية بتوجس وحذر ومواربة ، كما لو أنها تتعامل بمقدسات تخشى أن تدنّس ، أو تتعاطى بمحرمات تخاف أن تنتهك . إذ بالرغم من كون الأولى مملوكة للأحزاب الحكومية أو للشركات الاستثمارية أو لجماعات الضغط ، فإنها لا تفرط – في مطلق الأحوال والظروف – بحيادية الأخبار التي تذيعها ، وموضوعية المعلومات التي تشبعها ، واستقلالية المواقف التي تتبناها ، ودقة التحليلات التي تطرحها . هذا في حين إن المسؤولين في مؤسسات صحافتنا المحلية ، منحوا أنفسهم صلاحيات مطلقة ليس فقط بحذف العبارات الحادة في مدلولها ، وتغيير العناوين المباشرة في مضمونها ، وتبديل العبارات الصريحة في تشخيصها فحسب ، بل وفوضوا ذواتهم إهمال وتجاهل المواضيع التي لا تتلائم وسياسة المطبوع الصحفي . ونحن إذ نؤشر هذه العيوب ونشخص تلك المثالب ، التي ابتليت بها صحافتنا بمختلف توجهاتها السياسية والإيديولوجية ، فإننا لا نروم – كما قد يتوهم البعض – توجيه الاتهام للمشرفين عليها أو العاملين فيها (رؤوساء تحرير ومحررين) ، كما لا نعتزم التقليل من شأن قدراتهم الثقافية والانتقاص من كفاءاتهم الفنية . فالحق يقال إن قسما”من تلك الكوادر والملاكات من الكتاب والإعلاميين ، تشهد لهم حقول الثقافة وميادين المعرفة بالاقتدار والنبوغ ؛ ليس فقط في مضمار القيادة الإدارية والمهنية فحسب ، وإنما في مجال الإبداع الفكري والأدبي أيضا. بيد إن الاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية والخلفيات الإيديولوجية لأصحاب الامتياز، هي ما يرسم للمطبوع الصحفي الحدود ما بين المشروع والممنوع ، سواء تعلق الأمر بنمط اللغة المقبولة أو بطبيعة الفكر المسموح أو المعلومة المباحة . وهو الأمر الذي أفضى من جملة ما أفضى إلى عزوف الناس عن قراءة الصحف ، أو الشك بصحة ما تنشره من أخبار ، أو الاعتقاد بسلامة ما تطرحه من توقعات ، أو القناعة بصدقية بما تروجه من اهمامات . للحدّ الذي أصبحت معه مادة للتشهير والتندر على كل لسان ، بحيث أضحى يقال عن التبريرات الكاذبة والتطمينات المعسولة التي يكثر السياسيين من إزجائها ، أنها لا تعدو أن تكون (حجي و / أو حشو جرايد) !! . وعوضا”عن أن تغدو الصحيفة المعنية بمثابة (مثقف جماعي) – إذا جاز لنا استعارة هذا التعبير الذي أطلقه الفيلسوف الايطالي (انطونيو غرامشي) على حزبه الشيوعي – فهي مقيض لها أن تستحيل إلى مجرد وسيلة من وسائل التجهيل السياسي والتضليل الإعلامي والتهويل النفسي والتعطيل الفكري . ومن سوء الطالع انه بقدر ما يشتد ساعد الذهنيات الراديكالية ، وبقدر ما تقوى شوكة الجماعات الأصولية ، بقدر ما تفلح الكتابة الصحفية – من خلال ذوي الحضوة والسلطان – في ترويج أسلوبها وتسويغ خطابها . على خلفية إن الأوضاع الأمنية الملتهبة ، والظروف السياسية المعقدة ، والمعطيات الاجتماعية الشائكة ، لا تسمح – على الدوام – بتبني خيار اللغة السياسية ، حين يتعلق الأمر بتهدئة العقول المجيشة وتطمين النفوس القلقة . لاسيما وإنها مجبولة على البحث عما هو مخفي من رزايا ، والتنقيب عما هو مستور من بلايا ، مما يعني سحب البساط من تحت أقدام الحركات المتطرفة ، وقطع الطريق على كل من يروم التصيد بالمياه العكرة . متجاهلين حقيقة إن السعي لتخفيف حدة النقد للمفاسد ، وتلطيف شدة المساءلة للانحرافات ، وتجفيف نبرة التعرية للتجاوزات . والحيلولة ، من ثم ، بعدم تسمية الأشياء بأسمائها الفعلية برغم قباحاتها ، والإعراض عن تشخيص الأدواء الواقعية برغم نتانتها ، قمين بتفاقم عواقبها وتعاظم مساوئها استشراء معاناتها واستفحال آلامها . هذا وقد سبق لفيلسوف الوجودية الفرنسي (جان بول سارتر) إن حذر من مغبة التعويل على غمط المعلومة الصحيحة وكبح جماح الإفصاح عن واقعيتها حين قال ((لا يجوز تحاشي نمط معين من المعلومات بحجة أن هناك طرفا”آخر يستغلها على نحو مقرف . بل ينبغي إيجاد الوسيلة القمينة بحسن الاستفادة منها ، أي القيام بتحليل سوسيولوجي للمجتمع انطلاقا”من تافه الأخبار)) . وهكذا فان التوجه القاضي بلجم اللغة السياسية في التعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي كما هو بالفعل دون تزويق أو تلميع من جهة ، وإطلاق العنان ، من جهة أخرى ، للكتابة الصحفية لكي تخفي الندوب وترتق الثقوب وتستر العيوب ، بزعم تجنب الإثارة للحساسيات ، وتحاشي الإيقاظ للنعرات ، وتلافي التسعير للاستقطابات ، وبالتالي الذود عن أمن الدولة والمحافظة على استقرار السلطة ، سوف لن يساعد المواطن العراقي الغارق في لجج الجهل على إدراك أوضاعه المزرية ، بقدر ما يسهم في تعليب وعيه وتنميط ثقافته وتسطيح شخصبته . كما لن يعين المجتمع على النهوض من كبوته والتغلب على محنته ، بقدر ما يشجع على تكريس مظاهر الغربة بين أفراده وترسيخ ظواهر القطيعة بين جماعاته .