23 ديسمبر، 2024 1:26 ص

اللغات البشرية إزاء اللغات الرقمية

اللغات البشرية إزاء اللغات الرقمية

حتى اليوم، كان وما زال القرآن حافظاً لبناء وتركيب اللغة العربية وأساليب كتابتها وقراءتها، فالقرآن هو أول كتاب معروف باللغة العربية، حتى أن أغلب الباحثين يعتبرون أن اللغة العربية المكتوبة قد ظهرت مع القرآن. إزاء هذا، بوماً بعد يوم تصبح الإنكليزية والصينية والإسبانية أشكال اللغة الرقمية الأساسية عبر العالم وتزيح غيرها من اللغات بشكل مخيف.

تباعد اللغات البشرية وتقاربها في العصر الحديث مرتبط إلى حد كبير بالسياسة ومناخ الجيوبولتيك وبالانتشار المعرفي والصناعي، وهكذا أصبحت لغات الدول الاستعمارية لغات عالمية بحكم هذه الاشتراطات، فالإنكليزية في الطليعة عبر العالم، وتليها الإسبانية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، تليها الفرنسية في فرنسا وبلجيكا وجزء من سويسرا وفي عموم إفريقيا وليس في جميعها.

الصينية باتت لغة كبرى بحكم واقع “شبه القارة” الصينية، لكن الهندية لم تحتل هذا الموقع رغم أنها شبه قارة بمعنى الكلمة.

أما العربية التي تنحصر رقعة المتحدثين بها سياسياً في البلدان العربية في قارة آسيا وفي قارة إفريقيا، فإنها تتمتع بقوة تمدد أخرى تمثلت بالقرآن، كتاب المسلمين والعرب الأول الذي حفظ العربية وساعد في انتشارها.

مع حلول الألفية الثالثة، ظهر نوع عولمي من المعرفة لم تعرفه البشرية عبر تاريخها، وهو العالم الرقمي وتطوراته، وما تفرع عنه، وخلال عقدين باتت المعرفة الرقمية موجودة في كل الحضارات، ومعها توسع انتشار الانكليزية، فهي لغة العالم الرقمي بلا منازع.

في التواصل بين الحضارات، كان التنوع اللغوي وما زال يشكل عائقاً في الانتشار الحضاري، وقد حلت أغلب الشعوب هذه المشكلة في جانب العمليات الحسابية والترقيم بتبني الترقيم العربي، المعروف بالترقيم اللاتيني، 1 2 3 4 5..

أما في مجال التقارب اللغوي فإن السبيل الوحيد لحصول تبادل وتلاقح معرفي يكمن في تعلم اللغات، والسؤال الصعب هنا: هل بوسع المرء تعلم لغات عديدة في ظل التسارع المعرفي الكبير الذي خلقته المعرفة الرقمية؟ وكم يستغرق المرء من زمن لتعلم لغة جديدة؟ وهل بوسع كل الناس تعلّم اللغات الجديدة بيسر؟ في عصر المعرفة والتعليم والثقافة الرقمية ساعدت المترجمات الرقمية المنتشرة على النت في تسهيل تناقل المعلومات والتلاقح المعرفي، وأقوى هذه المترجمات هو غوغل بلا منازع.

الاتحاد الأوروبي الذي يضم أهم بلدان أوروبا حل هذه المشكلة بتطبيق التقنيات الرقمية لنشر المعلومات والتشريعات والقوانين المتعلقة به ككيان سياسي وبشري جغرافي وديموغرافي كبير. لكن مشكلة تعامل الاتحاد الأوروبي مع دول أخرى تفرض تذليل مشكلة التنوع اللغوي باعتباره عائقاً أمام التفاهم المشترك، والحل الذي يدور الحديث عنه بشكل واسع حالياً هو تمكين تقنيات اللغة الرقمية، ويمكن بعد التمكين إضافتها الى تطبيقات وأجهزة وخدمات تسهل التواصل لتجاوز موانع التنوع اللغوي، وكل ذلك ينتظر أن يتم في ظل مسار شفاف ومرن يضمن عدم تمرير أي عمليات تظليل أو ايهام. لكن المفارقة في هذه التجربة هي أن بريطانيا المسؤولة بالدرجة الأولى عن انتشار أقوى لغات العالم أي الإنكليزية سارعت تغادر الاتحاد الأوروبي، لتضع الجميع أمام مسؤولية من نوع آخر، فالإنكليزية لم تعد لغة رسمية في الأروقة السياسية والدبلوماسية والقانونية للاتحاد!

إحصائيا تحتل الانكليزية، التي يقدر عدد المتحدثين بها بنحو 375 مليون شخص،الموقع الثالث في قائمة اللغات الأكثر انتشاراً في العالم، فيما تحتل لغة المندرينالصينية المرتبة الأولى، والإسبانية المرتبة الثانية.

منذ نصف قرن بدأت تقنيات الكومبيوتر والعالم الرقمي تطُّوّر باتجاه تذليل صعوبات اللغات إزاء اللغة الانكليزية، لذا يجد المتعاملون مع الترجمة الرقمية أنّ الترجمة من الانكليزية وإليها بين اللغات الأوروبية باتت دقيقة تقريباً، وأغلب المترجمين بين مجموعة اللغات الاوروبية يعتمدون في عملهم بشكل مطلق على مترجم غوغل حتى باتت القواميس والمعاجم اللغوية الورقية شبه مهملة وعديمة الفائدة، ويمثل شراؤها بذخاً ومضيعة للجهد والمكان والوقت. المترجم غوغل وأنظمة الكتابة الرقمية التي تطور مصححات لغوية نحوية وإملائية تجعل الكتابة الرقمية بين اللغات الاوروبية دقيقة إلى حد كبير، كما أن الصين باتت تعتمد نظام الترقيم العربي المتداول بشكل واسع في الغرب، فبات عالمياً بامتياز، حتى أن بلدان عربية واسلامية عديدة تحاول أن تتجنب الترقيم السندي الآردي المشرقي (١،٢،٣،٤،٥ ) الشائع في ثقافاتها اللغوية لتندمج بنظام الترقيم العالمي. في تقدير المختصين أن أنظمة الترقيم الأخرى ستختفي ليحل الترقيم العربي الذي أشرنا إليه أعلاه كنظام عالمي موحد.

اللغة الانكليزية بارتباطها الوثيق بالتقنيات الرقمية وبالمعرفة السايبرية وبمؤسسات سليكون فالي عبر العالم باتت اللغة السائدة بلا منازع. وخير دليل على ذلك أن عدد مجلات البحوث العلمية الصادرة باللغة الانكليزية بين عامي 2008 و2010 بلغ 971، فيما بلغ عدد مجلات الابحاث بالصينية 228، ولم يتجاوز الرقم 80 نشرة باللغة الاسبانية. الانكليزية على النت تزيح كل اللغات.

كل مدارس العالم تقريباً تضع اللغة الإنكليزية في أنظمة التعليم منذ فترة مبكرة، وهي في أوروبا تعد إحدى أهم الدروس الأساسية، ففي ألمانيا على سبيل المثال وإبان جائحة كورونا، اقتصرت مناهج التعليم الرقمي على مواد اللغة الألمانية، واللغة الإنكليزية والرياضيات.

عبر النت، مازالت اللغات الأخرى تعاني من صعوبات في الترجمة منها وإليها، والتقنيات الرقمية لتطويع اللغة الانكليزية تقترب سراعاً من مستويات الكمال و قريباً سيصبح المصحح والمترجم الالكتروني بمستوى كفاءة المترجم البشري بل قد يتفوق عليها كما كشف تقرير موثق نشر على موقع META-NET الأوروبي المتخصص بتقريب اللغات عبر الوسائل الرقمية في محيط السايبر.

وطبقاً لنفس التقرير، فإن الأجيال القادمة ستكون قادرة على التعامل مع الترجمات من وإلى الانكليزية بمستويات قريبة للكمال، وقد حقق كومبيوتر شركة IBM المعروف بأنه “سوبر كومبيوتر” من نوع Watson تفوقاً ساحقاً في مجالات اللغة متفوقاً على أدوات وتطبيقات أبل بالتعرف على الصوت.

في أواخر سبعينيات القرن العشرين، أطلقت المفوضية الأوروبية تمويلاً هائلاً (بلغ اليوم مليار يورو سنوياً) لمشروع تطويع الفوارق بين اللغات الأوروبية كمقدمة لتحقيق وحدة أوروبية متكاملة، فأطلقت مشروع الأبحاث المعروف ب EUROTRA، فيما كرست وزارة تجارة المملكة المتحدة استثماراً مشتركاً لتطوير المشروع الرديف وهو UK EUROTRA لبلدان الاتحاد الأوروبي الناطقة بالإنكليزية.

كل مراكز الأبحاث اللغوية في بلدان الاتحاد الاوروبي القائمة هذا اليوم مدينة بوجودها لهذا المشروع المبكر. في المقابل أطلقت الهند (وفيها 22 لغة رسمية) ودولة جنوب إفريقيا ( وفيها 11 لغة رسمية) برامج مشاريع على المدى البعيد لتكريس أبحاث اللغة عبر الرقمنة وتطوير تقنيات السايبر، ومن غير المؤكد أنها ستقترب من التفوق المطلق للغة الانكليزية.

أما في مجال تطوير اللغة العربية، فقد تبنت المملكة العربية السعودية ندوتين لتطوير تطبيقات الرقمنة على اللغة العربية. الندوة الدولية الأولي والثانية عقدت تحت شعار “الحاسب واللغة العربية” ونظمت بالرياض عام 2007، وعام 2009 ، وقد كانت تتوخى التوجه نحو تفعيل الحركة اللغوية العربية لرقمنة الإنتاج الفكري العربي، وإثراء المحتوى الرقمي على الإنترنت، وقد تزامنت الندوة الدولية الأولي مع التطورات المتسارعة التي يشهدها مجال تقنيات المعلومات والاتصالات، فضلاً عن ظهور بعض المفاهيم الجديدة والتطبيقات العامة الحيوية مثل التجارة الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية، والتعليم الإلكتروني.

فيما ركزت الندوة الدولية الثانية على عرض تجارب إقليمية ناجحة في صناعة المحتوى العربي، والتحديات التي تواجهها.

و بجانب التركيز على ربط اللغة العربية باللغات الأخرى مع الحفاظ على خصوصيتها، كذلك ضرورة لحاق العرب بتقنية الويب الدلالي وما يتطلبه من نظم ذكية لمعالجة اللغة العربية آلياً، فضلاً عن التوجه لإيجاد محركات بحث عربية على الإنترنت، هذا إلى جانب تشجيع العاملين في حقل المعالجة الآلية للغة العربية على تطوير محلل صرفي للغة العربية، وكذلك تشجيع المبادرات التي تسهم في إثراء المحتوى العربي الرقمي ونشر الوعي بأهمية وجود مواقع متميزة باللغة العربية لخدمة المجتمع، كما كشفت أطروحة الباحثة د.ناريمان أسماعيل متولي الموسومة “اللغة العربية بين الانتماء والهوية والتحديات المستقبلية في عصر الرقمنة“.

من جانب آخر كشفت الدراسة الموسومة “الفجوة الرقمية اللغوية الصادرة عام 2010 ، لعلي سيف العوضي ونبهان حارث الحراصي عن ضعف وتراجع نفوذ اللغة العربية في مقابل التفوق الكبير الذي فرضته اللغة الإنكليزية في حيازة المحتوى الإلكتروني لمصادر المعلومات بشقيها العام والأكاديمي، وتأتي هيمنة اللغة الإنكليزية واكتساحها القوي والسريع لصناعة المعلومات وتدفقها بمرتبة العامل الأول والأهم في إعاقة تقدم اللغة العربية ومنعها من الحفاظ على دورها الراسخ كلغة علمية وأكاديمية .

أما مشاريع أوروبا الرائدة في مجال التطويع والتبادل اللغوي فإن أبرزها:

* Euro Matrix منذ عام 2006.

* Plus Euro Matrix منذ عام 2008

* i Translate 4منذ عام 2010

اعتماداً على المتحقق حتى الآن في مجال ما يمكن وصفه بتقنيات “هايبرد hybrid اللغوية فقد نجحت هذه التقنيات في مزج الآليات العميقة بالطرق الإحصائية، ما سوف يساعد في تجسير الفجوات القائمة الآن في آليات البحوث العلمية التي تعتمد على تطويع الحلول التقنية اللغوية لمقاربة مختلف اللغات الأوروبية.

بون – صيف 2020 عام كورونا