ثلاثة مسؤولين مهمين وأساسيين في موضوع السلاح الكيمياوي السوري أوضحوا صعوبة التخلص منه بسرعة وسهولة. أولهم بشار نفسه الذي أكد أن ” التخلص من مخزونه من الأسلحة الكيماوية عملية معقدة للغاية من الناحية الفنية، وتحتاج إلى وقت قد يصل إلى عام، وإلى كثير من المال قد يصل إلى مليار”.
والثاني رئيس فريق المفتشين الدوليين أكي سيلستروم الذي قال إن العثور على أسلحة سوريا الكيماوية وتدميرها لن يكون سهلا. وتوقع أن يكون من الصعب العثور على جميع الاسلحة الكيمائية في سوريا وتدميرها.
أما الثالث فهو الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الذي عبر عن اعتقاده بأن “الدلائل في المرحلة الحالية تشير إلى أن النظام يسيطر على مخزوناته الكيمياوية”.إذن ما هو الحل؟.
إن أي مواطن عادي لا خبرة لديه في مثل هذه المسائل يدرك بالسليقة أن التخلص من الكميات الضخمة التي يختزنها النظام السوري من الأسلحة الكيمياوية ليس لعبة. ويدرك أيضا أن نظاما لم يعرف الصدق ولا الصراحة ولا الأمانة في حياته، من أيام الوالد إلى آخر أيام الوريث، وبعصاباته التي تمرست، على امتداد أربعين عاما، في الغش والتزوير والتلفيق، وأتقنت المراوغة والتخفي وفنون الغدر والاغتيال والطعن من الخلف، وظلت تعبث أربعين عاما بشعوب سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن والخليج، لهو نظامٌ قادر على ملاعبة المفتشين الدوليين على الحبال، لا عاما واحدا فقط، بل أعواما طويلة.
وإذا كان بوتين ووزير خارجيته سيمنعان مجلس الأمن الدولي من اعتماد البند السابع، ومن وضع جدول زمني محدد للتنفيذ، فقد يصل حبل الجر بين بشار والأمم المتحدة أميالا طويلة لا تنتهي.
وإذا كان القتل بالكيمياوي صار ممنوعا، لكن القتل بالسكود الروسي والبراميل المتفجرة مسموحا ومجازا، فكم ينبغي على الشعب السوري أن يقدم من شهداء ومعتقلين ومفقودين ولاجئين إلى أن ينتهي المفتشون من تدمير كامل الأسلحة الكيمياوية التي سيضطرون للبحث عنها في آلاف المدن والقرى النائية ودهاليزها وأنفاقها؟.
إن هذا النظام قام وعاش على خداع السوريين والعرب والعالم واللعب على تناقضات النظام العربي والإقليمي وتعقيداته، كل هذه السنين بدون حماية حديدية من روسيا، فكم سيعيش إذن على ملاعبة المجتمع الدولي بوجود بوتين ولافروف والولي الفقيه وحسن نصر الله وباقي الشبيحة الوافدين من اليمن والعراق؟
ويقول التاريخ إن حافظ أسد قام باختطاف الحكم في سوريا في أعقاب نكسة حزيران وإفرازاتها النفسية على الجماهير، مع ظروف انتصارات إسرائيل، وعودة عبدالناصر عن استقالته الشهيرة، وإعلانه أن “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، وحاجة أميركا وإسرائيل إلى قيام نظام عسكري قوي في سوريا، بواجهة قومية، لمحاصرة عبدالناصر وعرقلة مشاريعه الوحدوية وإفشالها.
ومن أول أيام إنقلاب الوالد الذي أسماه (الحركة التصحيحية) في تشرين/ نوفمبر 1970 وإلى وفاته عام 2000 ألقى برفاقه في السجون المظلمة، دون محاكمة، ولاحق َ الهاربين منهم حتى آخر الدنيا، واغتال أعدادا كبيرة منهم، واعتمد سياسة كسر العظم مع المعارضين في الداخل السوري واللبناني وحتى العربي، وخاض حروبا لاأخلاقية ضد الشعب العراقي، من أوائل الثمانينيات وإلى أوخر التسعينيات، نكاية بصدام حسين، ومارس كل ألوان التآمر والدس والوقيعة والإرهاب ضد الشعب اللبناني، وجعل لبنان حديقته الخلفية وبوابته المُشرَعة لممارسة التهريب والمؤامرات وافتعال القلاقل في دول الجوار، وعبث الوالد وولده بأمن لبنان، ومزقا وحدة شعبه، وجعلا سوريا مركزا لتفريخ القتلة المدربين من اللبنانيين ليعيد إرسالهم إلى لبنان لاغتيال من يريد اغتياله.
وزايد على الجميع في الثورية والمقاومة، وأصر على التحرير الكامل من النهر إلى البحر، ورفض جميع الحلول السلمية مع إسرائيل، ولكن لم يطلق رصاصة واحدة من الأرض السورية ضدها، بل أعانها بتمزيق الشمل الفلسطيني حين احتضن المتطرفين الفلسطينيين وخاض بهم حروبه الانتقامية ضد من رفض هيمنته وإرهابه من العرب والفلسطينين.
ومنذ أول أيام سلطته في سوريا وضع يده في يد إيران الخميني، رغم تناقض الهوية القومية العلمانية (المزعومة) للنظام السوري مع هوية نظام الخميني الدينية الطائفية المتزمتة، وأصبح متعهدها الوحيد لتهريب السلاح و”المجاهدين” والخبراء لحزب الله، وجعل سوريا معبرها الآمن إلى لبنان وفلسطين والعراق ودول الخليج العربية، لا إيمانا بفكر الخميني ولكن من أجل ابتزاز إيران بحاجتها إلى حليف، وابتزاز دول الخليج المهددة بإيران.
وجاء بشار فاحتضن البعثيين العراقيين ودربهم وأرسلهم إلى العراق ليقتلوا بمفخخاتهم عشرات النساء والأطفال والشيوخ في المدارس والأسواق الشعبية ومراكز الشرطة والجيش، بالتعاون وبالتنسيق مع نظام الولي الفقيه.
ولكن، ومقابل كل هذا الكسب غير المشروع، ظل الشعب السوري يزداد فقرا وحرمانا، يوما بعد يوم.
وعلى يد حافظ الأسد ووريثه شاعت الرشوة في سوريا، وعم الجوع والتخلف، وصار الخوف هو الخبزَ اليومي لكل مواطن سوري، حتى وهو بعثي، وحتى وهو من عظام رقبة النظام نفسه.
ومن أيام الوالد إلى أيام الوريث منح النظام دولة سوريا كلها لإخوته وأولاد أعمامه وأخواله وأفراد حرسه وحمايته، ليحولوها إلى مزرعة خاصة يعيثون فيها فسادا، ويجعلوا أهلها رهائن، وأذلة، ولا يسمحون لأي ٍ من أبنائها بأن يأكل خبزه أو ينام ليلته بين أولاده إلا إذا بلع لسانه وأغمض عينيه وسد أذنيه وتحول إلى بيدق في مسيرات الحزب الهاتفة بحياة القائد العظيم؟
وها هو اليوم، برغم قناعة الدنيا كلها بأنه وحده يملك السلاح الكيمياوي، وأنه وحده يملك الوسائل والقدرة على تحميلها برؤوس الصواريخ وإطلاقها، وبرغم أن تقرير المفتشين الدوليين أثبت أن الصواريخ أطلقت من قاسيون، وأن قاسيون كله تحت سيطرته وتحت أمرته، ما زال ينكر ويراوغ ويحاول التذاكي.
وآخر مخترعاته ما أعلن عنه مساعد وزير خارجية بوتين من أدلة على اتهام المقاومة بإطلاق صواريخ السارين.
ولأنه لا يمشي إلا بالعصا فحين أحس بأن الضربة العسكرية الأمريكية آتية لا ريب فيها سارع دون حياء ولا كرامة إلى الانبطاح والموافقة العاجلة على نزع سلاحه الكيمياوي (المقاوم) الذي زعم أنه عامل توازن استراتيجي مع إسرائيل وسلاحها النووي، متعهدا بعدم استخدامه أو تصنيعه مرة أخرى.
بالمناسية ظهر أحد شبيحة النظام في برنامج الإتجاه المعاكس في قناة الجزيرة وبرر تخلي رئيسه عن السلاح الكيمياوي فقال ” إن الرئيس وافق على التخلي عن الأسلحة الكيمياوية لحماية سوريا من أذى قد تلحقه بها الضربة العسكرية الأمريكية الغادرة”. وكأن بشار لم يمس بسوء لا شارعا ولا مبنى ولا جسرا ولا مسجدا ولا كنيسة في سوريا كلها، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، ولم يجعلها خرائب تنعق فيها البوم.
ولأسرة الأسد سوابق مخزية كثيرة من هذا القبيل. فقد ظل حافظ أسد سنواتٍ يخفي عبد الله أوجلان لديه، ويدرب عصابات حزب العمال الكردستاني، ويرسلها إلى تركيا للتخريب، طمعا في ابتزاز تركيا، ثم حين رأى الجيش التركي على حدوده، وتأكد من أن الحديدة حامية، تراجع بسرعة وغدر بأوجلان وسلمه لتركيا بغمضة عين.
وبرغم أن الثورة الشعبية التي اندلعت في آذار/مارس 2011 وظلت ثمانية أشهر تهتف (سلمية سلمية)، وتقاتل بالأغاني والأناشيد والهتافات والزغاريد، ولا تطلب غير حريتها وكرامتها والعدالة الضائعة، وهو يقتل من شبابها ونسائها وأطفالها بالعشرات والمئات كل يوم، إلى أن اضطرت لحمل السلاح، وراحت تلاحق فلوله من شارع إلى شارع، فها هو اليوم، بكل وقاحة وقلة حياء، يعلن في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأميركية أن سوريا “لا تشهد حربا أهلية” بل تتعرض لهجوم من “عشرات آلاف الجهاديين” الذين ينتمون بغالبيتهم الى تنظيم القاعدة.
خلاصة القول إن العالم ليس أمام حكومة كغيرها من الحكومات، ولا أمام حاكم كغيره من الحكام، لكي يتعامل معها ومعه بالأصول والأعراف والقوانين، بل هو أمام قاتل محترف مخاتل مخادع مزور غدار لا ينفع معه خُلُق ولا ذوق.
فهل بعد هذا كله يحار المجتمع الدولي في كيفية التعامل مع هذا النظام، ويظل رئيس الدولة الأعظم في العالم يقدم رجلا ويؤخر أخرى أملا في أن يستفيق ضمير بشار، وتعود الإنسانية إلى بوتين بوتين ولافروف، وتنتهي المشكلة دون قتال، فقط بحرق بضعة براميل من غاز السارين، ثم يضطر العالم في النهاية، بعد سنوات من البحث المضني والتنقيب الخائب، إلى مسامحته بالباقي؟.
هل هذا هو العدل؟ والعقل؟ والضمير؟ إذن فبإمكان أيٍ حاكم مارق في أية دولة مارقة أن يقتل الآلاف من مواطنيه ومن مواطني دول جواره ثم ينجو من العقاب مادام وراءه بوتين ولافيروف وخامنئي وحسن نصر الله ونوري المالكي. هل هذا هو العالم الذين تريدوننا أن نعيش فيه؟
وآخر سؤال. ما هو المطلوب؟ هل تدميرُ السلاح الكيمياوي أم عقابُ الذي استخدمه وقتل به المئات في ساعة واحدة.؟؟ وإذا كان التخلص من أسلحة الغاز السوري الروسي صعبا إلى هذه الدرجة، ويحتاج إلى كثير من الوقت والمال والدماء، فلماذا لا يلجأ العالم الذي يدعي الغيرة على حقوق الإنسان والقانون وحماية المدنيين إلى الوسيلة الأرخص والأكثرعدالة والأقل حاجة إلى زمن وجدل ومهاترات؟
بعبارة أوضح. إذا كان انتزاع سلاح الجريمة من يد القاتل مشكلة معقدة وصعبة الحل، فلماذا لا تأخدون المجرم نفسه، فيذهب ويذهب معه سلاحه؟ أليس هذا أسهل وأسرع وأقل كلفة ووجع راس؟