هل أمسى النصُّ التراثيُّ مغلقاً يستلزم لتفهّمِ معانيه وفكِّ رموزه ومغاليقه أساليب منهجيَّة وأبعاداً علميّة ذاتَ إعدادٍ علميٍّ خاصٍّ ؟ أم إنَّ هذا النصَّ قد استنفد قواهُ وطاقاتِهِ ، ولم يعدْ بمقدوره أنْ يقدِّمَ أكثر ممّا قدّم ، وإنَّ ( القراءة التراثيّة ) للتراث هي الكافيّة للتعاملِ مع هذا النصِّ ، وإنَّ أيَّ محاولة لقراءته بأدواتٍ معاصرة ليس سوى تكلُّفٍ أو تمحّل ، ومحاولةٍ لتحميلِ النصِّ أكثر مما يطيق ؟
مثل هذه الأسئلة تسود الساحةَ الفكريّة ولا تلبث أن تُشغل غير واحد من الباحثين الذين يحاولون إقامة صلة علميّة واضحة بين ( التراث ) و ( المعاصرة ) بين تراث واسع عريض – دوِّن في أزمنةٍ متعاقبة ويعالج مسائل مختلفة يلامس بعضها قضايا العصر ومشكلاته ، ويبحث بعضٌ آخرُ منه ألواناً من التفكير الذي أمسى اليوم غريبا – وبين معارف معاصرة – هي مخرجات التفكير الحديث وأساليب العصرِ الذي تضخمت فيه المعرفة إلى حدِّ الانفجار – وصار الباحث العربيُّ يقف بين تيارين عظيمين : تيارٍ ينشئه تراث هائل لا يقوى على الفكاكِ منه وهو يراه جزءاً من تكوينه الروحي والفكري ، وتيّارٍ يمثّل هذه المعارف المعاصرة التي صارت تتخذ من المنهجية وأساليب التنظير والبرهنة أبرز سماتها وأهم خصائصها .
ولكن قبلَ السعيِ من أجل استحضارِ إجابةٍ علميّةٍ حول تلك المشكلات الفكريّة المعاصرة لا بدّ أن نقف عند حقائق جوهريّة أحسب أنَّ مساحة الاختلاف حولها ضئيلةٌ ، ولعلَّ في مقدِّمة هذه
الحقائق أنَّ النصَّ التراثيَّ نصٌّ لغويٌّ ، وكونه نصّاً لغويّاً يعني أنَّ استحضار البعد التأريخيِّ للغةِ عنصرٌ رئيسٌ في التعامل مع هذا النصَّ .
وتقوم حقيقة ( البعد التأريخي للغة ) على فكرة رئيسة مفادها : أنّ اللغة عرضة للتغيُّرِ أو التطوُّر ، وأنَّ ملامح ذلك التطور أو التغير يصيب منظومتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية ، ولكنَّ الملمح الرئيس الذي لابدَّ أن يقف عنده المنشغلون بقراءة التراث هو ما يصيب اللغة من تطوّرٍ أو تغير في دلالات ألفاظها ومعاني مفرداتها ، فإدراك النصِّ والوقوف عند أبعاده الفكريّة لا بدَّ أن يكون مستنداً إلى هذا الذي نشير إليه وهو فقه البعد التأريخي للغةِ النصِّ ، وهو الشرط الذي غاب عن الممارسة الفكرية والقرائية عند عددٍ من المتعاملين مع التراثِ العربيِّ ( والكلام هنا للمفكر المغربي حمو النقاري في مقابلة معه على قناة العربية بثت في 21/6/2015 ) .
وأمام الهيمنة المعاصرة للتفكير اللساني ، وتنوُّعِ أدواتها المعرفية التي عبَّر عنها أحد المنشغلين بها بقوله : (( فاللسانيات اليوم هي محور أيِّ نشاطٍ علميٍّ على هذه الأرضِ )) ( أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات ، علوي والعناني 12 ) ، يتساءل أولئك المعنيون بإقامة صلةٍ بين التراث ” و ” المعاصرة ” عن قدرة اللسانيات على إعادة قراءة التراث العربي وتقديم أدوات علمية دقيقة تسهم في تقويمه وتحليله .
والإجابة تميل نحو ترجيح قدرة هذه اللسانيات على تقديم مشروع هذه القراءة ، والسبب يعود في ذلك إلى إقامة البحث العلمي في اللسانيات على أسسٍ منهجية محددة من وصفية وتأريخية ومقارنة ومقابلة ، كما أنَّ الدرس اللساني يستند إلى بعدٍ فلسفيٍّ جعلها تقيم صلاتٍ علميّةً مع مختلف فروع المعرفة وهو ما عبّر عنه الدكتور نايف الخرما بقوله : (( وهل هنالك علمٌ ليس له صلةٌ باللغةِ )) ( أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة 13 ) ،ولذلك فإنّي أرى أنَّ مما يمكن أن تسهم به اللسانيات هو إضاءة مساحات جديدة في التراث العربي لا تملك”القراءة التراثية ” للتراث القدرة على إضاءتها وبعثها .
وبينَ يديَّ نصّانِ تراثيّانِ ينتميانِ إلى حقلِ تفسيرِ النصِّ القرآنيِّ الكريمِ ، وهما يتناولانِ بالتفسير قوله تعالى : (( ومن آياته خلقُ السمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانكم )) ( الروم 22)
، ولكنَّ لهما بعداً معرفيّاً يلامس جوانب من البحث الصوتيِّ ، أما أولهما فيقول فيه العلامة الزمخشري ( ت 538هـ ) : (( الألسنة : اللغات ، أو أجناس النطق وأشكاله ، خالف – عزَّ وعلا – بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطِقينِ متفقين في همسٍ واحدٍ ولا جهارةٍ ، ولا حِدّةٍ ( ولعلَّ المرادَ : شِدَّةٍ ) ولا رِخاوةٍ ، ولا فصاحةٍ ولا لكنة ، ولا نظمٍ ولا أسلوبٍ ، ولا غير ذلك من صفاتِ النطقِ وأحوالِهِ )) ( الكشاف 3/505) .
وأمّا ثانيهما فيتحدّث فيه العلامة الطبرسي ( ت 548هـ ) عن تفسير ( اختلاف الألسنة ) الوارد الإشارة إليه في الآية الكريمة فيقول : (( واختلافها هو أنْ ينشئَها اللهُ تعالى مختلفةً في الشكل والهيئة والتركيب ، فتختلفَ نغماتها وأصواتها ، حتى إنَّه لا يشتبه صوتانِ من نفسينِ هما أخوانِ )) ( مجمع البيان في تفسير القرآن 8/43 ) .
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هو : ما الذي تقدِّمُهُ ( القراءة التراثيّة ) للتراثِ من محاولةٍ لتحليل هذينِ النَّصَّينِ والكشف عن مزاياهما ؟ ( الإجابة تحتاج إلى مناقشة ) .
أمّا اللسانيّات الحديثة فإنَّ أدواتِها المعرفيّةَ تعيد قراءة هذين النصَّين وترى أنَّ ما قدّمه كلٌّ من الزمخشري والطبرسي يمكن أنْ يعدَّ سبقاً علميّاً في بابِهِ ( البحث الصوتيِّ ) ، إذ ترى هذه اللسانيّات أنَّ في النصّين إشارةً لما يسمّى عندها بظاهرة التفرد الصوتي ( أو البصمة الصوتيّة ) ، وتعني بها : أنَّ كلَّ فردٍ منّا يمتلك جرساً صوتيّاً أو نغمةً صوتيةً خاصّةً به ، وترى اللسانيّاتُ كذلك أنَّ الزمخشريَّ لم يكتفِ بتدوينِ هذه الظاهرة والإشارة إليها ، بل تعدّى ذلك إلى محاولة تحليلها ، فقدّم نصّاً في تحليل الظاهرة التقى فيها مع أحدث الدراسات اللسانيّة التي ظهرت في السنوات العشر الأخيرة ، إذ تتحدّث مثل هذه الدراسات الآنَ عمّا تسمّيه : ( أمد بداية التصويت ) وتعني به : أنَّ كلَّ متكلمٍ ينطق الصوت اللغوي بمدةٍ زمنيّة ( تقدر بالمليثانية ) خاصّة به لا يشترك معه فيها أيّ فردٍ آخر ، أوَلا ترون أنَّ نصَّ الزمخشريِّ ليس بعيداً عن هذه الفكرةِ حين ذهب إلى أنّه لا يسمع منطقان متفقانِ في همسٍ واحدٍ ولا جهارةٍ ، ولا شدة ولا رخاوة إلى غير ذلك .
وأحسب أنَّ غيابَ الإشارةِ إلى البعد الزمني في نصِّ الزمخشريِّ له ما يسوِّغه فالتقدير الزمنيُّ لنطق الأصوات اللغويّة هو من مخرجات الدراسة الآلية المعاصرة ، ولكني أحسب أنَّ القارئ الكريم يشاركني في أنَّ جوهر الفكرة واحدٌ في ” نصِّ الزمخشريّ ” وفي ” اللسانيات الحديثة ” كذلك .
أمّا نصُّ الطبرسيِّ فإنَّ للسانياتِ طريقةً أخرى في قراءتِه ، فهي ترى أنَّ الطبرسيَّ قد فَسَّرَ اللسانَ الوارد في الآيةِ الكريمةِ بالعضو الناطق ، ثم فسر سبب اختلاف النغمات والأصوات باختلاف أشكال وهيئات وتركيب هذا العضو الناطق ، وهو بذلك التقى مع الدرس الحديث في مسألتين : في تأكيد أهمية اللسانِ ، إذ يرى هذا الدرس أنَّ اللسان هو أهم أعضاء آلة النطق عند الإنسان ، وفي تأكيد هذا الدرس أنَّ اختلاف النغمات الصوتية عند المتحدثين يعود في جانب رئيس منه إلى اختلاف أَعضاء آله النطق عند الإنسان ، وفي ذلك يقول الدكتور سمير شريف إستيتية : (( يصحُّ الافتراض القائل إن اختلاف أصواتِ اللغاتِ الإنسانية بعضها عن بعضٍ يرتبط إلى حَدٍّ ما بالاختلافات الفسيولوجية في أعضاء النطق بين أمَّةٍ وأخرى وربما كان اختلاف طول اللسانِ واحداً من أبرز الاختلافات الفسيولوجية تلك )) ( الأصوات اللغوية – رؤية عضويّة ونطقية وفيزياوية 13 ) .
إنَّ هذه الطريقة في المزج ما بين التراث العربيِّ ” الواسع الكبير و ” اللسانيّات الحديثة ” هي التي تجعلني أرجّح أنَّ اللسانيات بما تمتلكه من بعد فلسفيٍّ عميق ، وأدواتٍ منهجيّة إجرائيّةٍ تستمدُّ من ذلك العمقِ الفلسفيِّ خيوطها ونسيجها هي قادرة على إعادة قراءة التراث العربيِّ ( ولاسيّما اللغويِّ منه على وجه الخصوص ) ، وبعثِ ذلك التراث ، وتقديمِ نصٍّ علميٍّ عربيٍّ يقوم على أساسِ الحقيقة العلميَّةِ التي تجمع مابين ذلك التراث وتلك الحداثة العلميّة الراهنة .