23 ديسمبر، 2024 11:01 م

اللاهثون نحو الفتنة

اللاهثون نحو الفتنة

قد لا يكون أمرا جديداً إن قلت إنّ الأوطان تحيــا وتتطور بأصوات مثقفيها , والمثقف من الناس ليس ذاك الرجل الذي يرتدي بذلة رسمية أينما حلّ وإرتحل , ولا هي تلك المرأة التي تختار ثيابها وماكياجها بدقة وعناية قبل أن تخرج الى الشارع , مطلقا , ليس ذلك هو ما يميز الإنسان المثقف في وطن ما عن باقي أفراد الشعب .
ولا يخفى ان كل البلدان في العالم لا تخلو من الأفراد الجهلة والمجرمين والسيئين الى أبعد الحدود والذين يعيثون فسادا في انفسهم أولا وعوائلهم ثانيا وأفراد الشعب ثالثا بمخالطتهم لهم . ولكن النخبة المثقفة في تلك البلدان تطغى على اولئك الشواذ فارضة احترامها , و مبدية اراء فذة في سبيل بناء الدولة وحل مشاكل الشعب  .
اذا فالانسان المثقف يتواجد جنبا الى جنب مع الانسان الجاهل ليشكلوا كتلة مترابطة مكونين بذلك شعوب العالم واحدها الشعب العراقي .
فإذا ما حاولنا تركيز اهتمامنا في الانسان المثقف , فإن أول عالم حر يمكن فيه عزل الانسان المثقف عن الجاهل هو عالم الصحافة , والذي يطلق عليه ايضا تسمية ” السلطة الرابعة ” , لما لها من دور فعّال وبارز في نقد الدول والحكومات ورصد الحالات والمواقف السيئة والايجابية لها ونقدها و إقتراح الحلول والطرق السليمة للخروج من الأزمات – ويا مكثرها – .
وعالم الصحافة هذا ليس متاحا لكل من هبّ ودبّ للدخول فيه , على عكس الحكومات المنتخبة من قبل الشعوب لانها خاضعة لاختيارات المثقف والجاهل لذلك ترى بعض المكونات الحكومية المنتخبة لا تملك من الثقافة إلا النزر اليسير  , و اعتقد ان هذا هو سبب تنكرهم لشعبهم وللناس الذين ادلوا باصواتهم في صالحهم .
أمّا الصحافة فعالم اخر , شبه مغلق , إلّا على اللذين يملكون الكلمة القوية والقلم الصادق , اللذين لا يخشون قول الحقيقة ولو على أنفسهم , لا تتلاعب الدولارات بعقولهم , ولا تغير الدنانير أفكارهم .
أولئك اللذين يتسلحون بالقلم للذود عن أوطانهم وعن شعوبهم , وإذا ما ارادوا نقد حكوماتهم , يكون نقدهم بنّاء ومدروساً ومستندا الى وثائق وكتب ورسائل حقيقية , حتى اذا ما إنبرى لهم ضال ما يريد تكذيبهم أو تفنيد مقالاتهم , دحروه بما بين أيديهم من إثباتات .
والمتتبع لعالم الصحافة في العراق يجد زيادة مطّردة في عدد الكتاب نتيجة للتطور الحاصل وزيادة عدد الصحف والمجلات وكذلك ظهور الصحافة الالكترونية متمثلة بمواقع الانترنت , وذلك مما يدعو الى الغبطة والسرور لان المعادلة تنص على ان زيادة عدد كتاب الصحافة تعني زيادة عدد المثقفين في البلد وبالتالي تنوع الافكار والاراء مما يؤدي الى فتح باب النقاش ” المثقف لا الهمجي ”  ومحاولة إيجاد حلول سريعة وبسيطة لمشاكل البلد – التي لا تنتهي – .
ولكن الذي لا يسر في ذات الوقت هو إن هذا العالم  – عالم الطبقة الراقية المثقفة – بدأ يفقد الإحترام الداخلي في ثناياه , فتجد السباب والشتائم تتبادل بين ” المثقفين !! ” وذلك لان كاتب ما فتح الباب لموضوع لم يعجب الاخرين – مهما كانت صلاحية ذلك الموضوع – فيبدأ الطرفين بتراشق عبارات السب فيما بينهم . وأنا أعتقد اننا لكي نقدم المساعدة للأعمى لعبور شارع ما , يجب علينا اولا ان نمسك بيده وأن نلقنه الاتجاهات التي نسير بها , لا أن ننهره لكونه أعمى أو نجره بسرعة فيسقط أرضا . أما في حالة كوننا غير مستعدين لتقديم العون له فإن أفضل ما نقوم به هو تركه في مكانه والإنصراف عنه حتى يهيأ الله له بديلا عنا يقوم بمساعدته وايصاله الى بر الأمان .
هذا من جهة , ومن جهة أخرى نجد إن بعض المنتمين الى عالم الصحافة لم ينتموا اليه نتيجة لحب الوطن والشعب , ولا لاجل تحديد نقاط الضعف في الدولة بكل مصداقية , بل كان إنتمائهم لأسباب أخرى منها :
– إنهم يملكون كمّاً لا بأس به من الكلمات في رؤوسهم , يقومون بإخراجها دوريا لكي لا تسبب لأدمغتهم بالإنفجار .
– أن أحزابا أو كتلا أو أفرادا عرضوا عليهم عروضا معينة مقابل أن ” يصبغوا ” واجهاتهم المتهالكة .
– أن الضمائر التي تعيش في أعماقهم إنتهى مفعولها – أكسباير – لذا تراهم لا همّ لهم إلا القذف والشتم وإبداء العيوب .
– إن حياتهم سلبية – مائة في المائة – لذا تجدهم لا يستطيعون الكتابة بأي أمور إيجابية لأن من شبّ على شئ شاب عليه .
والقائمة تطول …. ولكنها مفتوحة لمن يود الإضافة …

لذا نجد أن فلانا من الكتاب ينقطع عن الكتابة لمدة قد تتجاوز الشهر ولا يظهر الا بظهور انتكاسة ما أو حالة سلبية , هؤلاء يمكن أن نطلق عليهم ” كتاب الإنتكاسة ” .
ونجد أخر يكتب مقالتين أو أكثر في الموضوع ذاته فكأنه قام بتقسيم مقالته الى نصفين , واثر نشر كل نصف على حدة , وهم ” كتاب نص ونص ” .

ولكن ……

كل ذلك يهون أمام صنف اخر من الكتاب والذي يختار الكتابة في مواضيع بعيدة عن مشاكل الواقع , حيث نراه في الوقت الذي ينشغل فيه الكتاب في الوقوف الى صف الحكومة نتيجة اقرارها لقانون ما , واخرين يقفون موقف المعارض للحكومة ولذلك القانون , نرى هذا الصنف الشاذ من الكتاب يعوم في بحر من المواضيع البعيدة كل البعد عما يجول في أروقة الصحافة , فنراه يتحدث بصورة طائفية واضحة ساخرا من شخصيات تاريخية او دينية او مشككا في موقف تاريخي معين , طاعنا في شجاعة الشجعان , او مكذبا الصادقين والصديقين , أو متفها لمواقف هزت العالم منذ مئات السنين .

  إن هؤلاء الكتاب لا يمكن ان يحسبوا ضمن دائرة الصحافة , وبالتالي فإنه لا ينتمي الى العناصر المثقفة في المجتمع , لانه وكما اسلفنا , أن المثقف من أراد الخير لوطنه لا الشر , المثقف هو من علا صوته في سبيل رفع الحواجز بين أبناء الشعب لا إشاعة الفتن .

والحقيقة أن ذلك ليس ما يزعجني في الأمر , لان الشخصية التاريخية الفذة لا يمكن ان تهتز مكانتها بكلمة أو كلمتين من شخصية أخرى لا تعرفها الا عوائلها – إن كانت تعرفها فعلا – .
ولكن الذي يؤلمني هو ان بعض المثقفين ينبرون لاولئك ظنا منهم أنهم سيضعوهم على أعتاب الطريق الصحيح , وأجرهم على رب العباد .

إن من يريد البحث عن الحقيقة وإثبات خطأ ما يجب عليه أن يبحث ويدقق البحث في الكتب التي لا عدد لها ولا احصاء , أن يقرأ قبل أن يطرح الاسئلة – لأن أسئلة الجاهل تكون غبية عادة – , أن يصفي عقله وقلبه من الكره والحقد والضغينة ضد الطوائف المتعددة . فاننا الان بحاجة الى التكاتف سوية في سبيل تحقيق امالنا في الارتقاء عاليا بهذا البلد و شعبه , لا ان نبحث عمّا يفرق بيننا ويزرع الفتنة وينمّي الحقد في نفوسنا تجاه الاخرين .

يا سادتي الكرام , أن أمثال هؤلاء الكتاب لا يجب الرد عليهم , لأننا بذلك نهبهم مطالبهم , فقط أتركوهم يلهثون مصداقا لقوله تعالى  ( إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) .

ودعونا نشبك أيادينا في دائرة مغلقة , تاركيهم يصرخون لوحدهم خارج دائرتنا كالمجانين , فلا نستمع اليهم ولا نحاورهم , ولله درّ القائل :

لــو أنّ كلّ كلب عوى ألقمته حجــراً          لكان مثقال الحجارة بالذهب