تشكل عملية الوصول إلى صنع حياة نابضة عكس ما تتطلبه الحياة الناضبة مهما بلغت معدلات التشابه اللفظي بينهما، حيث تفرقهما فداحة الواقع وما يفزه من هوة بين الحالين حيث تتسم إحدى الحياتين بتزييف الواقع ومحاولة القفز عليه فيما تستند الأخرى على العمل المضني الذي يحول الرؤية المثالية إلى واقع عملي يلمسه المراقب دون الحاجة إلى ادعاءات المظاهر وإعلاناتها البراقة للتغطية على معطيات الواقع وتجاهله .
إن مفهوم الضياع أو اللامعيارية الذي طرحه دركهايم والذي يتضمن شعور المرء بالضغط وانعدام الهدف نتيجة عمليات التغيير ينطوي على جانب كبير من الخطورة التي تهدد مستقبل العلاقة ما بين السلطة الحاكمة والمواطن نتيجة شعور الأخير بإحساس مزدوج ما بين الوقوع تحت طائلة الظلم وما بين اللاجدوى من إمكانية حصول تغيير حقيقي يلمس آثاره في حياته اليومية، وبذلك يتحول بشكل تدريجي إلى معاداة الواقع الجديد حين يصل إلى القناعة بأن لا فارق كبير ما بين الوجوه والأقنعة التي بدأت تأخذ ذات الملامح وإنما يعبر عن التغيير حين يتم ترجمة الكلام إلى أفعال وتتحول الوعود إلى انجازات، ومن هنا تنطلق مرحلة جديدة من تكرار المواجهة مع التغيير الانتقائي الذي أنصف الجهة صاحبة مشروع التغيير وأبقى شرائح أكثر عدداً وحضوراً تحت طائلة الإهمال، بل والأكثر من ذلك أن حالة الفساد التي بثت سمومها في جسد الدولة والمجتمع على حد سواء كانت تمارس من قبل المتصدين للسلطة ” في معظمها ” حتى أصبحت ما تسمى بجرائم ” الباقات البيض ” بما فيها من جرائم السرقة والابتزاز والرشوة والتهرب من الضريبة واستغلال النفوذ والمنصب وما إلى ذلك يحدث معظمها في أوساط الفئات التي تتمتع بالنفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتؤشر بذلك الوصول عملياً إلى مرحلة في غاية الحساسية والخطورة تتطلب مواجهة حازمة واتخاذ قرارات رادعة بأثر رجعي لإعادة الثقة بعدم إمكانية الإفلات من العقوبة حتى وإن تأخرت بفعل ما يرافق عمليات التغيير من التداعيات.
وهكذا فأن شوطاً من الكدح المضني ينتظر مسيرة التغيير التي ابتدأت وتشكلت ملامح مستقبل واعد مفتوح على جميع الاحتمالات حيث يكون بالإمكان أن يتوجه إلى صناعة مستقبل معقول للبلد بذات المستوى الذي يمكن أن لا تسير فيه الأمور إلى عواقب غير محمودة، وهذه الفداحة الاحتمالية لرسم خارطة المستقبل لا يمكن تركها رهينة بمنظومة الاحتمالات السائبة وصدفة تشكلها بل على العكس تماماً يجب إخضاعها لصرامة المعايير ودقة الحساب وإعلان المراجعة المستدامة منهجاً وإعطاء القضاء المساحة الأوسع في الفصل في القضايا المختلفة وعدم التدخل في شؤونه، وهذا الأمر يحتاج إلى عدة عوامل منها ما هو متوفر إلى حد كبير مثل كفاءة القضاة ونزاهتهم ونزاهة الجانب التنفيذي الذي يطبق بصورة حرفية قرارات القضاء دون تمييز، ومنها ايضاً ما يتعلق بالبنى التحتية للمؤسسات العدلية من المحاكم ودوائر الكتاب العدول مروراً بتطوير وتأهيل الكفاءات والمعدات وليس انتهاءً بتطبيق المعايير الدولية للسجون والمعتقلات والتسفيرات، وهذه جميعاً توفر ما هو أهم من ذلك جميعاً وهو ثقة المواطن البريء إنه لن يتعرض للظلم وانه في مأمن طالما كان بعيداً عن ارتكاب الجرائم والجنح والمخالفات وهذه هي الفلسفة الحقيقية للعدل الذي يعبر عنه بأنه أساس الملك ولا تتوقف عجلات العدل عند حدود الدوائر العدلية بل أنها على العكس تماماً تبتدئ من تلك المنطقة حيث إن جميع شرائح المجتمع وفعالياته مرتبطة بشكل أو بآخر بقرارات وزارة العدل والدوائر المرتبطة بها، قدر ما يتعلق الأمر بملفات الإرهاب وإزهاق أرواح الأبرياء والجراحات والعوق نزولاً إلى فقدان المأوى ومحل العيش ومصدره إلى الأضرار النفسية والآثار المدمرة للأعمال العدوانية وما يترتب عليها من تداعيات فيما يبقى الملف الأكثر حساسية وإهمالا هو الفساد الذي تكاد تجمع الآراء على انه لا يقل فتكاً عن الإرهاب.
ومع ذلك فأن شكلاً غريباً من التواطؤات المتبادلة ما بين الكثير من القوى الفاعلة يعمل على تعطيل عمل الأجهزة الرقابية التي تمكنت من رصد الخروقات الكارثية ووضعت أصبع الأدلة على جراحات الفساد بيد أن اصابع أخرى تمكنت إلى الآن من احتواء التحقيقات وحماية الكثير من المفسدين وقد يكون لطبيعة الاصطفافات الدور الأكبر في لجوء القوى السياسية مثل هذه التخندقات، غير إن ما يبعث على الأمل أن الأزمات الكبرى ” والضربات التي لم تقصم ظهر العملية ساهمت في تقويتها ” على حد تعبير الثائر الخالد عمر المختار جعلتنا نجد شكلاً جديداً من الاصطفافات الوطنية قلب الطاولة بوجه المحاصصة وان القوى الوطنية تمكنت من كسر الأطواق الطائفية والحزبية والمذهبية مشكلة خطوطاً وطنية متـــوازية ترفع الهم تقف وراء إذكاء نيران الطائفية تعينها أجندات خارجية تعمل على أن لا يأخذ العراق دورة الريادي في مختلف المجالات التي تم إشغالها في غفلة من العراق الذي كان مشغولاً بترميم بيته الداخلي وإغلاق أبواب الفتن التي لم تترك مكاناً الا وأدخلت نيرانها إليه.
ولكن ما كان كان وعراق 2012 هو مختلف تماماً عن عراق 2006 وبدأ صاحب الرصيد الحقيقي يستثمر أمواله في بنوك اختصاصاته ولا يصح الا الصحيح، وهنا تتطلب المرحلة المقبلة العض على الجراحات وإفساح المجال للقوى الشعبية الأكثر تأثيراً في العملية الديمقراطية لكي تأخذ دورها في الثواب والعقاب فالمواقف أوضحت الخيط الأبيض من الخيط الأسود من العدل الذي قد يغيب زمناً إلا انه لن يموت، وبذلك فأن الانتخابات القادمة سواء أكانت مبكرة أو في وقتها فأنها دقت جرس الإنذار لكل المتلاعبين بالأرواح والمواقف والأموال.
إن لحظة الحساب آتية لا ريب فيها وقد خاب من افترى وحينها فقط سيحقق العدل مبدأ الحراك إلى أعلى .