في السنوات التي تلت الاجتياح الامريكي للعراق، اجبر اربعة ملايين عراقي على الفرار من منازلهم، في ما اصبح يعرف بأحد اكبر حالات انتقال الناس في العصر الحديث خارج اوطانهم… وعلى الرغم من التقارير الاعلامية حول تحسن الوضع الامني في العراق، فان اغلب اللاجئيين العراقيين ما زالوا غير مستعدين للعودة الى ديارهم. وثمة تبعات اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية هائلة لهذه التحركات السكانية.
وفي هذا الكتاب المفصل، يتحرى المؤلف النزعات الكامنة لتدفق اللاجئيين العراقيين. فأي طبقات، واي جماعات اثنية وطائفية غادرت وما زالت تغادر، والى اين، وكيف؟
يتفحص الكاتب استناداً الى ابحاث واسعة وجديدة اجراها، التأثير الاقتصادي لهذا الخروج على العراق نفسه، وعلى البلدان المضيفة في المنطقة، وهي الاردن وسورية ولبنان. كما يحلل السياسات الدولية بشأن قضية اللاجئيين، ويقيّم الخيارات المتاحة للعودة، واعادة التوطين.
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، يهتم بالعراقيين الذين فروا الى خارج البلاد، اكثر مما يهتم بالذين تم تهجيرهم داخلياً. الا ان التهجير الداخلي والخارجي يتداخلان ويتشابكان باشكال عدة، فالامر الذي دفع بالناس الى الفرار من منازلهم، سواء الى مكان آخر داخل العراق او عبور الحدود الى دولة اخرى، هو العنف ذاته، والوضع الاقتصادي ذاته.
المؤلف يوسف ساسون، يهودي عراقي، ولد في بغداد، غادرها مع اسرته فاراً من العراق في بدايات عقد السبعينات من القرن الماضي، تاركاً مع عائلته خلفهم كل شيء. وان متابعته لاخبار معاناة الالاف من اللاجئيين العراقيين، أثارت اهتمامه لاجراء بحث في هذا الموضوع، حيث كانت المشاعر التي تنشأ عن اجتثاث المرء من وطنه والعيش في المنفى في وطن جديد، والحاجة الى التكيف مع بيئة جديدة، وذكريات الماضي…. جميعها معروفة جيداً بالنسبة له، فان عدم قدرة العالم على فهم عمق تعاسة جميع اللاجئيين وليس فقط العراقيين منهم، هي واقع لا يمكن التملص منه.
ساسون، نال درجة الدكتوراه من كلية سانت انتوني بجامعة اكسفورد، وهو زميل متقدم فيها، ومحاضر غير متفرغ بجامعة جورج تاون، وباحث في السياسة العامة في مركز وودرو ويلسون بواشنطن العاصمة. نشر ابحاثاً كثيرة حول الاقتصاد العراقي، وحول منطقة الشرق الاوسط.
ساسون في كتابه، تناول، على نحو مقنع، الحاجة الملحة للتصدي للبلاء الذي يعاني منه اللاجئون العراقيون، وذلك لاسباب انسانية وسياسية، ويوفر كتابه لبنة بناء صلبة واساسية للدراسات الاكاديمية المستقبلية، وادارة مهمة لصانعي السياسات في الوقت الراهن.
تبدأ هذه الدراسة من البحث في التهجير الداخلي بغية وضع الهجرة الخارجية في سياقها، ومن ثم درست اوضاع اللاجئيين العراقيين الذين غادروا بلدهم بعد حرب عام 2003، في مختلف الدول التي تستضيفهم – اي الاردن وسوريا ومصر ولبنان والسويد- مع القاء نظرة سريعة على اوضاعهم في دول اخرى. والقت الدراسة نظرة فاحصة على حالة هؤلاء اللاجئيين والظروف التي المت بهم واحوالهم الاقتصادية وشبكاتهم الاجتماعية. وعلى امتداد الفصول، عاينت الدراسة مضاعفات حياة المنفى على النساء والاطفال والتعليم والصحة والتأثير الاقتصادي للعراقيين على الدول التي تستضيفهم. وقامت الدراسة بتحليل ردود افعال الحكومة العراقية وحكومات الدول المجاورة. كما تعرضت بالنقاش لدور المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية في مساعدة اللاجئيين.
وقيمت الدراسة الاقتصاد العراقي في ضوء نزوح العقول الذي حدث، وتحليل الفساد في العراق للخروج بفهم للكيفية التي يعمل بها النظام الحالي في وسط العراق وشماله، وفي النهاية تطرقت الدراسة الى مسألة العودة والاحتمالات المنظورة امام اللاجئيين عند عودتهم من المنفى.
لقد سعى الاحتلال الامريكي للعراق الى الاطاحة بنظام صدام حسين واقامة نظام ديمقراطي كما زعم. في حين نجح الاحتلال في الهدف الاول، الا ان الاجتياح قاد الى قرار الطبقة الوسطى العلمانية والمتعلمة والتي تنزع ان تكون حجر الاساس للانظمة الديمقراطية.
لقد ارادت الولايات المتحدة اقامة اقتصاد قائم على حرية السوق ولكنها انتهت بمغادرة مئات اصحاب الاعمال واصحاب المشاريع البلاد، مصطحبين معهم اموالهم ومعارفهم. كما اراد الامريكيون اقامة مجتمع تعددي متعدد الطوائف ولكن كانت النتيجة ان الاقليات التي عاشت وازدهرت في العراق منذ قرون وجدت نفسها هدفاً رئيسياً للجماعات الدينية والمليشيات المرتبطة بها وبالتالي اجبرت نسبة كبيرة منهم على مغادرة البلاد.
كما طمح الامريكيون لجعل العراق مثالاً للتحديث امام سائر العالم العربي ولكن ما حدث اعاد العراق الى الوراء مسافة بعيدة. وقد حاجج البعض بان الاحتلال الامريكي كان اكثر كارثية من تخريب المغول لبغداد، كما تراجع العراق تراجعاً هائلاً وعلى عدة مستويات: التعليم والصحة ووضع النساء والاطفال… والحكومة غير قادرة على اداء وظائفها ويشلها نقص الكفاءات البيروقراطية، كما اصبح الفساد جزءاً اصيلاً من الآلة الحكومية.
لم تكن ازمة اللاجئيين العراقيين والاشخاص المشردين داخلياً مفاجئة، فقد حذرت الوكالات الانسانية وبعض وسائل الاعلام قبل اشهر من بدء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة من حدوث تهجير كبير في صفوف سكان العراق ومن ازمة انسانية ستنفجر مباشرة جراء الحرب او نتيجة لصراع عرقي، وكلا الامرين من شأنه ان يفضي الى اساءات واسعة النطاق لحقوق الانسان… وللأسف لم تلتفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الى هذه التحذيرات. ونتيجة لذلك، تم تشريد (2.7) مليون شخص داخل العراق، وغادر اكثر من مليوني شخص بحثاً عن ملاذ آمن.
يعتبر المهجرون العراقيون وعددهم خمس مليون، اكبر الجماعات المهجرة داخلياً على مستوى العالم. وثالث اكبر تعداد للاجئين في العالم بعد الافغان والفلسطينيين، ويعني ذلك ان اكثر من 15% من سكان العراق قد شردوا، اي بنسبة مهجر واحد من كل ستة اشخاص.
لقد حدث تحول في المجتمع العراقي جراء العنف وتفشي الانعدام الشديد للثقة بين السكان، اما الروابط التي كانت اصلاً هشة والتي كانت تبقي على المجتمع موحداً، فقد بدأت بالتفكك مع انفجار العنف الطائفي، كانت نتيجة هذا التشظي في الدولة والمجتمع، انتقال السلطة الى القوى المحلية والميليشيات وترسيخ الهويات الطائفية. لقد ملأت الميليشيات المسلحة الفراغ الحاصل في المساعدات الانسانية لافتقار الحكومة الوطنية للمهارات والموارد اللازمة لرعاية سكانها المهجرين داخلياً وخارجياً.
لقد ادى الخلل في اداء وظائف الدولة مصحوباً بسقوط العراق في اتون حرب اهلية لمدة (18) شهراً تقريباً من شباط/ 2006 ولغاية صيف عام 2007، الى احداث اكبر نزوح للسكان عرفه الشرق الاوسط منذ عام 1948 وعمل العنف الذي عم العراق على اشعال فتيل الهجرة الداخلية والخارجية لمئات الالاف….
ان ما يجعل من ازمة اللاجئيين العراقيين فريدة من نوعها، هو ان الكثير من منهم كانوا من الطبقة المتوسطة المتعلمة من ابناء المدن الذين فروا من مناطق المدن الكبيرة، مما جعل من عملية قيام الوكالات الانسانية بتقديم الخدمات الصحية والتحقق من دقة المعلومات من جماعات غير مرئية من المهاجرين، امراً في غاية الصعوبة.
لقد كان ميسوروا الحال والمتعلمون من بين اوائل المغادرين، ثم تلاهم ابناء الطبقة الوسطى. اما السكان الفقراء والمستضعفون فقد مكثوا حيث هم لانهم لا يمتلكون الموارد التي تمكنهم من المغادرة، وكانت اغلبية اللاجئيين الاوائل من الطائفة السنية ومن الاقليات غير المسلمة. ولكن مع انتشار العنف في ارجاء البلاد كافة لم يكن امام اعداد كبيرة من الشيعة من خيار سوى الرحيل. وبحلول عام 2006 اشتملت حركة اللاجئيين على سائر الاديان والطوائف.
وعلى الرغم من ذلك، الا ان شيئاً من هذا العنف لم يكن ليهيء العراقيين لكي يصبحوا لاجئيين. ولذلك كان صعباً على الكثير منهم التأقلم مع اوطانهم الجديدة.
ان العراقيين على وجه العموم يمقتون كلمة لاجئ، كونهم يرون فيها عبارة تشير الى الفشل والحاجة الى الحصول على الدعم والمساعدة من الآخرين، كما انهم يربطون كلمة لاجئ بالفلسطينيين والافغان الذين يعيشون في مخيمات وهم يفضلون عبارة مغترب يعيش في المنفى.
لن تقتصر التأثيرات الخطيرة لتفرق سكان العراق على البلد فحسب بل امتدت الى المنطقة باسرها. لقد تعرضت علاقات العراق مع الدول المجاورة له ومع العالم العربي لتغيرات هائلة عقب الاحتلال، وما من شك ان ذلك سيترك اثراً كبيراً على موازين القوى في الشرق الاوسط لسنوات قادمة. اضافة الى ذلك سيكون للجوء مليوني عراقي الى بلدان مجاورة وتشكيلهم نحو (9%) من السكان في الاردن ونحو (7%) من السكان في سوريا، تأثير خطير على تلك البلدان وخاصة في اوقات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
ان مجرد وجود هذه الاعداد من اللاجئيين في الاردن وسوريا قد يؤثر على الوضع الجيوسياسي في منطقة الشرق الاوسط التي ابتليت اصلاً بالخلافات والشقاقات. وبصورة عامة فان جميع الدول المضيفة يساورها قلق شديد بشأن الاستقطاب الطائفي في العراق وتأثيرات انتقال العدوى المحتمل اليها. وتشعر هذه الدول بالتوتر من وجود كل هؤلاء العراقيين لديها، وتخشى من انهم قد يحدثون فوضى في نسيجها الاجتماعي، كما تشعر بالقلق الشديد من ان هؤلاء اللاجئيين لن يعودوا ابداً الى العراق كون الكثير منهم فقدوا منازلهم واعمالهم.
لقد ادى تشريد العراقيين الى تصعيد التوترات السنية الشيعية، وما من شك من ان ذلك التوتر اطلق اجراس الانذار في الدول العربية كافة، فكيف سيؤثر ذلك على المنطقة في المستقبل؟ ومن جديد يعتمد الجواب عن هذا السؤال الى حد بعيد على التطورات في المنطقة، وبصورة خاصة فيما يتعلق بايران والتعايش بين السنة والشيعة في عراق موحد.
الكتاب بمجمله تناول بالمعاينة والبحث الاوضاع في العراق منذ اجتياحه في عام 2003، فهو يبحث في مسألة التهجير الداخلي وتأثيره على البلاد، مع دراسة العنف الذي حدث ونتائجه على النساء والاطفال، والصحة والتعليم. وقيمَّ اوضاع الاقليات، واستعرض ردود افعال الحكومة العراقية والسياسيين العراقيين ومدى استجابتهم لازمة اللاجئيين العراقيين في الخارج.
بحث الكتاب ايضاً تاريخ هؤلاء اللاجئيين في الاردن وسوريا وباقي دول العالم قبل حرب عام 2003 وبعدها. وتناول بالتحليل العوامل التي قادت اللاجئيين العراقيين لاختيار هذه البلدان مكاناً يلجأون اليه. حيث نظر الكتاب في سمات وخصائص اللاجئيين في محتلف مناطق تواجدهم، وتحرى وضعهم الاقتصادي وتأثيرهم على البلدان المضيفة.
ان الهدف من كتابة كتاب حول موضوع ذي هدف متحرك، هو اعطاء نظرة عامة بشأن قضايا هذه الازمة وتحليلاً لجوانبها المختلفة، وبالتالي لا يزعم هذا الكتاب بانه يتضمن آخر المستجدات، كما انه ينتهي في اواسط عام 2008، وقد حاول المؤلف في عدة مباحث من كتابه ان يعرض مقارنات من ازمات تشرد اخرى وحالات قليلة من الاطار النظري لبعض الاسئلة المطروحة.
لم يطرح الكتاب حلولاً لمشاكل اللاجئيين العراقيين الذين فروا من بلدهم بعد اجتياح عام 2003، انما الامل هو تسليط الضوء على الجوانب المختلفة من هذه المأساة كي تتمكن الحكومات في جميع انحاء العالم من تكثيف جهودها من اجل الحد من المعاناة الانسانية لملايين العراقيين.
ان الكتاب يأتي في الوقت الملائم ويستحق ان يقرأ على نطاق واسع، وهو مكتوب بوضوح ودون استخدام مصطلحات متخصصة مما يجعها سهلة القراءة لجمهور عريض.
* الكتاب: اللاجئون العراقيون…. الازمة الجديدة في الشرق الاوسط، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2011، 321 صفحة.