23 ديسمبر، 2024 2:17 م

اللاأدرية وايليا ابو ماضي وعبد الوهاب

اللاأدرية وايليا ابو ماضي وعبد الوهاب

(1)
انتشرت في الآونة الاخيرة، ظاهرة اللاأدرية، كردود افعال لما يجري اليوم من حولنا: من اطر وافكار مختلفة افرزها الواقع المؤلم الذي نعيشه الآن، خصوصا ونحن نعايش تسلط المتطرفين والمتزمتين والذين يرفعون مبدأ العنف شعارا لهم، علاوة على صعود نجم رجال الدين، وتوغلهم في القضايا السياسية والمجتمعية الراهنة، وايجاد لهم قواعد شعبية تسمع اقوالهم وفتاواهم، وآرائهم المختلفة.
ظهر وبشكل قوي، جنبا الى جنب مع ظاهرة الالحاد، والتي عمّت معظم الوطن العربي والمجتمع الاسلامي، وربما لها خطورتها على الواقع، كأن تتجه اتجاها يحرفها عن مسارها الطبيعي، كأن تصبح هي الاخرى عنفية، اذا ازداد مريدوها.
(2)
تعريف اللاأدرية
تطلق اللاأدرية على كلّ مذهب أو نظريّة أو تصوّر أو موقف ينكر كلياً أو جزئياً إمكان معرفة العالم معرفة حقيقيّة، أو قدرة العقل على البتّ في المسائل الماورائيّة مثل وجود الله ونهاية الكون وخلود الروح، وما شاكل ذلك من قضايا ميتافيزيقيا.
ويُعد العالم الإنكليزي توماس هكسلي (1825- 1895)أوّل من صاغ اصطلاحها، وكان قد قصرها على إنكار معرفة المطلق. وتمّ توظيف المصطلح “لا أدري” بكثافة خاصة في القرن التاسع عشر، حيث كان يطلق على كلّ فيلسوف ينكر المعرفة، أو يقرّ بوجود حقائق لا سبيل إلى معرفتها.
وفي اللاأدريّة، نجد من يقرّ بوجود حقائق يمتنع على الإنسان إدراكها ومعرفتها، ونجد أيضا من ينفي وجود هذه الحقائق مطلقا ومن ثمّ يقول باستحالة المعرفة منطقيّا.
وقد ظهرت النزعة اللاأدريّة مع بيرون (365 – 275 ق.م) مؤسّس المدرسة الشكّيّة الذي كان يؤمن بضرورة التوقّف عن إصدار الأحكام على الأشياء لعجز الإنسان عن معرفتها. ووجدت لها امتدادا مع السفسطائيّين الذين قالوا بالتوقّف في وجود كلّ شيء وعلمه.
واكتسبت اللاأدريّة شكلها التقليدي مع هيوم وكَانْط وكونت وسبنسر. فقد أكد هيوم أنّ الموضوع الوحيد الصالح للمعرفة هو الرياضيات. أما سائر المواضيع، فتتعلق بوقائع لا يمكن البرهنة عليها منطقياً.
(المصدر- مدكور، إبراهيم. (1983). المعجم الفلسفي. القاهرة: الهيئة العامّة لشؤون المطابع. ص 158
– سعيد، جلال الدين. (1994). معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة. تونس: دار الجنوب للنشر. ص ص 387-388).
وهذه المرحلة ايضا قد مر بها ابو حامد الغزالي، وربما كذلك ديكارت، صاحب مقولة: أنا افكر، واخيرا ايليا ابو ماضي، ومحمد عبد الوهاب المطرب.
(3)
ايليا ابو ماضي فهو الآخر بدوره، قد مر بهذه التجربة، فوظف مذهبه الشكي اللا أدري على شكل قصيدة اسماها “الطلاسم” اذ نرى ابو ماضي متحيرا من امره في مسألة الحياة والموت ونهاية الكون، كيف بدأت وكيف ستنتهي، لا يدري.
ننقل منها المقطع الاول، وقد نوهنا على هذه القصيدة في بحوث سابقة في (الله في فكر عمر الخيام).
يقول ابو ماضي:
جِئْتُ، لا أعلَمُ مِن أيْنَ، ولكنِّي أتَيْتُ
وَلَقَدْ أبصَرتُ قُدَّامي طَريقاً فَمَشَيْتُ
وسَأبقى مَاشِياً إن شِئتُ هذا أمْ أبَيْتُ
كيفَ جِئتُ؟ كيفَ أبصَرْتُ طريقي؟
لَستُ أدري!
*****
أجَديدٌ أم قَديمٌ أنا في هذا الوُجودْ
هَل أنا حُرٌّ طَليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هَل أنا قَائِدُ نَفسي في حَياتي أم مَقُودْ
أتمنَّى أنَّني أدري ولكنْ…
لَستُ أدري!
*******
وطَريقي، ما طَريقي؟ أطَويلٌ أم قصيرْ؟
هَلْ أنا أصعَدُ أمْ أهبِطُ فيهِ وأغُورْ
أأنا السَّائِرُ في الدَّربِ أم الدَّربُ يَسيرْ
أمْ كلانا واقِفٌ والدَّهرُ يجري؟
لَستُ أدري!
***********
لَيتَ شِعري وأنا عَالَمِ الغَيبِ الأمينْ
أتُراني كُنتُ أدري أنَّني فيهِ دَفينْ
وَبِأنِّي سَوفَ أبدو وبأنِّي سَأكونْ
أمْ تُراني كُنتُ لا أُدرِكُ شَيْئاً؟
لَستُ أدري!
*********
أتُراني قَبلَما أصبَحتُ إنساناً سَويِّا
أتُراني كُنتُ مَحواً أمْ تُراني كُنتُ شَيَّا
ألِهذا اللُّغز حَلٌّ أم سَيَبقى أبدِيَّا
لَستُ أدري… وَلِماذا لَستُ أدري؟
لَستُ أدري!
(4)
وهنا نعطي العذر لأبي ماضي، لأن عقله قاصر عن ادراك معنى الوجود، فثمة عقول كبيرة مرت بنفس ما مر به، وضاعت في متاهات السؤال والحيرة، فعاشت ومن ثم ماتت وهي لا تدري. والجدير بالذكر أن المطرب الكبير محمد عبد الوهاب، هو الآخر لا يدري، فقد لحن جزء من هذه الملحمة (الماضيّة) وغناها بصوته الرائع، فرحل عن الوجود وهو لا يدري.